محـــاكمة غير عادلة للإسلام
في ليلة مقمرة منيرة، جرى بين الأصدقاء نقاش حتى الظهيرة، فقام أحد الأطباء المغتربين في غضب وحيرة، فتحدث بنبرة مثيرة، وتحاور معهم بلغة ساخرة شريرة فقال: يا خلان! اسمعوني، واتبعوني. صدقوني! ما أردت لكم إلا السعادة والريادة والقيادة!
حينما كنت في انجلترا، درست الطب، وتخصصت في القلب، و قضيت أروع السنوات من عمري متنقلًا بين أوروبا وأمريكا، فكانت لي حينئذ مشاهدات و خبرات، وبعد مدة ليست بالقصيرة، خلصت إلى قناعة راسخة!
فقلنا: ما هي يا دكتور خالد؟
قال: كلما استمسكنا بديننا، وتشبثنا بوحي ربنا، ازدادت الهوة بيننا وبين العالم المتقدم، وأشغلتنا شعائر العبادات عن روح الاختراعات، فالتدين قرين التخلف، والدين أفيون الشعوب، فهيا نتخلص منه يا شطار، لنبدأ رحلة التقدم والازدهار!
قام الدكتور أحمد، وقد استشاط غضبا فقال: أتدري بماذا تتحدث يا دكتور خالد؟ اتق الله، وارجو اليوم الآخر!
ضحك الدكتور خالد وقال بصوت فيه سخرية: اجلس يا دكتور أحمد، وتمتع بالروح الرياضية! فأنا أريد أن أقدم لكم محاكمة عادلة، ستغير حياتكم، وتعيد لكم الثقة بذواتكم.
قال الدكتور وليد:
شوقتنا لمعرفة المحاكمة والمدعي والمدعى عليه، والحكم الصادر، فهلا خبرتنا بها؟!
وبعد تنهيدة طويلة، وأخذ أنفاس من النرجيلة، قال الدكتور خالد:
إنه دينكم الإسلام، في قفص الاتهام، لما ارتكبه من مجازر وآثام، فهو المتهم الأول في كل ما حدث للإنسانية من مآسي! ولا زلت منه أقاسي!
يقول الدكتور أحمد: استسمحك على المقاطعة، فلن أسكت على هذا الهراء! هذه محاكمة من أشهر المحاكمات، قديمة حديثة فيما تناقشه من أطروحات، اختلط فيها الحابل بالنابل، واتُهم المدعى عليه بأنه هو القاتل. إنها محاكمة عقدية، لأنها تعلقت بشرع رب البرية، وبهدي محمد خير البشرية.
قاطعه الدكتور وليد قائلا: وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل هذا الحكم صائب راشد؟ هـــــل الخصم والحكــم واحد؟
يجيب الدكتور أحمد فيقول:
إن القطيعة والجفاء مظهر من أخطر مظاهر السقوط الحضاري، الذي يشكل بداية النهاية للأمة، كيف لا؟! والرجل ينكر أصله ويتنكر لفصله وذاته، يعادي دينه ويعتدي على مقدساته، ثم يشكك–بعد ذلك-في ثوابته، ويطعن في منابته، والدعاوى عندهم أكثر من أن تحصى، وأجل من أن تستقصى، فالواحد منهم يرفع الدعوى بسبب التخلف الذي يعيشه المسلمون تارة، والآخر يحتج بضرورة التجديد ومواكبة العصر تارة أخرى، ثم يتوصلون جميعا إلى نتيجة خطيرة، ألا وهي عدم ملاءمة هذه القواعد والقيم والمبادئ لعصر التكنولوجيا المستنيرة!
يا لله ما هذه المحاكمة غير العادلة!
إنها اتهام جريء خطير، ورأي فيه نقص وتقصير، غير مبني على نص موثوق وتفسير، ومنطق عقلي كبير!
قال تعالى: “سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ”
فتساءل الدكتور خالد قائلا: فمن هم أعضاء هذه المحاكمة يا آيها المسلم؟ أجاب الدكتور أحمد بكل أريحية:
الأعضاء يا سادة يا كرام هم: القاضي، والمدعي، والمدعى عليه، والشهود الأعلام.
فالقاضي هو تكنولوجيا العصر، تم اختياره بعناية فائقة، وقد قالوا: إنه يتميز بالنزاهة والعدل والمساواة. والمدعون هو المستشرقون الحاقدون والمستغربون المتأثرون به، وكل أعداء الإسلام والمسلمين ممن يكيلون التهم جزافا. والمدعى عليه هو الإسلام، الدين الذي ارتضاه رب العالمين للناس أجمعين، قال تعالى: “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”
و يا للأسف الشديد! أتدرون ماذا حدث؟!
لقد تم القبض على الشهود، والزج بهم في قاعة مظلمة ذات أخدود، إذ لم يُسمح لهم بالدخول إلى ساحة المحكمة، بتهمة الخيانة المسبقة، وذلك بعد أن أُجري معهم حوار، فتبين أنهم يعتقدون بطلان هذا الادعاء الكاذب، وقد أقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم سينصرون القضية، وسيجتهدون في إبراز الأدلة العقلية والنقلية، المادية والمعنوية لتفوق حضارة المسلمين وسيادتها، وماذا قدمت للإنسانية جمعاء من خير وعطاء.
إن القاضي الذي سيصدر الحكم النهائي يسمى بالعصر الحديث فهو النموذج الأمثل للبشرية في اعتقادها وسلوكها ومنهاجها، فإما وإما؟! أنت أمام اختيارين اثنين لا ثالث لهما؟ فإما أن تكون معاصرًا بكل مقومات العصرنة والحداثة، فتحاكي كل حركاتهم وتقتدي بكل سكناتهم، ولو دخلوا جحر ضب لدخلت معهم، تسير في ركابهم، وتقرع بابهم، وإن دعوك إلى الإلحاد، وإن تنكبوا طريق الهدى والرشاد! وإما أن تكون رجعيًا أصوليًا، تستقي معارفك، وتأخذ تجاربك من صريح القرآن، وصحيح سنة المصطفى العدنان-عليه الصلاة والسلام-فكن من على حذر!
والمحكوم عليه هو الوحي الإلهي، فهو مجرم متهم-على حد قولهم-إذ فيه إجحاف وظلم، وسب وشتم، وفيه تقييد للحقوق وتضيق على الحريات، ووأد للمجتمع ونكران للذات!
والحكم النهائي الذي سيصدر تباعا، ولا يقبل الطعن ولا الاستئناف باعًا، وحقيقته مقررة من البداية، وتتمثل في عدم صلاحية الإسلام شرعة ومنهاجا للهداية! والمتأمل فيما يقوله القاضي بعد أن نطق بالحكم يجد عجبًا! فقال الدكتور وليد: قد أقلقتنا يا دكتور أحمد! بماذا ختم القاضي عباراته في النهاية؟ وما هي الحكمة المرجوة من ذلك والغاية؟
قال الدكتور أحمد: أشكر لكم تفاعلكم مع القضية، وأسال الله-سبحانه وتعالى-أن يرزقنا وإياكم صدق النية وسلامة الطوية، وقد صدق من قال:
فإذا أحب الله باطن عبــده ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلــح مال العباد عليـــه بالأرواح
أما القاضي فقد قال:
إن الإسلام حاجز بينكم وبين العالم المتحضر، فاتركوه، يترككم الجهل، وابتعدوا عنه، يتباعد عنكم الفقر، وانغمسوا في الملذات والشهوات، واطلقوا العنان للحريات، هنالك تسعدوا وتسعد بكم الأرض والسماوات، وتنالوا من الأحبة الصلات.
سكت الدكتور خالد، وهم بالذهاب، بعد أن كشف الله زيفه وخاب! فقال له الدكتور أحمد:
أسألك بالله أن لا تغضب مني! فما قصدت إلا الحق! قال تعالى: “إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”
وفي المشهد الأخير، يلتمس الدكتور أحمد من صاحبه الدكتور وليد أن يختم هذه الجلسة الأخوية فيقول:
إخواني الأعزاء
أخيرًا وليس آخرًا، نحن في أمس الحاجة إلى ربط التاريخ بالواقع، إعادة صلة الأمة بماضيها المجيد وعصرها التليد، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فلنتواصل مع أعلامنا، ولنقتفي دربهم المنير، وذلك من خلال أمرين اثنين:
أولًا: المناعة المعرفية
وتتمثل في إبراز المعارف والمعلومات والتركيز على تراكم الخبرات المطمورة في ثنايا التاريخ الإسلامي، والتي ينبغي أن تُستخرج وتُرتب في ثوب قشيب وحلة زاهية، بما يضمن حُسن الاستفادة منها.
ثانيًا: المناعة الإيمانية
وتكون بربط القلب بالله-عز وجل-والإقبال عليه، وذكره وشكره، وحسن عبادته، وإلا فالمعارف الجافة لا تقوّم سلوكًا، ولا تربي مصلحا! لكنه الإيمان هو الذي يصنع العجائب!
شكر الله لكم، ونفع بكم، وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.