جرعاتٍ مِن كأس الحب…

لقد تعرضت كلمة الحب في العصور المتأخرة إلى حملة ضارية شرسة، ميعت ألفاظها، وأساءت استخدامها، وفرغتها من كل مدلول إنساني وحضاري. فوالله إنها لكلمة مظلومة، حقوقها منتهكة مهضومة، ودلالاتها غير واضحة ولا مفهومة! فكلما ذكرت الحاء والباء في مجمع من الناس، ساد الخجل، وعم الوجل، نظرات فيها تجوس وريبة، ووجوه مكفهرة لهول المصيبة!

ترى ما السبب؟!

المشكلة عند أولئك أن الحب ليس من المروءة والوقار، بل هو بلية وعار، والتعبير عنه لمِن الخزي والشنار! فشعارهم الدائم: اكتم حبك ومت بغيظك وتجلد تسلم بإذن الله وتغنم! ولقد ازدادت معاناة هذه الكلمة الجريحة بتداولها في الحياة اليومية على جميع المستويات، الفردية منها والاجتماعية.

فليس مسموحًا للزوج أن يعبر عن حبه لزوجه بالأسانيد، فهذا يتعارض مع العادات والتقاليد! وليس من أصول الأدب أن يتنادى الأصحاب بهذا اللقب، فالاحترام مطلوب والحياء أمر مرغوب، ولا ينبغي للآباء أن يتعاملوا مع أبنائهم بكلمة الحب وتعبيراته اللفظية والجسدية من قبلة وعناق، وتربيت على الكتف أو ابتسامة عرضية، حتى اقترن مفهوم الحب عند الصغار والكبار بالأفلام الهابطة والمسلسلات الماجنة، فالحب إذن هو العري والجنس والغواية، ويعني أيضًا الإثارة و التبذل وسوء الغاية!

فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا!

إن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، يؤثر ويتأثر، يعطي ويأخذ، يقبل ويرفض، له علاقات مع أسرته وأقاربه وجيرانه، وعنده تعاملات مع  زملاءه وزبائنه وخلانه، فلو حُبس ساعة عن المجتمع الذي يتفاعل معه لصدرت منه الآهات، ثم مات، كالحوت الذي يخرج من الماء لفترة زمنية، فإنه يفقد مقومات الحياة الطبيعية.

فالبشر لهم رغبة حقيقة في أن يُحِبوا و يُحَبوا، فالحب أساس كل روابط البشر، وهو الدافع لخدمة بعضهم بعضًا في الحضر والسفر، والدليل على ذلك كما جاء في الصحيحين أن النبي–صلى الله عليه وسلم–قال لخديجة: زملوني زملوني إني خشيت على نفسي! فقالت خديجة–رضي الله عنها-له:

“كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق”.

والسؤال المطروح: فما هو دافع النبي-صلى الله عليه وسلم-لهذه الأعمال التطوعية؟ إنه الحب في أسمى صوره، يرتقي بالإنسان حتى يؤثر غيره على نفسه! إنه الحب فهو مركب لا يضل صاحبه. وأما القائلون بأننا نستطيع العيش من دون حب، فقد حادوا عن الصواب، فالمصالح المشتركة كلها تزول، ويبقى الود بينهم كالرسول، يصول ويجول، وليس لنجمه أبدا أفول!

إذن، فمــــا هو الحـــــب؟

سؤال صعب، لكن مائه عذب، وعطائه كسب، رحلة الحب تبدأ بحب الرب، والخوف من الذنب، وسلامة القلب، وتنتهي بجنة القرب، قال تعالى:

(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)

سؤال أجوبته كثيرة، وأمطاره غزيرة، قد تختلط فيه الجناية بالجريرة، وتغيب أحيانًا الفراسة والبصيرة! فالحب هو أطيب طعام و ألذ مشروب  للأنام، به تحلو الحياة، وبشراعه تسير سفينة النجاة، فمن فقده فهو في عداد الأموات، لأنه أصبح من الجمادات، به تنظر العيون فتبصر، وتسمع الأذان فتخبر، وتنطق الألسنة فتبحر.

الأخوة والحب في الإسلام

*الحب حبان: حب لرب الأكوان، وحب الإنسان للإنسان.

*الحب كالغيث أينما حل نفع، ينعش الفؤاد، ويحرك الجماد، به تتجاوز المفاوز والوهاد.

*الحب هو وَلَهُ القلب، الحب شعور انفعالي، الحب اهتمام وتفاهم.

*الحب لغة عالمية، يعرفها الإنسان والحيوان والنبات، ولكل قوم لها تفسيرات وتأويلات!

الحب عند الحيوانات

*الحب شوق وشقاء، الحب لقاء ولقاح، به تلقي الأفراح، وتتلاقح الأرواح.

*الحب هو التعلق بالشيء على وجه الاستئناس بقربه، والوحشة من بعده.

*الحب نار ونور، فهو شعلة في الشعور، وهو ضياء السعادة والسرور.

*الحب عطاء بلا حدود، وكرم وجود، ونضال وصمود.

*الحب رواية بيضاء، فصولها الشهداء، تذوب عند معانيها الأحباء.

*الحب حديقة باسقة غناء، لها ظلال وأفياء، وتغريدات وأصداء.

*الحب عاصفة وعاطفة، عاصفة تدمر كل شيء بأمر صاحبها فهي هائجة مائجة، وعاطفة سامية سوقها رائجة، وبضاعتها غالية الثمن غير كاسدة.

*الحب عطف ولطف، فهو التودد للحبيب، من الفجر إلى المغيب.

*الحب بسمة ولمسة، بسمة مشرقة رانية، ولمسة  متأنقة حانية.

*الحب روح وروحانية، به يتألق الإنسان في سماء الألمعية، فيبذل المعروف ويجود بالعطية، ويصل من قطعه ويخلص له في النصح والوصية.

*الحب هو الحياة لكل الكائنات، به اجتمع النحل بالزهور، وتعانق الروض بالعصفور.

*الحب بذل الندى، وكف الأذى، بسلالمه يكون السمو والارتقاء.

*الحب عطاء ونماء، وجهد وعناء، فلا راحة لمحب إلا أن يذوب كمدًا على فراق محبوبه، أو يقدم الدم في سبيل أن يحقق مرغوبه.

لعلك يا محب ظننت ظنـــــا         بأن الحب جمع وافتراق

أجل هو جمع أوصال تداعت        وفرقة مهجة ودم يُراق

آيها الأحبة الكرام:

*الحب البذل وهو بين الأحبة الوصل وقد يعتريه اللوم والهجر والعذل.

*الحب عزلة عن كل ناد، و سهر و سهاد، وهجر للراحة والرقاد

*الحب أسمى العلائق، به تُعرف الحقائق، وتنكشف الدقائق، وتشرح الصدور بالرقائق.

*الحب منحة إلهية وعطية ربانية، قال تعالى:

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

*فالحب هو أوثق حبل يربط بين البشر، هو ليل وقمر، ونجم وشجر، طرائف وسمر.

*الحب عالم من المودة والأشواق، والبهجة والإشراق، والأنس والاشتياق.

*الحب أشهر كلمة في القاموس، إذ هو في الحياة قانون و ناموس، به تحيا القلوب و تتألق النفوس.

*الحب خشوع وخضوع، وبكاء ودموع، وزفرات لقلب موجوع.

*الحب حبان: حب علوي إلهي، وحب سفلي بشري.

*الحب حبان: حب حقيقي، وحب مزيف.

فما هو الحب الحقيقي؟

الحب الحقيقي هو الحب العلوي وما ارتبط به، والحب المزيف هو الحب السفلي وما أوصل إليه.

  •  الحب الحقيقي هو حب الرب المعبود، وحب صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود.
  • الحب الحقيقي هو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ)
  • الحب الحقيقي هو قوله–عز وجل-: (يُحِبُّهُمْ وَيُحبونه)

فهي أعظم قصة حب في العالم، لما فيها من العلامات والمعالم!

حب

يحبهم

أمر غاية في العجب، لأنه غني عنهم وهم الفقراء إليه في الكُرب. يحبهم تعني حب الله للإنسان، بإنزال القرآن، و تسخير الأكوان، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، علمه وهداه، واصطفاه واجتباه، حفظه ورعاه.

يحبونه

ليس بمستغرب، لأنه رباهم بالنعم، وخلقهم من عدم، وفضلهم على كثير من الأمم، فهو-سبحانه وتعالى-أهل الجود والكرم. يحبونه الحب العميق، ويتوددون إليه فهو خير رفيق، يظهرون له الوداد والصفا، ويبادلهم بالوفاق والوفاء، فيا له من حب بين حبيبين!

إذا كان حب الهائمين من الورى    بسلمى وليلي يقطع اللب والعقلا

فما بالكــــــم بالهائم الــــــذي          سرى شوقه إلى العالم الأعلى

اطلب الحب الحقيقي من الله، فهو وحده يملكه، وهو وحده من يصرفه ويغدقه، و لقد من دعاء الحبيب محمد-صلى الله عليه وسلم-:

اللهم ارزقني حبك وحب من حبك وحب كل عمل يقربني إلى حبك

اللهم صل على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وصل على محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

شهداء على موائد الحب

إن للموت طرائق قددا، فمن الناس من يموت بتخمة في بطنه، ومنهم من يموت  لعشق ألم به كقول القائل:

إن العيون التي في طرفها حور          قتلنا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له     وهن أضعف خلق الله إنسانا

وكم من مجاهد صنديد، ومقاتل عنيد، يجود بنفسه في سبيل الله فيقول:

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد          لنفسي حياة مثل أن أتقدما

فليس على الأعقاب تدمى كلومنا     ولكن على أقدامنا تقطر الدِما

بالحب صاح حرام بن ملحان مقتولا فزت ورب الكعبة! بالحب نادى عمير بن حمام مستعجلًا الجنة إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى أكل هذه التمرات! بالحب بيعت النفوس، فتحركت بها الجيوش، وتمزقت الأجساد على التروس، وبذلت الدماء وكسرت الضروس، ولله در القائل:

قد كنت أشفق من دمعي على بصري       فاليــــوم كل عزيز بعدكم هانا

كيف يضيع الحب؟

الحب بناء مشترك بين اثنين، يسهم كل واحد فيه بلبنة أو اثنتين، فينمو ويكبر حتى يصير قلعة شامخة تحفظ المحبين من عاديات الزمان، و تسعد جمعهم بالسكينة والأمان، وأما ضياع الحب فيكون بالصمت المميت، وكثرة الشك والتبكيت، بعد هذا تسقط دولة الحب وتقوم مملكة العفاريت! الحب بنك من المشاعر الطيبة والعواطف الممتنة، فالمحبة إيداع وسحب، فالمحب يتقرب لمحبوبه بزيادة رصيده البنكي، بتارة يشجع ويثمن الجهود، وتارة يستمع لحديثه فيحقق له المقصود، وهكذا، يضيع الحب بكثرة السحب وقلة الإيداع!

قللوا من اللوم والعتاب وتغاضوا عن الهفوات تسعدوا يا أحباب.

ولضياع الحب أعراض منها:

أن  ترى الانقباض والعبوس على وجوه العباد، وتلمس التنافر والتضاد، وتسمع بقصص الهجر والبعاد! أن تغيب لغة الحوار، وأن تتعالى الأصوات بالشِجار! و في النهاية لقد ضاع الحب بغياب السلام، وقلة التقدير والاحترام، فحلت حياة النكد والخصام! فيا لشقاوة من سكن قلبه البغض والضغينة! ويا لسعادة من عمّر فؤاده بالحب والفضيلة!

يا عقـــــــــلاء:

هذا نداء لعودة الحب والصفاء، والتبرع بهما على الفقراء!

فالحب له دوره في الحياة، إذ به تتواصل الأسر في البيوتات، وعليه المعول في نهضة المجتمعات، فأنعم بدين قام على الحب والود، والعطاء والجد! وأكرم برسول كانت حياته حب وود، وعاش ولم يضمر العداوة لأحد، يبغض السلوك المشين، ولا يسب الشخص فيناديه باللعين، فافهموا يا مسلمين!

إنه الحب ليس له نظير، فهو للمحب وزير، وعلى المحبوب سفير، فما أعظم الحب الكبير! يغفر الزلة و يعفو عن التقصير!

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد           جاءت محاسنه بألف شفيع

أخيرا

أحبوا وأخلصوا في المحبة، ولا تنتظروا المكافأة على المودة وأعلموا أن الحب ليس مقالات مدبجة في بيضاء، ولا عبارات متكلفة تلوكها الألسنة العجماء، بل الحب أكبر من ذلك يا فضلاء، إنه أرض وسماء، صفاء ونقاء، مسؤولية وعطاء، وأمل في الله ورجاء.

أكرمني الله وإياكم بجنة الفردوس الأعلى.

عبد الغني حوبة

أستاذ بمعهد العلوم الإسلامية جامعة الشهيد حمه لخضر الوادي-الجزائر، خطيب بمسجد الصحابة تكسبت الوادي، ماجستير… More »

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. من أروع ما قرأت عن حقيقة الحب الذي يجمع القلوب و الافئدة على حب الله ورسوله ليشكل لنا جسدا واحدا اذا تشتكي منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
    شكرا أستاذنا الفاضل عيد الغني

  2. جميل جدا ما كنبت أستاذنا الكريم ، فعلا لقد أكرمتنا و أتحفتنا و أفدتنا بهذا الإنصاف الثري لأهم طاقة يستمد منها الإنسان معنى وجوده و قيمته ، كما يستجمع بها ما يزيد في منسوب تقديره لذاته و يدفعه قدما نحو تحقيق الشخصية السوية القادرة على الإبداع و النفع الذاتي و الإجتماعي ، إنه الحب الذي به تُفتح القلوب لتستجيب العقول و السلوكات لكل خير ، بارك الله فيك و إني لجد فخور إذ تزخر بلدي بمفكر و كاتب فذ مثل حضرتك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى