حين تـنقلب سياسة الطبيعة على طبيعة السياسة

د. عبد الرحمن سعيد الزهراني، عالم أكلينيكي مشارك

أصبحت حياتنا اليومية مليئة بالأحداث السياسية المتلاحقةـ وأُقحم الجميع في شتى بقاع الأرض في السياسة بشكل أو بأخر. فدائرة التجاذبات السياسية تتسع تدريجياً على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. فهناك من يتلقى تلك الأحداث بعين الفاجعة، وبعض السياسيين يتلقاها بعين لامعة تبحث عن فرصة سياسية للتحقيق! ومما يجدر بنا كمسلمين هو عدم إغفال النظر إلى تلك الإحداث السياسية المتلاحقة من زاوية التدبر في خلق الله عز وجل عندما ينحرف الإنسان عن طريق الحق نتيجة الأخطاء الكثيرة والمتكررة، ونتيجة استمرار السياسيون في المناورات السياسية التي لا تتوقف مما يتسبب في اتساع دائرة الفتن والحروب التي طالت الجميع.

لقد خلق الله عز وجل الكون بدقة متناهية تجعل الإنسان يقف مندهشاً أمام الإبداع والمتانة في كل تفاصيل الكون ومخلوقاته، والنظرة الحقيقية لا توقفنا عند ظاهر الأشياء، بل تأخذنا بعمق من ظاهر مشهود إلى باطن محجوب. لقد أكتشف علماء الطبيعة الكثير من الأسرار الطبيعية التي خدمت البشرية في كل ميادين الحياة، هذه الأسرار جعلت بعض العلماء يقدرون خلق الخالق عز وجل ويرجعون إلى الحق نتيجة التجربة والواقع المحسوس حتى وإن اختلفت الأديان.  لقد اكتشف علماء الطبيعة والطب بان الاستخدام المفرط والعشوائي للمضادات الحيوية كوسيلة علاج لقتل الكائنات الحيه الدقيقة قد يولّد أنواع مقاومة من تلك الكائنات التي قد يصعب السيطرة عليها عند الاستمرار بنفس الإستراتيجية، وهذا شبيه بما يحدث على المستوى السياسي بأن الاستخدام المفرط والعشوائي للقوة العسكرية أو الأمنية في ظل غياب العدالة سيولّد نوعيات مقاومه من البشر يصعب السيطرة عليهم بالقوة.

لقد اكتشف علماء الطبيعة على مر العصور وجود الكثير من المخلوقات الحية الدقيقة في حياتنا اليومية والتي تحاول أن تعيش بسلام وأمن واستقرار غذائي تماماً كما يود البشر. ومن هذه المخلوقات يوجد كائنات حية دقيقة كالبكتيريا والفيروسات والتي تبحث عن الحياة والاستقرار ما أمكن لها ذلك، وعندما تسنح لها الفرصة تنافس هذه الكائنات الإنسان على غذاءه، فهي كائنات تبحث عن الحياة والتكاثر في أي مكان يؤمن لها الغذاء،  وتكاثرها قد يكون في جسم الإنسان أو بسبب إهمال البيئة المحيطة  وهو ما يجلب المرض.  هذه الكائنات الدقيقة لا تعرف أنها لو سببت المرض للإنسان سوف يقاومها باستخدام المضاد الحيوي أو نحوه من الأدوية لكي يتخلص منها حفاظاً على بقاءه !  وقد أكتشف العلماء أن بعض تلك الكائنات الدقيقة  قامت بتغيير أستراتيجيتها من أجل البقاء، حيث تقوم بتغيير تركيبها الجيني لكي لا تتضرر من المضاد الحيوي المستخدم ضدها سابقاً، وبالتالي تصبح مقاومه ولن يؤثر عليها ذلك المضاد الحيوي المستخدم سابقاً، حيث إن تصميم بعض أنواع المضادات الحيوية  يستهدف إعطاب خاصية حيوية معينة لتلك الكائنات الحيه لمنع تخلقها أو عرقلتها، ومن ثم لجأت بعض تلك الكائنات الدقيقة إلى المراوغة الطبيعية على الإنسان رغبة في الحياة، وتحولت بعضها إلى أنواع شديدة المقاومة للدواء. فأصبح الإنسان في معضلة صحية لبعض الأمراض نتيجة الإفراط والعشوائية في استخدام المضادات الحيوية لقتل تلك الكائنات الدقيقة دون تقدير أو معرفة العواقب، ومن ثم بداء الإنسان أيضاً يعيد النظر في طريقته في مقاومة تلك الكائنات الدقيقة  بأن أنتهج سياسة الطبيعة وبداء بالنظافة الطبيعية بهدف الوقاية من الأمراض،  وليست النظافة الشكلية، بل النظافة النزيهة الحقيقية وتوعية المجتمع بفوائد الوقاية والحد من البيئات الفقيرة  في المجتمع والتي قد تكون مرتعاً خصباً لتراكمات  تلك  الكائنات ، وأيضاً إعادة تنظيم إستراتيجية استخدام المضاد الحيوي كسلاح ضد تلك الكائنات الدقيقة ليضمن عدم إعطائها المجال لتتراكم أو تتحول إلى كائنات ضاره.

اكتشف الإنسان أن سياسة القوة باستخدام المضاد الحيوي ربما تكون لردع تلك الكائنات الدقيقة، ولكن الإفراط والتمادي  والعشوائية في الردع  ولّد أنواع عدائيه منها بدرجة عالية من المقاومة الطبيعية وعلية ستقوم تلك الكائنات باستنزافه مادياً ومعنوياً عندما يُصر على استخدام مبدأ الإفراط في القوة لقتلها، حيث أن إنتاج المضادات الحيوية  والأبحاث العلمية التابعة لها تستهلك الكثير من الوقت والمال. بالطبع هذا لا يعني أن مبدأ القوة غير صحيح، بل هناك احتياج إلى مبدأ الدفاع عند الهجوم كمقاومة المرض. ولكن الاستخدام العشوائي والمفرط للمضادات الحيوية وطموح الإنسان للهيمنة أو السيطرة على جميع الكائنات الدقيقة جعلها تتبنى أيضاً سياسة المراوغة للبقاء ورغبة في الحياة. لقد وثق التاريخ الصحي في الولايات المتحدة وأوروبا أحداث نشأة العديد من بكتيريا شديدة المقاومة نتيجة الإفراط في استخدام المضادات الحيوية. ولقد أستنفر النظام الصحي في أمريكا حينما وقعت حالات مرضية قاتلة في نيويورك وانتشرت في الثمانينات نتيجة لما ذكرت، إضافة إلى نشأة أو تولد تلك الكائنات المقاومة في البيئات الحاضنة لها كالسجون نتيجة التكدسات البشرية وإهمال المعايير الصحية. ومن ثم بدأ المشرعون الصحيون بتوخي الحذر في استخدام المضادات الحيوية، ومراجعتهم لسياساتهم الصحية تبعاً للمصلحة العامه ولتلافي  كسب أعداء من الكائنات الدقيقة التي قد تتحول وتكون أشد صلابة من  ذي قبل.

وما سبق توضيحه ينطبق أيضاً على الإنسان في مساعيه لاستخدام القوة المفرطة، حيث أن سياسة القطب الواحد وفرض الهيمنة في العالم سياسياً وبالقوة ودون عدالة سيكون مولداً للعديد من الأجناس البشرية المقاومة  والتي ستكون عنيفة ومقاومة لأي “مضاد حيوي” سواءً سياسياً أو عسكرياً أو أمنياً أو فكرياً. وسيكتشف صُنّاع القرارات السياسية أن سياستهم ربما كانت عكس الطبيعة التي خلقها الله عز وجل مما تسبب في  نشوء أناس مقاومين ذوي بأس في بيئات شديدة المقاومة، والتي ستجبر السياسيين لمراجعة سياساتهم والعودة إلى السياسة النزيهة (كالنظافة النزيهة) لكي يضمنوا بيئة طبيعية تكون جاذبة للعداله ومن ثم خالية من المقاومة، ويعيشون في مجتمعات آمنة تطبق المبادئ النزيهة وتحترم الآخرين.  هل سيتعلم صٌنّاع القرارات السياسية من الطبيعة التي خلقها الله عز وجل ؟ أتمنى ذلك !

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى