النملة الإيجابية وسيدنا سليمان
وردت في كتاب الله آيات، فيها هدى وبينات، قالت نملة من أذكى الحشرات، كلمات يسيرات معبرات، فشرقنّ وارتحلن مغرِّبات، فيهنّ عبر وعظات، ووقفات وتأملات، ساهمت في الحفاظ على الكيانات، ونجت بفضلهن الملكة والعساكر والعاملات، فارتد صدى قولها وانتفعت به المجتمعات.
فسبحان من وفقها حتى شيدت صروحًا للمعالي شامخات، وتعالى من سددها حتى اتخذت موقفا مشرفا من الحادثات؛ فيه حياة من ممات، ويقظة من سبات، فيه وحدة بعد شتات، ورفعة بعد نكسات. إنه عالم النمل العجيب، في طياته سر غريب، يفقهه كل حصيف أريب.
فيا عجبًا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
تشمل كل قرية نملية طبقات: فهذه ثكنة الجنود الأثبات، ومخزن لادخار الأقوات، ومطبخ للمأكولات، وهذه غرفة لبيض الملكات، ومكان للحرس منعًا لتسلل الغرباء والغريبات، وذلك باب للتهوية، ومكان أخر للتنشئة والتربية. إنه مجتمع قائم بذاته، لكل نوع منهم مهماته ونشاطاته، قد يختلفون في الشكل والحجم واللون، وثمة يظهر الفرق والبون.
فأما الملكة
فهي أول الرقم وقمة الهرم، إنها ذات هيكل كبير ودور جد خطير، مهمتها إدارة الحكم والتسيير، ودقة التخطيط والتدبير. هي أساس التكاثر ووضع البيوض، ومنبع التوجيهات بما يضمن الرقي والنهوض، لها مكان آمن كالعريش، تخلو فيه بنفسها دون تشويش.
لم تكن الملكة في أبراج عاجية، محتجبة عن الرعية، بل كانت دائمة الاتصال مع البقية.
وأما العاملات
فهن مجتهدات متميزات، يشرفن على تربية الصغار وتتبع رحيق الأزهار، يدفن جثث الموتى بعد إعفاء الآثار، ويعتنين بزرع الفطريات والأغيار.
وأما العساكر
فلهم رؤوس كبار بزي عسكري يبعث على العزة والفخار، يحفظون العرين ويحرسون الديار، ويذودون عن الذمار بسيفهم الصارم البتار، لهم مكتب للاستعلامات والأخبار، مزودة بالأجهزة التي تعمل بقرون الاستشعار، ضف إلى ذلك التلقيح والاستكثار.
قامت لغتهم على أساسين:
التواصل بالفواصل، والإنذار بالإعذار، فالأولى تحكمها المواد القانونية للظروف العادية، والأخرى تطبق عليها نظرية الظروف الاستثنائية، فلو سحقت نملة أو أصابتها جائحة، لفاحت منها رائحة، تشير إلى من كانت عنها بعيدة سائحة، فرب مبلغ أوعى من سامع! وكم من خطاب أسال المدامع!
قصة النملة مع النبي سليمان
وقف سليمان يومًا أمام جنوده، وتمثل-عليه الصلاة والسلام- قبلة حشوده، في تجمهر كبير وتجمع غفير، لا يعرف أوله من أخره، ولا ظاهره من باطنه، فيا له من منظر بديع! احتشد فيه الجميع! اتسم هذا الموكب بالتناغم والانتظام، واتسق العقد بما يبهر الأنام:
فرسان ومشاة، رجّالة ورماة، جن وإنس، طير وحرس.
لقد ربى سليمان-عليه الصلاة والسلام-شعبه على السمع والطاعة، ولزوم الجماعة، فالله مقصودهم، وهو إلههم ومعبودهم، دعاهم إلى التأمل ونشر الوعي، ونهاهم عن البطش والبغي، فأنّى تشرق شمس مع غيم!
وكيف يُجتلب إنصاف بضيم! فالجزاء من جنس العمل، وكل مخلوق له أجل، فلا تغترنّ بطول الأمل! الكل على أهبة الاستعداد، للسير في البلاد، وتجاوز المفاوز والوهاد.
إنه جيش عرمرم ينتظر من قائده الإشارة، دونما حاجة إلى صريح العبارة، فلمّا أذن القائد لهم ومشى، تحرك الجيش بعده يحث الخطى، حتى أتو على وادي النمل وصولا، ينظرون فيه عرضًا وطولًا.
يا تُرى فما الذي حدث؟ وهل كان على سبيل الجد أو العبث؟
أدركت النملة الخطر وعرفت مصدره، وتبينت أوله وأخره، وهذا هو أول ما يحتاجه المجتمع من الوعي بالأخطار، وفهم المؤامرات الكبار.
عرفت بمخها الصغير أن وادي النمل لا قبل له بهذه المواجهة، فقررت بجرأة الانسحاب من دون مجابهة، فليس الرجوع للوراء دومًا مذمومًا، فقد يكون نبوغًا وعلومًا، فانبرت النملة تنشد في الحال من غير انتحال: يا أيها النمل احذروا أقدام الرجال!
لم تتفلسف النملة في تقدير نوايا القائد والجندية، بل تحملت على عاتقها كامل المسؤولية، فأخلصت في النصح للرعية وجادت بنفسها الزكية إذ قدمت خدمة مجتمعية، وتصرفت بما تمليه عليها الإيجابية: أن “ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون”
يا أيها الإنسان:
كن جزء من الحل ولا تكن جزء من المشكلة، كف عن النقد السلبي وساهم في حل المعضلة. كأني بالنملة تقول بملء فيها، بصياغتها ومعانيها، و بأوزانها وقوافيها: أرعى الجار ولو جار، وأبذل الوصال لمن صال، وأود الحميم ولو جرعني الحميم، وأوفي العشير ولو لم يكافئ بقطمير.
يعيش النمل حياته بأنماط راقية، بهمم عالية، وفق أهداف سامية، فهو مجتمع التكافل والتعاون، لا مكان فيه للمتثاقل والمتهاون. النمل يؤمن بالعمل كمنظومة قيمية، ويكافئ المجتهدين بالعطية، يحفظ المدخرات الغذائية، بما يحقق الاكتفاء الذاتي في الصوائف والشواتي.
قل لي بربك: هل رأيت في حياتك نملة فارغة اليدين؟ أم وجدتها تبكي لأنها لم تسدد الدين؟ هل شاهدت يومًا نملة تتسول؟ وبغير فائدة تهرف بما لا تعرف وتتقول؟
لا وألف لا، هذا وإن كانت النملة حشرة، فهي قد تفوق من العاطلين عشرة، فخذ من عملها الدؤوب العِبرة، فلا تيأس ولا تذرف العَـبرة، النملة معهد بل جامعة، فيها تدرس العلوم النافعة، وتقام التجارب بالبراهين الساطعة، فتعلم منها البذل و الإيجابية ودع عنك اللوم والتقاعس والسلبية.
تكلمت بلغة التخاطب وغايتها شد الانتباه وإحراز التجاوب، قالت يا أيها النمل، فحددت فئة المخاطبين، وعينت جمهور المستمعين. ادخلوا مساكنكم: أمر يقتضي الوجوب إذ دقت ناقوس الخطر، وحالة الطوارئ ترمي بالشرر، فأشارت عليهم بالاختفاء خشية الهلاك والانتهاء، ثم اعتذرت النملة في النهاية، لما قد يقع من سليمان وجنده من جناية. أدرك سليمان رسالتها، وأُعجب بإخلاصها ونصيحتها، فهش وبش وتبسم، وشكر نعمة ربه الأكرم، ثم دعا ربه أن يدخله في زمرة الصالحين.
قامت نملة ونحن نيام، فأمسكت بالزمام، وتخلت عن تضخم الأنا أو قلة الاهتمام، عرفت حدود إمكاناتها، فحذرت بني جنسها وفق مقدراتها، لقد أخلصت لقومها في النصيحة السلمية، على الرغم مما يعرف من النمل بنزعتهم العدوانية وشراستهم الحربية. يا لله ما أشجعها وما أروعها! أرادت الخير لمجتمعها. تقدس من أعطاها الحس الأمني، وسخرها لحفظ الأمن القومي. رسمت بحروفها برقية تحذير من خطر داهم وشر مستطير!
أخيرًا وليس آخرًا، هي دعوة للتأمل في أصناف الخلق وبديع صنع الخالق. إنها نملة قالت وقامت، فصالت وجالت، قالت مقالة صدق، وقامت على تنفيذها بحق، دار ببالها خاطر، درأت به عن شعبها المخاطر.