تحرير عالم أفكار المسلم المعاصر
إذا كانت الأموال التي ينفقها أعداؤنا في دعم الهيمنة العسكرية على بلادنا، والتي تقع ترجمتها بزرع قواعد عسكرية دائمة أو وقتية في مختلف ربوع الأمة، أو الإنفاق في الحروب المباشرة التي تقودها جيوشهم وذخائر طائراتهم وحفلات الليل الصاخب فوق رؤوس الأبرياء… كبيرة جدا، فإن ما ينفقونه على استلاب عالم أفكار المسلمين يضاهي في أهميته الإنفاق العسكري.
إنها معركة العقول والقلوب، التي يُجيش لها جنود من الباحثين في مراكز البحث الاستراتيجي والعاملين في القطاع الإعلامي والموجهين لبرامج التعليم، إنه احتلال ناعم ينزل بأسلحته اللينة لتزييف الحقائق وصناعة الأوهام.
فما هو عالم الأفكار وما خطورة تقييده وكيف لنا أن نحرر أفكارنا؟
خطورة الفكرة.. عالَم الأفكار لا عالَم الأشياء
«إن الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. ولكل حضارة عالم أفكارها، وعالم أشخاصها، وعالم أشيائها»، بهذه العبارة صاغ المفكر الجزائري مالك بن نبي صورة مجردة تمكننا من إدراك أي هذه العوالم مرتبط بسؤال التغيير، واستخلص أن التغيير في الواقع لا يمكن أن يكون إلا من خلال التغيير في عالم الأفكار، لأننا إذا غيرنا مجموعة من الأشخاص بأشخاص آخرين بنفس الأفكار لن يحدث اختلاف في ما يترتب على ذلك في الواقع، وكذلك إذا قدمنا أشياء لأشخاص بنفس الأفكار لن تتغير طريقة تعاملهم معها، فالعبرة إذن بعالم الأفكار، الذي يحدد العلاقة بين الأشخاص وبين الأشياء.
اختراق عالم أفكار المسلمين
لقد وقعت إعادة ترتيب عالم أفكار المسلم المعاصر خلال مراحل استعمارية، بدأت يوم سقط الكيان الحضاري الجامع للمسلمين الممثل في الخلافة، مرورا بفترة مكوث الاحتلال بين ظهراني المسلمين بعد تقسيم كيانهم الجامع إلى دول قومية على نمط الدولة القومية الغربية، وما تزامن مع ذلك من انبهار بالغرب وظهور رموز ابتعثوا إلى أوروبا وعادوا من هناك ليهدموا أسس البعث الحضاري لدى مجتمعاتهم وهم في أحسن الأحوال يتوهمون أنهم يشيدونها، ليبدأ مشوار التبعية، ثم خرج المحتل المباشر بعد تمكين نخب عسكرية وأمنية وفكرية في مقاطعاتهم الاستعمارية، ليقع تجسير فكر وسلطان الغرب وتقنين مصالح المحتل عبر واجهات محلية، وبنيت الدولة العربية الحديثة على الاستقرار في هذا الوضع، وضع الخضوع لقيم المستعمر.
وقد أنشأ هذا الوضع حوله هالة من الشرعية الزائفة، أنشأها التفكير والتحرك داخل المحددات الاستراتيجية التي رسمتها الحدود الاستعمارية وحالة الاحتلال غير المباشر و غير المعلن.
لقد وقع إضفاء المصداقية على هذا الوضع، وتم استخراج خطاب ديني يبرر ويحرس بقاءه وبقاء رؤوسه، ووقع استخراج نسق تاريخي متخيل لجعله قالبا مفسرا له ولإيهام الشعوب بالأصول التاريخية لهذا الوضع، وأخذت التيارات الفكرية المتغربة على نفسها مهمة تحرير الشعوب من أصولهم الحقيقية نحو النموذج الجديد حيث تصبح البلدان نسخة رديئة من نسخ أعدائها، بل وطال الأمر حتى بعض الجماعات العاملة للإسلام، التي تبنت العمل تحت منظومة الوضع الجديد، وما حدث معه من أسْلمة في بعض الأحيان لهذا الوضع.
لقد وقعت صناعة عالم أفكارنا داخل هذه الحدود الفكرية والأمنية، داخل خطة خصومنا وقاتلينا، وأننا لن نتحرر من أغلالنا قبل أن نحرر عالم أفكارنا من هيمنة المحتل عليه، والخروج الفكري والفعلي من صندوق أفكار وضع الاحتلال، سواء المباشر أو غير المباشر.
تحرير عالم أفكار المسلمين
إن الفكرة هي المحرك للإرادة وبدون إرادة لا يمكن وجود الفعل بالتالي عدم وجود التغيير الذي سيعود بالحياة لشعوب هذه الأمة، وعالم أفكار المسلمين اليوم يحتاج لحركة يقظة بصيرة، وثورة خروج من أسر القوالب الفكرية التي جثمت على كاهل الأمة لعشرات السنين، فأخرجت الشعوب من تحدياتها الحقيقية وأغفلتها عن حقيقة ما تتعرض إليه وحشدتها في معارك وهمية تارة وفي حق أريد به باطل في أحيان أخرى.
لقد زرعت الألغام في الساحة الفكرية في أمتنا، ووقعت فلسفة الخضوع مرة باسم الحداثة التي قامت بتأليه الغرب مع معاداة مقومات القوى الحقيقية في شعوبنا، وأخرى باسم فقه الجحور الذي قام بتأليه الحكام والسلاطين وقتل روح الحرية والكرامة بين الناس وأخضع المستضعفين الُمُفَقَّرين إلى نخبٍ تُملى عليها الأوامر من المحتلِّ نفسه؛ حكام غاصبون لحق هذه الشعوب في ثرواتها وفي العيش وفق منظومة دينهم القيمية.
لقد بلغت الهيمنة الفكرية حد أن أصبح الغرب هو صانع العقول في أمتنا، عبر إعلامه الناطق بالعربية المصنوع على عين الاحتلال، وعبر النخب التي مكنت على دوائر التعليم، فجاء إلينا الغرب بأسماء أبناء جلدتنا يحدثنا عن رقي الرجل الأبيض بينما يداه تقطر من دمائنا…
لذلك لا بد من إعادة بعث شعوبنا وفق عالم أفكارنا المنطلقة من ذاتيتنا الحضارية، وفق رؤيتنا الخاصة كأمة تحمل الرسالة الخاتمة للبشرية، التي بموجبها يعود لشعوبنا قيمتها وﻷمتنا مكانها بين الأمم، لا بد من تحرر قيمي في عالم الأفكار وتحرر حركي في عالم الأشخاص وتحرر من الهيمنة الاقتصادية وكسر حظر امتلاك عالم أشياء القوة، إنها رحلةُ تَحَدٍّ لأمة تنتفض من جديد حيث يشارك كل فرد منها مهما كان موقعه في صناعة هذا التحرر.
التحرك بفكرة
تعتمد الدول الحاكمة في البلاد العربية بدرجة أولى -ومن خلفها الهيمنة العالمية وعلى رأسها أمريكا- على هدم خصائص عالم أفكار المسلمين، بضخ الخدر وإشاعة اللذة في نفس الوقت الذي تمسك فيه أنظمة هذه الدول صوتا يصفع كل فكرة خارجة عن الصندوق، هذه العملية من اللسعات المتكررة والترهيب الممزوج بإشاعة اللذة يُحدث مع الوقت ترويضا للعقول وإخمادا للأفكار الحية وتكوينا لعقلية استهلاكية متصالحة مع سموم الأفكار الهدامة، فلقد شيَّدوا موسم الرياض مكان موسم الحج والعمرة، ومهرجان قرطاج مكان العلم والابتكار في بلاد القيروان، وحفلات مهرجان موازين مقابل النبوغ في المغرب، والجونة مكان طريق سلمان خاطر ورفاقه في مصر، وغيرها… إنها ملهيات مخدرة لطاقات المسلمين ومكبلة لعالم أفكارهم، تغيبهم عن تحديات واقعهم، وخلف كل هذا يقف المستبد حاملا سوطه يصفع به الأفكار الخارجة عن طاعة أولياء الشيطان..
وإذا أصررتَ على التمسك برغبة التغيير، ستجد في واقعك مسارات معروفة، مصنوعة للتحكم في نتائج من يسير داخلها، كدفع الطامحين للتغيير مثلا إلى تكوين حزب ودخول المعترك السياسي داخل منظومة ومسار تتحكم الدول القمعية وأمريكا أصلا في مخرجاته، ليجد الحزب وقياداته نفسه داخل خطة البيت الأبيض…
إن تحرير عالم أفكار المسلمين لا بد أن يشمل عملية الخروج من سجون الفكرة التي شيدتها الحكومات والمناهج المستبدة المتخلفة، ثم رؤية العالم وفق منظومتنا القيمية المستمدة من إسلامنا وتاريخ من سبقونا في هذا الدين، والذين تحركوا به بصفته منهجا واقعيا لتحرير البشر من كل طغيان على هذه الأرض، والإبداع الذي أنشأته هذه الفكرة وهذه العقيدة…
واسأل عن محمد الزواري الذي حركته فكرة المقاومة، وأنشأت منه عقلا مبدعا في طريق الحرية، تدك اختراعاته من طائرات وغواصات اليومَ حصون الأعداء، وعن محمد صلاح الجندي المصري الذي أقدم على البطولة عندما حرر إرادته من تعليمات العسكر ومن قبله سليمان خاطر والدقاسمة و… واسأل عن انتفاضة الحجارة الفلسطينية التي لم يكن ليحسب لها العدو حسابا لكونها جاءت خارج المسارات المرسومة، والتي أنشئت فيما بعد جيل من المرابطين لا يرى إلا طرد المحتل الغازي، واسأل عن ثورات الربيع العربي التي كانت نقلة شعبية في الخروج عن المحددات الفكرية للدول الاستبدادية كخطوة أولى، وجاءت خارج الصندوق ليحاربها العالم كله فقط لإعادتها داخل الصندوق حتى برموز محلية…
واسأل عن بلاد أولى القبلتين التي حولت فكرة الحرية فيها السيارة إلى قذيفة، والسكين إلى بندقية، وتحولت البالونات إلى كرات حارقة، واسأل عن فكرة الحرية التي حولت روابط الألتراس إلى جنود لنشر الوعي والأفكار المضادة للرصاص…!