ما هي خصائص التصور الإسلامي ومقوماته عند سيد قطب؟ الجزء الثاني

قرأنا في المقال السابق ” ما هي خصائص التصور الإسلامي ومقوماته عند سيد قطب؟ الجزء الأول ” عن خواص التصور الإسلامي والتي تعطي للإنسان تصور شاملاً لحياته يعرف من خلاله حقيقة مركزه وغايه وجوده وتنبثق من خلالها منهج الحياة الذي سيسير عليه الإنسان. وذكرنا أول خاصيتين وهما الربانية والثبات ونكمل في الخاصية الثالثة والرابعة من خصائص التصور الإسلامي وهما: الشمول والتوازن.

الشمول:

” وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ”، والخاصية الثالثة من خصائص التصور الإسلامي ” الشمول ” وهى كذلك ناشئة من طبيعة الخاصية الأولى: خاصية أنه رباني ، من صنع الله لا من صنع الإنسان، والشمول طابع الصنعة الإلهية الأصيل !فالإنسان محدود الكينونة من ناحية الزمان والمكان؛ إذ هو حادث في زمن، لا يوجد إلا في زمان واحد، ومتحيز كذلك في مكان، وهو أيضاً محدود الكينونة من ناحية العلم والتجربة والإدراك، يبدأ علمه بعد حدوثه، ويصل من العلم إلى ما يتناسب مع حدود كينونته في الزمان والمكان، وفوق أنه محدود الكينونة – بهذه الاعتبارات كلها –هو أيضاً محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته، فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله. الإنسان وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي أو منهج للحياة من ذات نفسه يجئ تفكيره جزئياً؛ يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر، ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره، وجميع مقوماته وأسبابه، وفوق ذلك كله ما يعتَور هذا التفكير من عوامل الضعف والهوى وهما سمتان إنسانيتان أصليتان فلا يمكن أبداً أن تدرك فكرة بشرية أو منهج بشري الشمول إطلاقا. و تتجلى الشمولية في رد كل شيء في هذا الكون إلى الله، وشمول إرادته وتدبيره وهيمنته وسلطانه لكل شيء، والنصوص القرآنية التي ترسم هذه الخاصية كثرة نورد منها:

” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ “، ” وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا”، ” وكُلُّ شَىءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ”، ” لَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى”، ” إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ”. وحتى الأحداث التي يبدو فيها سبب قريب ظاهر، يُعنى التصور الإسلامي بردها إلى إرادة الله من وراء الأسباب القريبة:
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُون(61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِين )73)
و قال أيضاً: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
ومن صور الشمول في التصور الإسلامي، ردّ أمر الكون كله إلى إرادة الله الواحدة الشاملة، إرادة تخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها، وكل أشواقها وحاجاتها، وتتوجه إليها بكل رجائها وخشيتها، وتتقي غضبها وترجو رضاها، جهة واحدة تملك كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء ومدبرة كل شيء، جهة واحدة يتلقى منها الإنسان تصوراته ومفاهيمه، وقيمه وموازينه، وشرائعه وقوانينه، ويجد عندها إجابة على كل سؤال وهو يواجه الكون والحياة.
ومن سعة شمول التصور الإسلامي فإنه يتناول بالتوجيه كل جوانب النشاط الإنساني، ففي الإسلام وحده يملك الإنسان أن يعيش لدنياه وهو يعيش لأخرته، وأن يعمل لله وهو يعمل لمعاشه، وأن يحقق كماله الإنساني الذى يطلبه الدين، في مزاولة نشاطه اليومي في خلافة الأرض، وفى تدبير أمر الرزق. ولا يتطلب منه هذا إلا أمراً واحداً: أن يخلص العبودية لله في الشعائر التعبدية وفى الحركة العملية على السواء. أن يتوجه إلى تلك الجهة الواحدة بكل حركة وكل خالجة وكل عمل وكل نية، وكل نشاط وكل اتجاه. مع التأكد من أنه لا يتجاوز دائرة الحلال الواسع والتي تشمل كل طيبات الحياة. فالله خلق الإنسان بكل طاقاته لتنشط كلها، وتعمل كلها، وتؤدى دورها، ومن خلال عمل هذه الطاقات مجتمعة، يحقق الإنسان غاية وجوده، في راحة ويسر، وفى طمأنينة وسلام، وفى حرية كاملة منشئوها العبودية لله وحده. وبهذه الخاصية صلح الإسلام أن يكون منهج حياة شاملا متكاملا، منهجاً يشمل الاعتقاد في الضمير، والتنظيم في الحياة – بدون تعارض بينهما – بل في ترابط وتداخل يعز فصله، لأنه حزمة واحدة في طبيعة هذا الدين، ولأن فصله هو تمزيق وإفساد لهذا الدين. وجاء تقسيم النشاط الإنساني إلى “عبادات” و “معاملات” عند التأليف في ماد ة الفقه – والذي كان المقصود به مجرد التقسيم الفني إلا أنه أنشأ فيما بعد آثار سيئة في التصور، تبعته آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا مسلمين إذا هم أدوا نشاط العبادات وفق أحكام الإسلام بينما هم يزاولون كل نشاط المعاملات وفق منهج آخر. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر ! هو الذى يشرع لهم في شئون الحياة ، ما لم يأذن به الله ! وهذا وهم كبير فالإسلام وحدة لا تنفصم، وكل من يفصمه إلى شطرين فإنما يخرج من هذه الوحدة. أو بتعبير آخر يخرج من هذا الدين.
وبعد فإن هذا الشمول فوق أنه مريح للفطرة البشرية، لأنه يواجهها بمثل طبيعتها الموحدة، ولا يكلفها ولا يمزقها، هو في الوقت ذاته يعصمها من الاتجاه لغير الله في أي شأن وفى أية لحظة، أو قبول أية سيطرة تستعلى عليها بغير سلطان الله، وفى حدود منهج الله وشريعته. في أي جانب من جوانب الحياة. فليس الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده في أمر “العبادات ” الفردية ولا في أمر الآخرة – وحدهما – بل الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده ، في الدنيا والآخرة، في السماوات والأرض، في عالم الغيب وعالم الشهادة، في العمل والصلاة، وفى كل نفس، وكل حركة، وكل خالجة، وكل خطوة، وكل اتجاه ” وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ”.

التوازن:

” مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ”. والخاصية الرابعة في هذا التصور هي:” التوازن” التوازن في مقوماته، والتوازن في إيحاءاته. وهى تتصل بخاصية ” الشمول” التي سبق الحديث عنها فهو تصور شامل، وهو شمول متوازن. وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، هذه الآفات التي لم يسلم منها أي تصور آخر سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية، بما أضافته إليها، أو نقصته منها، أو أولته تأويلاً خاطئاً، أضافته إلى صلب العقيدة ! ونذكر من أهم هذه الموازنات أبرزها:

1- التوازن بين الجانب الذى تتلقاه الكينونة الإنسانية لتدركه وتسلم به فقط والجانب الذى تتلقاه لتدركه، وتبحث حججه وبراهينه، وتحاول معرفة علله وتطبقه في حياتها الواقعية .والفطرة البشرية تستريح لهذا وذاك، فكلاهما يلبي فيها جانياً أصيلاً، فقد علم الله أن الإدراك البشرى لن يتسع لكل أسرار هذا الوجود، ولن يقوى على إدراكها كلها، فأودع فطرته الارتياح للمجهول، والارتياح للمعلوم سواء. فالعقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول، ليست عقيدة إذ لا يجد فيها الإنسان ما يلبى فطرته، وأشواقه الخفية إلى المجهول، والمستتر من وراء الحجب، كما أن العقيدة التي لا شيء فيها إلا المعميات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة! فالكينونة البشرية تحتوي على عنصر الوعى، والفكر الإنساني لابد أن يتلقى شيئا مفهوماً له، له فيه عمل، يملك أن يتدبره ويطبقه. وهكذا يلبي التصور الإسلامي للفطرة الإنسانية أشواقها بجمعه بين المعلوم والمجهول، والغيب الذي لا تدركه الأبصار والمكشوف الذي تجول فيه العقول وتتدبره القلوب وذلك كله في توازن دقيق.

2- التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية، فالمشيئة الإلهية طليقة، لا يرد عليها قيد مما يخطر على الفكر البشري، وهى تبدع كل شيء بمجرد توجهها إلى إبداعه؛ ” “كن فيكون”، ” قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ”، ” وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِي شَيْخًا ۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ”. هذه وغيرها الكثير أمثلة من القرآن على طلاقة المشيئة الإلهية وعدم تقيدها بما يخطر على الفكر البشري مما يعده قانوناً لازماً، وفى الوقت ذاته شاءت الإرادة الإلهية المدبرة، أن تتبدى للناس مشيئته في صورة سنن جارية، يملكون أن يرقبوها، ويدركوها، ويكيفوا حياتهم وفقها، ويتعاملون مع الكون على أساسها، على أن يبقى في تصورهم ومشاعرهم أن مشيئة الله مع هذا طليقة وأن الله يفعل ما يريد، ولو لم يكن جاريا على ماعتادوا هم أن يروا المشيئة متجلية فيه. وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، يقف الضمير البشرى على أرض ثابتة مستقرة موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته لا يستكثر عليها شيئا ولا ييأس أمام ضغط الواقع أبداً، ويتصور أن مشيئة الله محصورة فيه! وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمر رجاؤه. فهو يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها، لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج، فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداؤه واجبه في الحركة والسعي والعمل، طاعة لأمر الله.

3– والتوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة وهي القضية المثيرة للجدل في العالم كله والمعتقدات كلها: قضية ” القضاء والقدر”، يثبت الإسلام للمشيئة الإلهية الطلاقة والفاعلية التي لا فاعلية سواها، ولا معها، كما يجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها، وهو دور يعطيه مركزاً ممتازاً في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة. ويقرأ الإنسان في القرآن:  ” مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ”،” قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ”، ” أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ “. ويقرأ على الجانب الآخر:” إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”، ” بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ” ، ” وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ “، ويقرأ بعد هذا وذاك: “كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ” يقرأ الإنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلاثة، فيدرك منها سعة مفهوم “القدر” في التصور الإسلامي. إن قدر الله في الناس هو الذى يُنشئ ويَخلق كل ما ينشأ من الأحداث والأشياء والأحياء، وهو الذى يصرّف حياة الناس ويكيفها، ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثون فيها من تغيرات، فالأمران يجيئان مجتمعين لا تناقض بينهما. ومن ثم فطريق المسلم الواضح محدد مستقيم، طريقه أن ينهض بالتكاليف الواضحة، وأن يجتنب النواهي المحددة كما نُهي. وأن يشتغل بمعرفة ما أمر الله به، وما نهى عنه، ولا يبحث في شيء وراءهما من أمر الغيب المحجوب عن إدراكه المحدود .وما كان الله ليكلفه شيئا أو ينهاه عن شيء يعلم أن لا طاقة له به، أو أنه ممنوع بمانع قهري عن النهوض به أو مقاومته! “لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ “.

4– والتوازن يبن عبودية الإنسان المطلقة لله ومقام الإنسان الكريم في الكون: فالتصور الإسلامي لم يعمد إلى تأليه الإنسان أو تحقيره حد الزراية والإهانة، بل فصل فصلاً تاماً كاملاً بين حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية. وبين مقام الألوهية ومقام العبودية. وبين خصائص الألوهية وخصائص العبودية. بحيث لا تقوم شبهة أوغبش حول هذا الفصل الحاسم الجازم :فالله “ليس كمثله شيء” فلا يشاركه أحد في ماهية، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن فلا يشاركه أحد في وجود، وكل من عليها فان فلا يشاركه أحد في بقاء ولا سلطان ولا رزق ولا علم ولا مقام ولا تشريع، وكل ذلك من خصائص الألوهية، ولكن الإنسان بعبوديته لله، كريم على الله. فيه نفخة من روح الله. مكرم في الكون، حتى ليأمر الملائكة أن يسجدوا له سجود التكريم. ويكون الإنسان في أرفع مقاماته وفى خير حالاته، حين يحقق مقام العبودية لله، إذ أنه يكون في أقوم حالات فطرته وأصدق حالات وجوده؛ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقيام الناس هذا المقام هو الذى يعصمهم جميعا من عبودية العبيد للعبيد، ويحفظ لهم كرامتهم، فلا تنحني جباههم إلا لله، كما يعصمهم عن الاستكبار في الأرض بغير الحق، والعلو فيها والفساد، ويستجيش في قلوبهم التقوى للمولى الواحد، الذى يتساوى أمامه العبيد. ويرفض أن يدعى أحد العبيد لنفسه خصائصه الألوهية ، فيشرع للناس في شؤون حياتهم بغير سلطان من الله، ويجعل ذاته مصدر السلطان، وإرادته شريعة البناء لبنى الإنسان. لا حاجة إذاً عندما يراد رفع الإنسان وتكريمه أن تخلع عنه عبوديته لله مصدر تكريمه ورفعته. كذلك لا حاجة إلى تصغير الله كلما أريد تعظيم الإنسان، وإعلان رفعة مقامه في هذه الأرض، وسيطرته وفاعليته، فالله والإنسان ليس كفوين ولا ندين ولا يغلب أحدهما ليهزم الآخر.

5- التوازن في علاقة العبد بربه، بين الخوف والرهبة والاستهوال وبين الأمن والطمأنينة والأنس؛ يقرأ المسلم في كتاب الله الكريم من صفات ربه ما يخلع القلوب، ويزلزل الفرائص ويهز الكيان، مثل قوله: “وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ”، “وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ “، “إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ”، “سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ “.  ويقرأ المسلم كذلك من صفات ربه ما يملأ قلبه طمأنينة وراحة، وروحه أنساً وقرباً، ونفسه رجاء وأملا، مثل قوله :”وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ”، “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ؟”، “وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ “، “وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ “. وبين هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة والأنس والفزع والطمأنينة، فيقطع الإنسان الطريق إلى الله، ثابت الخطوة، حي القلب، موصول الأمل حذراً من المزالق، لا يستهتر ولا يستهين، ولا يغفل ولا ينسى، وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله وفضله، وأن الله لا يريد به السوء، ولا يود له العنت، ولا يوقعه في الخطيئة ليتشفى بالانتقام منه.

6– والتوازن بين مصادر المعرفة: من الوحى والنص، ومن الكون والحياة، الإسلام في شموله وفى توازنه، وفى اعتباره لجميع الحقائق الواقعة لم يغفل مصدراً واحدًا من مصادر المعرفة لم يعطه اعتباره، ولم يضعه في مكانه الذى يستحقه، ودرجته التي هي له في دقة وتوازن وطمأنينة. فهو يرد الأمر كله ابتداءاً إلى الله وإرادته وتدبيره، ويرد الخلق كله إلى إرادة الله الواحد، ومن الخلق هذا الكون وما فيه، وهذا الإنسان وعقله ومداركه، ومن ثم لا يجد تناقصاً في أن يكون للكون أو للطبيعة دور في إمداد الإنسان بالمعرفة عن طريق العقل باعتبار الجميع من صنع الله، فهي من عنده، كما أن الوحى من عنده كذلك. فالوحى المصدر الصادق، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يخضع للهوى، ولا يتأثر به، ومن ثم فهو أعلى المصادر. ولكنه في الوقت ذاته لا يلغى العقل أو المؤثرات التي يتلاقاها الإنسان مما حوله في الكون كتاب الله المفتوح الذي يصب المعرفة في الإنسان، مع فارق واحد؛ هو أن المعرفة التي يتلقاها الإنسان بمداركه من هذا الكون، قابلة للخطأ والصواب بما أنها من عمل الإنسان، أما ما يتلقاه من الوحى فهو الحق اليقين.

7– والتوازن بين فاعلية الإنسان وفاعلية الكون. وبين مقام الإنسان ومقام الكون؛ يقف التصور الإسلامي على قاعدة الحقيقة المستقرة الثابتة بين غلو الأديان والفلسفات والأساطير إله هو الخالق المبدع المهيمن المدبر، والكون والإنسان من إبداع الله، وبينهما من التفاعل والتناسق ، ما يجعل لكل منهما دورا في حياة الآخر، والإنسان هو الأكرم، وهو الأكثر فاعلية وإيجابية وهو المسلط على المادة، يبدع فيها وينشئ، ويغير فيها ويطور، ويظهر من أسرارها ما أودعه الله، ويتلقى من هذه الأسرار ما يؤدى إلى العظة والاعتبار. وتكريم الوجود الإنساني مع عدم احتقار الوجود الكوني يكفل لهذا الإنسان مقامه وكرامته، ويجعل حياته ومقوماته أكرم من أن تمس في سبيل توفير أية قيمة مادية أخرى، وذلك مع عدم الإخلال بالقيم المادية وبالإبداع في علم المادة.

ويذخر التصور الإسلامي بالعديد من تلكم النماذج للتوازن لا نملك تتبعها وعرضها بالتفصيل وأتينا بهذه النماذج لتكون إشارة يتبعها الناظر في هذا المنهج.
ولم تنته خصائص التصور الإسلامي من منظور سيد قطب بعد، فموعدنا في جزء أخير مع المزيد من خصائص التصور الإسلامي.

آلاء محمود

كن شخصاً إذا أتوا من بعده يقولون مر وهذا الأثر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى