
ما هي الأمة التي نقصدها؟
لا يكاد يخلو حديثٌ لي عن الأمة، وإحياء الأمة، وعودة الأمة…. إلخ، ومن عادتي -ومن الله الفضل -أن أكتب بطريقةٍ واضحةٍ، مباشرةٍ، أحاول ألا تحوي أي نوعٍ من اللبس أو الغموض أو التأويل، وكنت أظن أن ذِكري للأمة… معنًى مفهومٌ لدى القارئ، وإذ بي أتفاجأ أن أحدًا يسأل، ما هي الأمة ؟! فجاء هذا المقال ليعرِّف ما هي الأمة، وما المقصود بها، وما هو تكوينها، وطبيعتها؟
فما هي الأمة التي نقصدها؟
هي الأمة المسلمة التي سينادي نبيها ربه يوم القيامة: أمتي… أمتي، في الوقت الذي سينادي كلُّ نبيٍ ربه: نفسي. نفسي. أي: نقصد بالأمة جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، كل موحدٍ لله. تجمعنا به وشائج العقيدة، وأواصر المحبة، وأُخُوَّة الإيمان.
ولكن هذه الأمة انحرفت عن كتابها، ومنهج ربها، وسنة نبيها، وغرِقت في العلمانية، واتبعت الشهوات، وقتل بعضها بعضًا، وصار همها البطن والفرج. فهل ما زلتَ تقصد بالأمة هذا الغثاء؟
نعم… بالطبع ما زلتُ أقصد هذه الأمة مهما بلغ بها الانحراف، والسوء، والغثائية، ما زلتُ أقصد أولئك الذين تربَّى آباؤهم وأجدادهم على مناهجَ علمانيةٍ مناقضةٍ للإسلام، ما زلت أقصد هؤلاء، لأن هدف هذا الدين: هو الإنسان… مهما بلغ به السوء، ومجال عمله: هو الواقع… مهما انحرف هذا الواقع.
وهذا هو حال الأنبياء مع قومهم
نبي الله موسى، أتى قومه فآذَوه أشدَّ ما يكون الإيذاء، بل وقتلوا الأنبياء من بعده! وعبدوا العجل بعد أن فشلت محاولة عبادة الأصنام! واستنكفوا عن طريق الجهاد، ودخول الأرض المقدسة، إلخ مما ذكره القرآن الكريم عن بني إسرائيل.
فماذا يفعل النبي الكريم مع قومه؟ لا شيء سوى الدعوة والتذكير والبشرى والنذير الذي لا ينقطع، ذلك أن النبي في أصل إرساله وبِطانه: هو “الرحمة” الرحمة بهؤلاء القوم، وتلك الأمة التي أرسله الله إليها، فحُجة الله قائمةٌ على كل عباده بدون إرسال رسلٍ، وإنزال كتبٍ، وما إرسال الرسل إلا رحمةٌ للإنسان، وتذكيرٌ له بعهده مع الله، وتيسير طريق الهداية له: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف : 172]
إن النبي الكريم وخلفاء الأنبياء والمصلحين من بعدهم لا يختارون نوع البشر الذين يدعونهم! ولا يشترطون -حاشاهم من ذلك -على الله أن يكون قومهم ذوي صفاتٍ حسنةٍ، وطبائع مؤمنةٍ، وإلا فما هو دور الأنبياء؟ وكيف يقع الابتلاء؟ وأين يذهب الشر الكامن في النفس الإنسانية؟ إذًا لابد من مواجهة طبائع النفوس، واختلاف الاستعدادات، ومواجهة الخير والشر سواءً.
وهذا موسى يعاني من قومه أشد المعاناة، ويشتكي لربه منهم، ولا يرى أثر دعوته، وجهاده معهم، بل ويموت النبي الكريم دون أن يرى ثمرة دعوته! لأن رؤية (ثمرة الدعوة) ليست من اختصاص ومهام الأنبياء، إن مهمتهم هي الدعوة وفقط، والبشرى والنذير، وبيان صراط الله المستقيم، وأما ثمرة الدعوة فهذه تحكمها سنن الله في المجتمعات والإنسان، التي غالبًا ما تحتاج إلى أكثر من جيلٍ لرؤية آثارها ونتائجها.
فالنبي عندما يأتي قومه… تكونُ:
- فئةٌ محاربةٌ وعدوةٌ له، وهم الطواغيت والملأ المرتبطةُ مصالحُهم المادية والمعنوية مع هؤلاء الطغاة.
- وفئةٌ من كبار السن تكلّست عقولهم على الرضا بالأمر الواقع، والاستسلام للظروف المحيطة.
- وفئةٌ –وغالبًا من الشباب –تكون متحفزةً للدعوة الجديدة وأكثر قدرةً على الاستماع والاستجابة.
- وفئة من الرعاع والدَّهماء تكون خَدَمًا للطواغيت…
يأتي النبي في هذا الخليط المتنوع من المجتمع، ويبدأ رحلة الدعوة التي تُحارَب بكل وسيلة، فيؤمن من يؤمن، ويكفر من يكفر… ويرحل النبي بعد أن أدى رسالته، وترك غرسَه في تربةٍ صالحةٍ، تظل تنمو بعد رحيله، وتأخذ من الوقت ما هو مقدَّرٌ لها عند الله، وما هو موافِقٌ للسنن؛ حتى يخرج الجيل الذي يفتح الله به الأرض، ويُمكِّن به لعباده ودينه، كما حدث مع الجيل – من بني إسرائيل – الذي فتح الأرض المقدسة، والعجيب في ذلك :أنه رغم خروج جيلٍ قويٍّ مؤمنٍ من تيه الصحراء خلال أربعين سنةً، نجد أن آثار الذل، وأمراض الاستبداد كانت ما تزال كامنةً في بعض النفوس، ولم يكن هو التطهير الكامل والخلوص التام لله ! الأمر الذي يجعلنا نضع في حساباتنا وتوقعاتنا: وجود فئةٍ تتنكر للمؤمنين، وتتنكر للجهاد، وفتح الأرض المقدسة مهما بلغ شأن الدعوة!
ثمةَ نبيٌّ يئس من قومه، فبعد أن دعاهم، لم يرَ منهم استجابة، فظن أنهم لن يؤمنوا، فغضب منهم… ورحل عنهم! لقد كان يونس يرى من منظوره هو، يرى أنه يحمل الحق من رب العالمين، إلى مخلوقاتٍ خلقها رب العالمين، ومعه من الدلائل والبينات ما يقيم به الحُجة على قومه، وما يؤكد به صدق دعوته، ورسالته… فكيف لا يؤمنون؟! وماذا يفعل لهم أكثر من ذلك حتى يؤمنوا؟!! أولا يكفيهم كل أولئك؟
لقد ضاق بهم ذَرعًا… وظن أن الله لن يُضيِّق عليه أكثر من ذلك، فوجد النبي الكريم نفسه في ظلمات الحوت، وظلمات البحر، وظلمات الليل فنادى في الظلمات:﴿ لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87] … ثم عاد إلى قومه فإذا بهم قد آمنوا! ثم هم آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوع العذاب… واهتزَّت أجهزة الاستقبال الفطرية لديهم فتابوا، ولكننا لا ندري متى تنتفض تلك القلوب لهذه الدعوة، وتستجيب؟ متى تنفض عن نفسها ركام الجاهلية وأدرانها؟ ومتى يهدي الله من يشاء من عباده إلى صراطه المستقيم؟ ومتى تقع سُنة الإيمان والهداية في النفوس؟
لذا تظل الدعوة قائمةً، والرسالة دائمةً، واليأس منعدمًا، والمحاولة مستمرةً، والقلوب بين يدي الرحمن يُقلبها كيف يشاء!
ولعنا نذكر في هذا المقام موقف سحرة فرعون إذ يقولون له:﴿ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) [الأعراف: 113] ها هم يقفون بجانب فرعون يطلبون المال والقربان، ويتحَدَّون نبيًا من أولي العزم من الرسل! وإذ بهم في لحظاتٍ قليلةٍ يتحولون إلى الإيمان الخالص بالله، في مفاجأةٍ للإنسانية جمعاء، كيف يتحول سحرة فرعون، وأكثرهم خبرة وعملًًا بالسحر هذا التحول؟! إن معجزات موسى، لم تكن هذه أولَها فقد سبقها معجزاتٌ كثيرةٌ، لماذا هذه بالذات؟! الله أعلم حيث يجعل هدايته، وحيث يختار أولياءه…
ثم إنهم لم يتحولوا إلى مجرد مؤمنين برسالة موسى – كبني إسرائيل التي آمنت على خوفٍ من فرعون وملئه أن يفتنهم – كلّا، بل إنها أعلى مراتب الإيمان، لقد قال فرعون للسحرة رداً على إيمانهم: ﴿ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) [طه : 71] فكان جوابهم: ﴿ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه :72، 73]
هذا المستوى السامق من الإيمان، من كان يدري أن سحرة فرعون ستصل إليه؟! لا أحد سوى الله … الذي قدّر أن تظل الدعوة قائمةً، والرسالة دائمةً… فلا نملُّ من الناس، ولا نيأس منهم، ومن يدري: لعل فيهم من الإيمان، أكثر ممن يدعو الناس!
وهنا نصل إلى مفخرة الإنسانية كلها، وصاحب المقام الرفيع… الذي شرّف الله به الجنس البشري كله: محمدٍ…
لقد لقي محمدٌ من قومه التكذيب المعهود كما جرى مع كل رسولٍ قبله، لكنَّ قومه كانوا من الكِبر والتعنت والصَلَف والغرور ما يفوق التصور! وكانت تحكمهم عاداتٌ جاهليةٌ وقَبَليةٌ تصطدم برسالة الإسلام العالمية… واتهموه بكل نقصٍ وحاصروه، وحاصروا دعوته، وقتلوا أتباعه، وهجّروهم، وتآمروا لقتله، وقذفوه بالحجارة حتى أُدمِيَت قدماه، وجاءه مَلَك الجبال يقول له: ” إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ” جبلين بمكة، يعني: هلاكهم كلهم.
وهنا يأتي فضل الرسالة المحمدية ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) [الإسراء : 55] هنا يأتي المستوى السامق من دعوة محمدٍ ، فيكون جواب النبي الكريم، والرحمة المهداة: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا” [صحيح مسلم/1795 ] ها هو النبي الكريم لا ينظر إلى التكذيب، والإعراض، والاعتداء… إنه مشغولٌ بالرسالة، وقد كان… لقد خرَّجَتْ خير أمةٍ أُخرجت للناس، فكان هو الرحمة المهداة، وصدق الله العظيم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء : 107]
لقد خيَّره الله بين قَدَره الكوني في إهلاكهم، وبين قَدَره الشرعي في سُنة الدعوة وما فيها من ابتلاءاتٍ ومعاناةٍ وجهادٍ، فاختار قدره الشرعي، ومضى فيه… حتى أتمَّ الرسالة، وبلّغ الأمانة، بل وأقام دولةً… وأخرج جيلًا فريدًا حمل هذا الدين إلى أن وصل مشارق الأرض ومغاربها.
إذًا الأنبياء -صلوات الله عليهم أجمعين -لم يأتوا قومهم فوجدوهم:
- في انتظارهم.
- أو أعطَوهم القَدْر اللازم، والمكانة المستحقة.
- أو حتى استمعوا إلى دعوتهم باهتمامٍ، وتمعنٍ.
- أو حتى سمحوا لهم أن يمارسوا دعوتهم، ومن شاء فليؤمن.
كلا لم يكُن شيءٌ من ذلك، بل كان:
- التكذيبُ والإعراضُ.
- والاتهامُ والسبابُ.
- والتهديدُ والقتلُ.
- والسخريةُ والاستهزاءُ.
ومع ذلك أمرهم الله بالدعوة المستمرة، والبلاغ المُبِين، والتذكير والبشرى والنذير… حتى يفتح الله بينهم وبين قومهم بالحق، سبحانه.
نجد اليوم من يقول: انظر إلى هذه الأمة التي تتحدث عنها، انظر انغماسها في الشهوات، والضلال، والعبث، والتيه؟! هذه أمةٌ لن يُرتجى من ورائها خير، وإنا قد دعوناها فلم تستجِبْ، فنحن إذًا لا عَلاقة لنا بها، وسنذهب نقيم الدين وحدَنا بجماعتنا نحن! ولا حاجة لنا بتلك الأمة التي لا يشغل بالها إلا البطن والفرج !!
وهؤلاء لا يفهمون دعوة الرسل، وسنة الدعوة، وسنن التغيير،و الإحياء…
إنهم ينظرون إلى القشرة الخارجية فيهُولهم القيء والصديد والعفَن، يفزعهم الركام والتراب والقاذورات، ويعجزون أن يرَوا الكنز الذي بالداخل، فيزهدوا في الأمة، وييأسوا منها كما يئس صاحب الحوت أول مرةٍ.
وهم ليسوا بالأنبياء ولا بالرسل، ولا هم مؤيدون بالوحي، أي: كل عوامل النقص، والضعف، والهوى، واقعةٌ وكامنةٌ في نفوس من يدعو الناس:
فهل أهل الدعوة اتبعوا طريق الرسل دون انحرافٍ؟
هل حملوا الرسالة كاملةً، أم حملوا “أيديولوجياتٍ خاصةً” ذاتَ “عصبيةٍ ذاتيةٍ وفكريةٍ“؟
هل مهَّدوا الطريق لقومهم، وخاطبوهم باللغة التي تدركُها عقولهم؟
هل كانوا من الرحمة والعطف والحنان بضعفهم، وجهلهم، بمكانٍ؟
هل كانوا من الحرص الشديد على هدايتهم، وطَرْق كل سبيل لذلك،بمكانٍ، دون انتظار جزاءٍ أو شكرٍ؟
هل أدركوا سنن الله في التغيير، والإحياء… ومضوا في طريق السنن؟
هل أدركوا واقع أمتهم حق الإدراك، وتَبَيَّنوا سُبل المجرمين الذين يصدون الناس عن الهدى؟
هل كانوا هم أنفسهم قدوةً ومثالًا يُحتذى، فيكون حالهم وأخلاقهم وواقعهم أبلغَ وأصدقَ دعوةٍ؟
لقد حمل الأنبياء الرسالة كاملةً، ومهَّدوا الطريق لقومهم، بل وأتَوهم بالمعجزات، وكانوا من الرحمة والعطف والحنان والحرص عليهم بمكانٍ… ومع ذلك كذبوهم! ومع ذلك لم ييأسوا منهم! فبلغَتْ الدعوة تمامها، وتمحَّص المؤمنون، وظهر الكافرون، وتَزيَّل الفريقان حتى جاء أمر الله… إما بالتمكين للمؤمنين -إذا تحققَتْ سنن التمكين -وإما بالنصر باتخاذ الشهداء، وهو: انتصار العقيدة على الألم، والإيمان على الفتنة، والروح على المادة.