عندما يصبح الصحفي شيخًا.. ويصبح الرويبضة “مثقفًا”!
انتشرت موضة المدوّنات الجماعية وسهّلت إمكانية نشر المقالات على العديد من المواقع المشهورة، وصار لا يمرّ علينا أسبوع أو اثنان إلّا ونجد مقالاتٍ يكتبها مدونون وصحفيون وغيرهم تتحدث عن عظائم الأمور بصورة سطحية وبسيطة جدًا، هكذا مثلًا ببضع كلمات يحاول أن يقنعك أنّ الحجاب “مش فرض“، على مدار 1400 سنة ومع إجماع العلماء كبيرهم وصغيرهم على وجوب الحجاب المعروف، يخرج لك الصحفي الفلاني – الذي ربّما لا يصلي حتّى – ببساطة ليقول لك أنّ هؤلاء الفقهاء متشددون وأنّهم “بشر“، قد يصيبون ويخطئون، وبما أنّهم كذلك فما قالوه ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا، ويمكن – بل وغالبًا – أن يكون خاطئًا، وأنك لست مجبرًا على اتباع أحد في الإسلام – حتى لو كنتَ لا تعرف عنه شيئًا سوى اسمه –، فيمكنك ببساطة أن تعيش “حرًا” وتُعمل عقلك وتفكيرك، وحينها، وحينها فقط، ستصل إلى حقيقة الإسلام ولبّه الصافي، تلك الحقيقة، التي لا يمكن سوى لمولانا الوسطي الجميل علي الجفري وإخوانه – قدّس الله سرّهم – أن يخبروك عنها.
“لماذا لا تهنّئون النصارى بالكريسمس“.. “شيخنا المتكبّر الذي ينزعج إن ناداهم أحدهم دون ذكر ألقابه“.. “اسمحوا للنساء أن يفعلن ما يشئن“.. “من الذي قال أنّ الموسيقى حرام“.. “هذا المجتمع الشرقي المتخلف المليء بالجهل“.. هي عينات متعددة مما صرنا نراه اليوم من أنصاف المثقفين العرب، تلك الأصوات التي تراها تعلو كالإعصار في حال فكّر أحدهم بالتحدث عن الحكم الفقهي للموسيقى مثلًا، أو تجرّأ وذكر إجماع الأئمة على تحريمها، ولكنها تختفي تمامًا عندما يأتي مدون وصحفي مجهول ليحلّ الحرام ويحرّم الحلال عبر مقال أرسله بالبريد بحجة “إعمال العقل“، وكم من عقلٍ لم يقد صاحبه سوى للجنون.
الوضع لم يقف هنا بل تحوّل إلى “هيجان جماعي” على المستوى العربي، تريد أن يصفّق لك الناس؟ فقط اشتم شيوخ بول البعير المتشددين الذين لا يعرفون دينهم، وتحدث عن المرأة في الإسلام والموسيقى والحجاب وحكم الردّة والرجم وهل الإسلام دين حرب أم سلم وهل الجهاد من الإسلام ولا تنسى داعش وحينها – وحتّى لو كان كلّ طرحك مجرّد هراء– ، كلّ قليل دين وفاقده سيصفق لك: ما أروعك!
الدين والسياسة هي الخلطة الأكثر شعبية على المستوى العربي، أتفهم أن يسعى المدونون والصحفيون إلى كسب المشاهدات وجذب الزوّار بالعناوين الرنانة عن طريق هذه المواضيع فقط لكسب الشهرة، ولكن ما لا أفهمه هو تلك العقلية الفذّة التي تدعي إعمال العقل والبحث والقراءة، ثم ينتهي بها المطاف مع أحلام مستغانمي وقصة “حب الله لها” الذي جعل بقية الخلق يحبّونها.
هي تتهمنا بأننا “داعشيون” فقط لأننا مع رأي فقهي معيّن مدعوم بالأدلة، أمّا إذا سألتها بالأصل عن دراستها للشريعة وما هو المؤهل الذي يسمح لها أصلًا أن “تفتي” في هذا المجال لتأتينا بما يناقض ما سبق من أقوال الصحابة وعلماء الأمّة على مدار 1400 سنة، فلن تجيبك سوى بأنّها “قارئة نهمة تُعمِل عقلها” وأنّها تمتلك عضوية نشطة في منتدى فتكات.
هو لا يعنيه الأمر أصلًا، لا يصلي ويدخّن، شاهد فيديو واثنين و100 لعدنان إبراهيم على اليوتيوب وقرأ كتاب “الرد الفاصل لتنوير العقل الفاصل“، ثم جاء إلينا ليبهرنا أنّ التطور حقيقة علمية مذكورة في القرآن منذ 1400 سنة.
هي ستأتي لتحدثنا عن قواعد عمل المرأة في الإسلام، وأنّه يحق لها السفر أينما كان دون محرم، ويحقّ لها مصافحة الرجال ومزاحمتهم كذلك، طبعًا، هي لا تنسى أنّ الحجاب “مش فرض برضو“.
وكلاهما قرئا في أحد المنتديات موضوعًا عن صحيحيّ البخاري ومسلم وأنّه هناك العديد من الأحاديث “المكذوبة” فيهما، وأنّ هذين الكتابين ليسا مقدسين، والبخاري ومسلم أيضًا بشر، لا تنسى أنهم يصيبون ويخطئون، فذهبا أبعد من ذلك وألغيا السنّة بالكامل من دين الإسلام، وانطبق عليهم حديث نبيّنا: “لا أدري.. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه“. بل وقد اكتشفا – وحدهما فقط – مئات الأحاديث المكذوبة والموضوعة في صحيحيّ البخاري ومسلم، أحاديث لم يخطر على بال “علماء الأمة وفقهائها” طوال حياتهم أن تكون مكذوبة عن رسول الله.
وببساطة شديدة كذلك، أطلّ علينا ليحدثنا عن أكذوبة حكم الردّة في الإسلام وأنّها من اختراع الوهابية، وبعدها مرّ على حكم الرجم في الإسلام للمحصنة والعبدة وكيف أنّ القتل لا ينتصف ولذلك فإنّ هذا الحكم باطل، وبكل تأكيد لم ينسى المرور على أشياء أخرى كالموسيقى والحجاب وعدنان إبراهيم.. عدنان، “تلك الأحجية الفريدة التي ستظل لغزًا في حياتي”.. و”ذاك المصباح الذي أنار لي عقلي وجعلني أتخلص من فكر الشيوخ المتعصبين الذين يشربون بول البعير”.. وهكذا أصبحت قضايا الأمّة بل وحتّى دينها ملعب “مناطحة” بين الصغير والكبير، وبين الصحفيين وأنصاف من يدعون أنفسهم بـ”المثقفين”.
الجميع يخرس عندما يتعلق الأمر بالفلك والهندسة والعلوم والطبّ والتقنية.. تراهم آذانًا صاغرة عندما يصدر تقرير من الجامعة الفلانية عن تلك الأمور، ولكن عندما يصل الأمر إلى الدين، فعلى الجميع أن يشغّل عقله ويفسّر القرآن على هواه، عندما يصل الأمر إلى الدين، يتحوّل الجميع مفتيًا قادرًا على “التفكير” واستنتاج الأحكام الفقهية بنفسه دون الاعتماد على شيوخ القرون الأولى.
نعم سيداتي سادتي.. اليوم وبعد كلّ تلك الأجيال – التي توزن بالذهب – من علماء ومفسّرين ومجاهدين وأبطال، صار لكل صحفيٍ ومدون و“مثقف عربي” مزعوم دينٌ خاص به، ومذهبٌ وفكرٌ خصّه الله به وحده دونًا عن بقية أمّته، منهم من استحل معاونة الكفّار على مسلمين، ومنهم من استحل التدخين، ومنهم من حرّم التعدد، ومنهم من ألغى السنّة، ومنهم من تجرّا كذلك وادعى بأنّ بعض الآيات في القرآن الكريم غير صحيحة، وعندما تواجههم، يقولون إنك داعشي وهابي سلفي، ألّا طوبى للغرباء.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ: يَا رَسُولَ الله: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: المَرْؤُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ“.