ما هي خصائص التصور الإسلامي ومقوماته عند سيد قطب؟ الجزء الأول
تكمن أهمية إدراك خصائص التصور الإسلامي ومقوماته في حمل الإنسان على إيجاد تفسير شامل للوجود يترتب عليه معرفة حقيقة مركزه في هذا الوجود الكوني وغاية وجوده الإنساني فيتعرف على دوره في الكون وحدود اختصاصاته وحدود علاقته بخالقه خالق هذا الكون، ونتيجة لهذه المعرفة يحدد منهج حياته ونوع النظام الذي يحقق هذا المنهج والذي ينبثق عن التفسير الشامل الذي أدركه. وما التخبط والصدام والشقاء ومخالفة الفطرة التي نراها في أيامنا هذه إلا نتيجة لإخفاق الإنسان في إيجاد هذا النظام واستبداله بأنظمة مفتعلة مصطنعة لا تقدر على البقاء لعدم امتلاكها لمقومات البقاء. فهذا الدين والتصور المبني عليه جاء لينشئ أمة ذات طابع متميز ومتفرد لتقود البشرية وتحقق منهج الله في الأرض وتنقذ البشرية من القيادات الضالة والمناهج الضالة، وإدراك الفرد المسلم لطبيعة هذا التصور الإسلامي تؤهله ليكون عنصراً صالحاً في بناء هذه الأمة. إذ أننا لا نسعى بالتماس حقائق التصور الإسلامي إلى مجرد “المعرفة الباردة” ، التي تضاف في رصيد الثقافة بل نبتغى “الحركة” من وراء المعرفة . نبتغى أن تستحيل هذه المعرفة قوة دافعة، لتحقيق ذاتها على أرض الواقع. نبتغى استجاشة ضمير الإنسان لتحقيق غاية وجوده الإنساني، كما يرسمها هذا التصور الرباني، نبتغى أن ترجع البشرية إلى ربها، وإلى منهجه الذى أراده لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي بالفعل قد تحققت في فترة من فترات التاريخ، متبعة هذا التصور عندما استحال واقعاً على الأرض، وتمثل في أمة تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء تمثلت في جيل الصحابة الفريد الذي استمد التصور الإسلامي مباشرة من القرآن الكريم الدائم الثبوت، فقد تلقوه وقد فرغوا له قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل ، ليقوم تصورهم الجديد نظيفاً من كل رواسب الجاهليات ومستمدا من تعليم الله وحده ، لا من ظنون البشر، التي لا تغنى من الحق شيئاً.
خصائص التصور الإسلامي:
للتصور الإسلامي خصائصه المميزة والتي تنبثق كلها وترجع إلى خاصية واحدة هي خاصية الربانية “صبغة الله ومن أحسن الله صبغة؟” إنه تصور رباني، جاء من عند الله بكل خصائصه، وبكل مقوماته، وتلقاه الإنسان كاملا ليطبق مقتضياته في حياته وهو تصور غير متطور في ذاته، إنما تتطور البشرية في إطاره، وترتقى في إدراكه وفى الاستجابة له، لأن المصدر الذى أنشأ هذا التصور، هو نفسه المصدر الذى خلق الإنسان، فهو الخالق المدبر الذى يعلم طبيعة هذا الإنسان، وحاجات حياته المتطورة على مدى الزمان، وهو الذى جعل في هذا التصور من الخصائص ما يلبى هذه الحاجات المتطورة في داخل هذا الإطار، فالذي وضعه يرى بلا حدود من الزمان والمكان ويعلم بلا عوائق من الجهل والقصور ،ويختار بلا تأثر من الشهوات والانفعالات ومن ثم فهو شامل متوازن لا يقبل تنمية ولا تكميلاً.
الربانية:
يستطيع الإنسان أن يقول – وهو مطمئن – إن التصور الإسلامي هو التصور الاعتقادي الوحيد الباقي بأصله الرباني وحقيقته الربانية والذي لم يطاله التحريف الذي طال التصورات السماوية التي جاءت بها الديانات السماوية قبله، “إنا نحن نزلنا الذكر ، وإنا له لحافظون” وهذه الحقيقة المسلمة تجعل لهذا التصور قيمته الفريدة وتجعله مناط الثقة، فهو التصور المبرأ من النقص، والجهل والهوى ، ومن التحريف الذي طال الديانات السماوية لتوافق هوى الباباوات والقساوة، فنحمد الله أن حفظ لنا التصور الإسلامي الرباني ولم تقم عليه الكنيسة! لتدخل فيه من التحريفات ما يصد الناس عنه كتحريمهم العلم واستفرادهم وحدهم بتفسير الكتاب المقدس بما يناسب أهوائهم، وسيطرتهم على العقل البشري حتى صنعوا العداوة بين الدين والعقل البشري والعلم أدى ذلك الصدام إلى التيه والتخبط الذي طال الفكر الأوربي طوال القرون الوسطى وانتهى إلى عصور الحداثة والتي طالبت بفصل الدين عن الدولة حتى لا تسيطر الكنيسة بفكرها المستبد الفاسد مجدداً على عقول الناس بفهم الباباوات. أما التصور الإسلامي فيدع للعقل البشرى وللعلم البشرى ميدانه واسعا كاملاً ولا يقف دون العقل يصده عن البحث في الكون . بل هو يدعوه إلى هذا البحث ويدفعه إليه دفعاً ولا يقف دون العلم البشرى في المجال الكوني. فلندرك مقدار نعمة الله ومقدار رحمته في تفضله علينا بهذا التصور الرباني، وفى إبقائه وحفظه على أصله الرباني.
الثبات:
“فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم”
كما قلنا سابقاً بأن أهم خاصية من خصائص التصور الإسلامي هي الربانية، وبما أنه رباني صادر من الله فهو ليس نتاج فكر بشري، ولا بيئة معينة، ولا فترة زمنية خاصة، ولا عوامل أرضية على وجه العموم، إنما هو ذلك الهدي الموهوب للإنسان من خالق الإنسان، رحمة بالإنسان، فمن هذه الخاصية تنبثق خاصية أخرى، خاصية: “الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت”
فمقومات هذا التصور الأساسية لا تتغير ولا تتطور تبعاً لتغير ظواهر الحياة الواقعية، وأشكال الأوضاع العملية؛ فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع، يظل محكوماً بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور. ولكن هذا الثبات لا يقتضي تجميد حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضى السماح لها بالحركة – بل دفعها إلى الحركة – ولكن داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور وهذه السمة، “سمة الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت”. فالذرة ذات النواة الثابتة تدور حولها الإلكترونات في مدار ثابت حركة منتظمة، محكومة بنظام خاص، وكذلك إنسانية هذا الإنسان، والمستمدة من كونه مخلوقاً فيه نفخة من روح الله اكتسب بها إنسانيته المتميزة، إنسانية هذا الإنسان ثابتة، فرغم أنه يمر بأطوار جنينية شتى من النطفة إلى الشيخوخة ! ويمر بأطوار اجتماعية شتى، يرتقى فيها وينحط حسب اقترابه وابتعاده من مصدر إنسانيته، لكن هذه الأطوار وتلك لا تخرجه من حقيقة إنسانيته الثابتة. ونزعة هذا الإنسان إلى الحركة لتغيير الواقع وتطويره أيضاً حقيقة ثابتة منبثقة
أولاً: من الطبيعة الكونية العامة والممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون.
ومنبثقة ثانياً: من فطرة هذا الإنسان ليحقق وظيفته في خلافة الأرض، فهذه الخلافة تقتضى الحركة لتطوير الواقع وترقيته.
أما أشكال هذه الحركة فتتوزع وتتغير وتتطور. وهكذا تبدو سمة: “الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت” سمة عميقة في الصانعة الإلهية كلها، ومن ثم فهي بارزة عميقة في طبيعة التصور الإسلامي.
وقيمة وجود تصور ثابت للقيم، هي ضبط الحركة البشرية، والتطورات الحيوية، فلا تمضى شاردة على غير هدى – كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة – فانتهت إلى تلك النهاية البائسة، ذات البريق الخادع والألاء الكاذب، والذى يخفى في طياته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس. وقيمته كذلك هي وجود الميزان الثابت الذى يرجع إليه الإنسان بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجد في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات فيزنها بهذا الميزان الثابت، ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب، ومن ثم يظل دائما في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه الذى لا دليل فيه من نجم ثابت ولا من معالم هادية في الطريق! وقيمته هي وجود مقوم للفكر الإنساني مقوم منضبط بذاته. يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني، فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات؛ فإذا لم يكن المقوم الضابط ثابتا , فكيف ينضبط به شيء إطلاقا! إذ كيف تصبح عملية الضبط ممكنة وهى لا ترجع إلى ضابط ثابت يمسك بهذا الفكر الدوار؟ أو بهذا الواقع الدوار؟
والذي يحدث للبشرية المنكوبة عندما تفقد هذا الأصل الثابت فإنها تتخبط في تصوراتها وأنظمتها وأوضاعها تخبطاً منكراً شنيعاً وتقع في مستنقع الحيرة والضياع، فالنفس البشرية لا تستطيع أن تعيش وحدها شاذة عن نظام الكون كله، ولا تملك أن تسعد وهى هكذا شاردة تائهة ، لا تطمئن إلى دليل هاد، ولا تستقر على قرار. وحول هذه البشرية المنكودة زمرة من المستنفعين بهذه الحيرة الطاغية، وهذا الشرود القاتل، زمرة من المرابين، ومنتجي السينما، وصانعي الأزياء والصحفيين، والكتاب، يهتفون لها بالمزيد من الصرع والتخبط والدوار، كلما تعبت وكلت خطاها، وحَنت إلى المدار المنضبط والمحور الثابت، وحاولت العودة، زمرة تهتف لها: التطور، الانطلاق، التجديد، بلا ضوابط ولا حدود وتدفعها بكلتا يديها إلى المتاهة كلما قاربت من المثابة؛ باسم التطور، وباسم الانطلاق، وباسم التجديد. أما التطور المطلق فهو مجرد عملية تبرير لكل ما يراد عمله أولاً، وقبل كل شيء عملية تبرير لما تريده الدولة بالأفراد، بحيث لا يكون هناك حق ثابت يفئ إليه الجميع، ولا دستور ثابت يتحاكم إليه الجميع ! وفى نظير إطلاق يد الدولة تجاه الأفراد من كل قيد، تطلق الدولة شهوة الأفراد من كل قيد. ليجدوا في هذا الانطلاق “الحيواني” تعويضاً عن قيمهم المسلوبة، وحرياتهم المسلوبة، وحقوقهم المسلوبة !
أما من يعيش في ظل هذا التصور الثابت فتسود حياته الطمأنينة؛ الطمأنينة إلى ثبات الإطار الذى تتحرك فيه حياته، وثبات المحور الذى تدور حياته حوله. فيشعر أن حركته إلى الأمام، ثابتة الخطو، موصولة الخيط، ممتدة من الأمس إلى اليوم إلى الغد، نامية مطردة النمو، صاعدة في المرتقى المرسوم، بالتقدير الإلهي القويم.