الاعتراف بالفضل بين العرفان والنكران

الاعتراف بالفضل خلق رفيع  تعرفه النفوس الكريمة، وتنكره الطبائع المتمردة اللئيمة، فهو لون بهي من ألوان الحياة الهانئة المستقرة، من دونه ستظل أيامنا وليالينا كلها سوداء قاتمة مكفهرة، فلا مكان فيه للأخضر والأزرق والأحمر، فالكل فيها شيء واحد، لونه واحد، وشكله واحد، وطعمه واحد، يتساوى فيه الأبيض بالأسود، والشجاع بالجبان، والجواد بالبخيل، وبناء عليه فلا قيمة إذن للجمال، ولا معنى حينئذ للجلال، ولا فائدة في معرفة معادن الرجال!

وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما هو الاعتراف بالفضل وما هي منزلته؟!  وكيف نرسخه في سلوكياتنا اليومية؟

إن الاعتراف  بالفضل هو الإقرار بفضل من يصدر منه الفضل دون جحود أو نسيان، جحود يغمط الحق، أو نسيان يستر الإحسان، ويكون الاعتراف بالفضل قلبًا وقالبًا، فهو أشبه بوردة سقيت بماء العيون، وتفنن خادمها في العناية بها، ثم أهداها لحبيب له، فازدانت الوردة وتعطرت وتجملت أملًا في شكر جميل صاحب الصنائع!

يا خلان: كونوا ورودًا ورياحيًنا لمن ملأ قلوبكم وعقولكم، ووقف معكم وأخذ بأيدكم زمن الأزمات والملمات التي كادت تعصف بكم وتقصم ظهوركم!

كيف ننسى فضل من أحسن إلينا يومًا، ولله در القائل:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم       فلطالما استعبد القلب إحسان

الاعتراف يكون ثناء عاطرًا باللسان، وعرفانًا للجهود المبذولة بالجنان، وحفظًا للجميل بالأركان على مدى الدهور والأزمان.

الاعتراف لصاحب الفضل في الأولى والآخرة

الاعتراف بالفضل هو معرفة صاحب الفضل في الأولى والآخرة، وهو المولى-تبارك وتعالى-فهو الممتن على الجميع، مسلمهم وكافرهم بما أسدى من نعم، وأولى من كرم، فنعمه لا تعد ولا تحصى، و كرمه لا يجحد ولا ينسى، قال سبحانه وتعالى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)

والله-سبحانه وتعالى-يدخل عباده الصالحين دار المقامة، ويسبغ عليهم من الخلد والكرامة، وهذا تفضل منه وكرم، فهو ذو الآلاء والنعم!

والدليل ما قاله صاحب الفضل الجزيل: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35))

الاعتراف بالفضل هو سمة رجال الآخرة ممن يرجون اليوم الموعود، فهم-حقيقة-أهل المروءة والجود، بخلاف ما يقوم به أضدادهم من الأعراض والصدود، وهم دعاة النكران و الجحود، من انكار للنعمة، وتناسٍ للفضل، ألم يقل الله تعالى عنهم: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا)

ولا أبشع من أن يتنكر الإنسان لعطاء خالق الأكوان!

الاعتراف بفضل الآخر

بهذه السجية الكريمة عُرف الفضل بالمكانة الشامخة ونفاسة القيمة، وفًهمت العلائق التي تجمع المتفضل والمتفضل عليه بالنوايا السليمة. مجتمع يترابط أفراده بالتعارف والتآخي والتعاون، والتناصر في غير تباهي ولا تهاون، مجتمع يعترف كل فرد فيه بقيمة الآخر، وينزله منزلته، فهو مجتمع مؤمن، تعيش بين أحضانه العفة وتتربى فيه الفضيلة، وتهرب منه الفحشاء وتموت عنده الرذيلة.

فكيف لو اعترف بعضنا بفضل البعض الآخر، ماذا يحدث؟!

إنه سؤال وجيه، ولا يطرحه إلا لبيب نبيه!

فبالاعتراف بالفضل نقوم ونرتقي، ومن دونه نقعد وننحني. بالاعتراف بالفضل يزيد العطاء ويكثر البذل، وبالنكران تنكمش الأيادي ويسود الجفاء والعذل.

بالاعتراف بالفضل يسمو الإنسان إلى درجات الإحسان، وكتوضيح مهم، لأجل الفهم الملم، فإن الاعتراف بالفضل يبدأ من شهود النعمة وذكرها، ورؤية التقصير في حق شكرها،فيستحي الانسان من نفسه ويخجل، فيعترف-أولًا-بنعم الله-عز وجل-التي لا حد لها ولا مد، قال عز من قائل: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ثم يتجه العبد بعدها إلى شكر ربه-سبحانه وتعالى-بقلبه ولسانه وجوارحه، ولا ريب فالرب هو المنعم الأول،  ثم يشكر بعد ذلك من يستحق الشكر من البشر، إذ المؤمن الحقيقي لا تبطره النعمة ولا تطغيه، بل هو عبد شكر من الطراز الأول، ويهش ويبش لمن أسدوا له معروفا، ويحمد صنيعهم ما عاش في الدنيا ولهذا قال الله تبارك وتعالى: ( ولا تنسوا الفضل بينكم )، وقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: ‹من لا يشكر الناس لا يشكر الله ›

بالاعتراف بالفضل  يتشجع  كل ذي فضل، فيستمر عطاؤه، ويزداد نماؤه، وتتواصل بذلك حركة المتطوعين والمبدعين والمنتجين في حياتنا، فالشكر لهم أعظم محرك ودافع، وغمطهم حقهم قد يكون أكبر مثبط و مانع!

وفي الآونة الأخيرة ظهر على الساحة  أقوام سذج في فكرهم و سوقة  في تعاملهم ورعاع في منهجهم، قد تنكروا لأولي الفضل الكرام، وجحدوا مكانة السابقين الأعلام، فناصبوا هؤلاء النخبة-جهلا وحقدا-العداء، ورموهم بمنجنيق الغدر، فضاع بذلك عقد الوفاء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإلى الله المشتكى!

إخواني  الكرام، فلنتأمل هذا الإرشاد النبوي إذ فيه مكافئة لأصحاب الصنائع على ما تقدم من إحسانهم، فلقد روى النسائي وأبو داوود عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم -: ‹من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله أعطوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به، فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه ›

وللاعتراف بالفضل أقسام:

منها ما كان من العبد لربه، وهذا أعظم الاعتراف بالفضل، قال الله تعالى: (ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين)

إلهي أنت للإحسان أهـــل             فمنك الجود والفضل الجزيــل

إلهي بات قلبي في هموم            وحالي لا يسر به خليـــــــــــل

إلهي جد وتب وارحم عبيدا         من الأوزار مدمعه يسيـــــــل

إلهي خانني جلدي وصبري         وحان الموت واقترب الرحيل

وعلى العبد أن يملأ قلبه بشعور الشكر والامتنان، ويكثر من الاعتراف بالفضل لصاحب الإحسان، وذلك بالقلب والجوارح واللسان، لما رواه مسلم عن عبد الله بن الزبير – رضي الله عنه- أنه كان يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: ‹لا إله إلا الله له الملك والحمد وهو على كل شيء قدير، لاحول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون› و قال: ‹ كان يهلل بها رسول الله دبر كل صلاة ›

ومنها ما كان من العبد للعبد، وهو على درجات بحسب درجة المتفضل عليك، وقربه منك، من ذلك فضل الوالدين على الولد  عموما، وفضل الأم الرؤوم، والقلب الحنون بصفة خاصة، ولله در القائل:

لأمك حق لو علمت كثــــيــــــر                كثيرك يا هذا لديه يسيــــــر

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكــــــي                لها من جواها أنة وزفيـــــــر

وفي الوضع لو تدري عليها مشقة            فمن غصص منها الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها               وما حجرها إلا لديك سريـــــر

آيها الأحبة:

ولما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – الأسوة في الأقوال والأفعال والأحوال، سأحاول أن ألتقط  لكم مشاهد رائعة ومواقف ماتعة من السيرة النبوية العطرة  تدلل للاعتراف بالفضل، وتحث الناس عليه،  نذكر منها – على سبيل المثال لا الحصر – ما كان  في حق الزوجة، ومنها ما كان في مقابلة الأصحاب، بل وصل الأمر حتى مع الأعداء من الكفار فصل الله على المصطفى المختار.

فقد اعترف النبي – بفضل زوجه خديجة بنت خويلد في حياتها، وحتى بعد مماتها، فكان يكثر من ذكرها وشكرها  والاستغفار لها، ويقول:إنها كانت وكانت، وربما ذبح الشاة فقطعها ثم أرسلها في صدائق خديجة

ومن الأحاديث التي تدل على فضل خديجة بنت خويلد المثير ما رواه الطبراني في المعجم الكبير عن عائشة – رضي الله عنها-قالت:‹ استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك وقال: اللهم هالة، قالت: فغرت، وقلت ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، قد هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها، فتمعر وجهه ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة، فقال: ما أبدلني الله –عزوجل- خيرا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء ›، فقالت عائشة: ‹والذي بعثك بالحق لا أذكرها إلا بخير ›

وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يحفظ الجميل لأصحابه، و يعترف بالفضل لأهله، إذ  ثمن النبي – صلى الله عليه وسلم – جهد جميع أصحابه المهاجرين منهم والأنصار، فقد روى أبو داوود والنسائي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ›

وبين أيدينا وثيقة حب نادرة فيها اعتراف نبوي بالفضل الكبير لأحد المهاجرين الكرام،و شيخ الصحابة العظام  أبي بكر الصديق – رضي الله عنه –  البطل الهمام،  فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء – رضي الله عنه- أنه قال: كنت جالسا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه  حتى أبدى عن ركبته،فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -:‹أما صاحبكم فقد غامر› فسلم وقال يا رسول الله: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال رسول الله: يغفر الله لك يا أبا بكر( ثلاثا)، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر؟ فقالوا: لا فأتى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فجعل وجه النبي يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال يا رسول الله : إني كنت أظلم (مرتين )، فقال رسول الله: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي (مرتين ) فما أوذي بعدها ›

ومما يدل على اعترافه- صلى الله عليه وسلم – بفضل الأنصار ما قد رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني– رضي الله عنه- أنه لما أفاء الله على رسوله يوم حنين، قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط للأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال:يا معشر الانصار أم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، عالة فأغناكم الله بي، كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن، قال:ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله!

ثم قال: ‹ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي – صلى الله عليه وسلم – في رحالكم؟

لولا الهجرة لكنت امرئا من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلك وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار،إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض›

يا له من كرم نبوي! وياله خطاب عاطفي!

رسم فيه الرسول النبي – صلى الله عليه وسلم- معالم المنهج في الاعتراف بأصحاب الفضل والكرم الجلي.

ومما يدل على حفظه الجميل للكفار، ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم بن عدي – رضي الله عنه- أنه قال: إن النبي –صلى الله عليه وسلم-  قال في أسارى بدر:  ‹ لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في  هؤلاء النتنى لتركتهم له › وهذا الحديث يشير إلى اعتراف النبي –صلى الله عليه وسلم- بجميله لما أدخله في جواره بعد أن رده أهل الطائف.

ومن يسد إليك معروفا فكن لــــه          شكورا يكن معروفه غير ضائع

ولا تبخلن بالشكر والقرض فاجزه        تكن خير مصنوع إليه وصانع

وفي الختام:  فلنرسخ هذا السلوك القويم في أنفسنا وأزواجنا وأولادنا وأصحابنا وجيراننا على أنه عبادة جليلة القدر هي الشكر للصنائع، والسعي في التعبير عنها بالذكر والثناء الحسن و التقدير والتبجيل، وذلك من باب إنزال الناس منازلهم، بإرضاء الله – تبارك وتعالى-  أولا وآخرا، ونسأل الله أن يجعل لنا ولكم  لسان صدق للآخرين! وصدق من قال:

دقات قلب المرء قائلــــــــــة له        إن الحياة دقائق وثــــــوان

فاجعل لنفسك قبل موتك ذكرها        فالذكرى للإنسان عمر ثان

اخوتاه: ما أحوجنا إلى الاعتراف بالفضل وحفظ الجميل!

وما أمس الحاجة إلى السير على نهج محمد – صلى الله عليه وسلم -المؤيد بجبريل، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل!

آيها الناس: اعرفوا لأهل الفضل مكانتهم، واشكروا لهم جميل صنيعهم وفعلتهم، تفوزوا وتنجحوا في العاجل، ويكرمكم الله بالثواب الجزيل في الآجل .

وصل الله وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم.

عبد الغني حوبة

أستاذ بمعهد العلوم الإسلامية جامعة الشهيد حمه لخضر الوادي-الجزائر، خطيب بمسجد الصحابة تكسبت الوادي، ماجستير… المزيد »

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى