أم سلمة.. أم المؤمنين

النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ”.

غالباً ما تكون الأم هي المعلم الأول لأبنائها والقدوة لهم، فكيف وإذا كانت الأم من أفضل نساء العالمين! كيف وهي زوجة خير المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم! إنه يجب على كل مسلمة أن تنظر فى قصص وسيرة أمهات المؤمنين لتتأسى بهن، ولأنها ستجد عندهن سواء فى أقوالهن أو أفعالهن أسئلة عما يدور بعقلها، وفيما يتعلق بها سواء كانت بنت أو زوجة أو أم.

إنه فى ظل التغريب الذى نحياه وابتعادنا عن الدين رأينا نماذج عجيبة من الفكر والآراء في دور المرأة فى المجتمع وأسلوب حياتها، فمثلاً هناك من يرى أن المرأة إنما خلقت من أجل رعاية الزوج والأولاد وأن تهتم بشئون بيتها من طبخ وتنظيف وغيرها، وهناك من تمرد على هذه النظرة للمرأة بل وشعر بأن هذه النظرة تحط من قدر المرأة؛ فالمرأة ذات عقل ويجب أن تتعلم وتعمل، وقامت حروب وسجال بين النساء والرجال من أجل هاتين النظرتين للمرأة. والحقيقة أن كلا النظرتين لا تعارض بينهما، فما المانع أن تتعلم المرأة وتعلم غيرها، وهي فى ذات الوقت الزوجة الراعية لبيتها وزوجها وأبنائها، ولا يحط ذلك من قدرها شيئاً، فها هي أمنا أم سلمة  يقال أنها روت ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثاً، وقد روى عنها عظماء من التابعين أمثال : سعيد بن المسيب ،  الأسود بن يزيد ، مجاهد، نافع بن جبير بن مطعم، ونافع مولاها، ونافع مولى ابن عمر، وخلق كثير، وهي أيضاً كانت من الفقهاء. ومع هذا كانت الأم الناجحة فى تربية أبنائها؛ فقد ولدت لأبي سلمة أربعة من الأبناء: سلمة، عمر، زينب ودرة، وربتهم فى بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  بعد وفاة زوجها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت أيضاً الزوجة المحبة الوفية لزوجها.

إخلاص الزوجين

 وفى قصة أم سلمة وأبى سلمة قصة من أروع قصص الحب وأرقاها، فتقول أم سلمة: “بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها، وهو من أهل الجنة، ثم لم تتزوج، إلا جمع الله بينهما في الجنة، فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدي، ولا أتزوج بعدك. قال: أتطيعينني؟ قالت: نعم. قال: إذا مت تزوجي. اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لا يحزنها ولا يؤذيها. فلما مات، قلت: من خير من أبي سلمة؟” فما لبثت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على الباب فذكر الخطبة إلى ابن أخيها، أو ابنها. فقالت: أرد على رسول الله، أو أتقدم عليه بعيالي. ثم جاء الغد فخطبها.

ولنا هنا وقفة مع مدى حب أم سلمة لزوجها أبو سلمة، وأنها تريد ألا تفارقه في الدنيا ولا في الآخرة، فقالت: “فتعال أعاهدك ألا تتزوج بعدي، ولا أتزوج بعدك”؛ فهي ترى  أنه أفضل رجل رأته فى حياتها ولا يمكنها أن تتخيل أن يوجد من هو أفضل منه لذلك قالت: “من خير من أبي سلمة”.
ولا يفوتنا أيضاً حب أبي سلمة لأم سلمة؛ فيحرص على سعادتها بعد مماته ويطلب منها أن تتزوج من بعده ويدعو لها:  “اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لا يحزنها ولا يؤذيها”. إذن هي الزوجة المطيعة لزوجها حتى نالت رضاه ودعائه لها بالخير.

في بيت النبوة:

 وكانت كذلك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم – فكانت لها مكانتها عنده، فعن زينب ابنة أمِّ سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله كان عند أمِّ سلمة -رضي الله عنها- فجعل حَسَنًا في شقٍّوحُسَيْنًا في شقٍّ، وفاطمة في حجره، وقال: “رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ”. وأنا وأمُّ سلمة -رضي الله عنها- جالستان، فبكت أمُّ سلمة -رضي الله عنها- فنظر إليها رسول الله ، وقال: “مَا يُبْكِيكِ؟” قالت: يا رسول الله، خصصتهم وتركتني وابنتي. قال: “أَنْتِ وَابْنَتُكِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ”.
وكان النبي يكرِّمها ويهديها، لمّا تزوج النبي أمَّ سلمة -رضي الله عنها- قال لها: “إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ، وَلا أَرَى النَّجَاشِيَّ إِلاَّ قَدْ مَاتَ، وَلا أَرَى إِلاَّ هَدِيَّتِي مَرْدُودَةً عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ.  قال: وكان كما قال رسول الله ، ورُدَّتْ عليه هديته، فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، وأعطى أمَّ سلمة بقية المسك والحُلَّة “.

العالمة والمتعلمة

 هل اكتفت ام سلمة  بأمر التعلم فقط كل ما تفعله هو أن تحفظ الأحاديث واعتزلت ما يدور حولها من أحداث!
لا لم تكن أم سلمة كذلك فكان لها فى سياسة الدولة الإسلامية ومهتمة بما يدور فيها ولم تقف لتسمع فقط ما يحدث، بل كانت تحاول أن تصلح وتنصح ما استطاعت. فقد دخلتْ ذاتَ يوم على أمير المؤمنين “عثمان بن عفان” –رضي الله عنه- قائلة له: “ما لي أرى رعيَّتك عنك نافرين، ومن جناحك ناقرين، لا تُعَفِّ طريقًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  لَحَبَهَا ,ولا تقتدح بزند كان صلى الله عليه وسلم أكباه، وتوخَّ حيث توخَّى صاحباك -أبو بكر وعمر- فإنهما ثَكَمَا الأمر ثَكْمً ولم يظلمَا، هذا حقُّ أمومتي أَقْضِيه إليك، وإن عليك حقَّ الطاعة. فقال عثمان رضي الله عنه: أمَّا بعد، فقد قلتِ فوعيتُ، وأوصيتِ فقبلتُ.
وهي تكلم سيدنا عثمان مباشرة لأنها كما قالت: “هذا حق أمومتي” فهى أم المؤمنين لكن لا يجوز لنا نحن عموم النساء أن نتعامل مباشرة مع الرجال.

أدب النصيحة

وأيضا تذهب “للسيدة عائشة” –رضي الله عنها- وتنصحها في موقفها من موقعة الجمل فتقول لها: “إنك سُدَّة بين رسول الله  صلى الله عليه وسلم وأُمَّته، وحجابك مضروب على حرمته، وقد جمع القرآن ذيلك فلا تَنْدَحِيه، وسكن عُقَيْرَاكِ فلا تُصْحِرِيهَا، الله من وراء هذه الأُمَّة، لو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعهد إليك عهدًا عُلْتِ، بل قد نهاك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفُرْطة في البلاد؛ إن عمود الإسلام لا يثاب بالنساء إن مال، ولا يُرْأَبُبهن إنْ صَدَعَ، حُماديات النساء غضُّ الأطراف وخفر الأعراض، وقِصَرُ الوَهَازَة.
ما كنتِ قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضكِ ببعض الفلوات ناصَّة قلوصًا من منهل إلى آخر؟ أن بعين الله مهواك، وعلى رسوله تردِّين قد وجهت سدافته -ويُروى سجافته- وتركتِ عهيداه. لو سرتُ مسيرَكِ هذا ثم قيل: ادخلي الفردوس. لاستحييتُ أن ألقى محمدًا هاتكة حجابًا قد ضربه عليَّ. اجعلي حصنكِ بيتكِ، ووقاعة الستر قبرك، حتى تلقيه وأنت على تلك أطوع ما تكونين لله ما لزمتِه، وأَنْصَر ما تكونين للدِّين ما جلستِ عنه، لو ذكَّرْتُك قولاً تعرفينه نهشته نهش الرقشاء المطرِقة.
فقالت عائشة: ما أقبلني لوعظك! وليس الأمر كما تظنِّين، ولنعم المسير مسير فزعتْ فيه إليَّ فئتان متناجزتان -أو متناحرتان- إن أقعد ففي غير حرج، وإن أخرج فإلى ما لا بُدَّ من الازدياد منه.

ولنقف هنا لنتأمل أدب النصيحة ورقي الحوار؛ فأم سلمة تنصح بلطف للسيدة عائشة، والسيدة عائشة تسمع بلا مقاطعة ثم تبين سبب خروجها بهدوء ودون تخوين أو ازدراء  لأم سلمة ورأيها، والله إننا فى حاجة لمثل هذا الأسلوب من النصح والحوار.
وما موقف أم سلمة هذا بغريب فما عرف عنها إلا حب دينها والغيرة عليه؛ فهي صاحبة الهجرتين، هى التى تركت أهلها وذهبت مع زوجها أبو سلمة فارين بدينهم إلى الحبشة ثم عادوا إلى مكة حينما أشيع بالصلح بين المسلمين وقريش، ثم تتحمل تعب ومعاناة التفريق بينها وبين زوجها الذى ما تمنت أن تفارقه فى الدنيا ولا الآخرة، ويخلع ذراع ابنها عندما نوت أن تهاجر مع زوجها الهجرة الثانية إلى المدينة، إلى أن أتاها فرج الله وأذن لها أهلها بالهجرة إلى المدينة.

هذه هي “أم سلمة” –رضي الله عنها- أمنا أم المؤمنين التي يجب أن تكون قدوتنا  فى حبها لدينها وبذلها له قدر ما تستطيع، وفى جمعها بين العلم ومراعاة البيت والزوج إلى أن نالت رضا الزوج. وكانت صاحبة المشورة والعقل الراجح؛ إذ  أشارت على النبي  صلى الله عليه وسلم بأن ينحر ويحلق رأسه فسيتبعه الصحابة. فسكنت قلب رسول الله –زوجها- وأشارت عليه بما يفعل، وفي إهتمامها بأمور دينها وما يدور ويحاك للأمة من أحداث والمشاركة فيها بما يناسبها أي في حدود ما سمح لنا الشرع.  فرضي الله عن أم سلمة وأرضاها ..

أروى العلي

و ما من كــاتب إلا سيفنى … ويبقى الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك… More »

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى