تضيع الأمة ما بين محتل يزرع الفتن وحكام جهلة يخوضون غمارها!

إننا تركنا وراءنا آثارا لا تزول بمائتي سنة!

هكذا قالها-بنوع من التشفي-وزير الخارجية البريطاني وينستون تشرشل بعد رحيل بريطانيا من مستعمراتها في الشرق الأوسط ، والآن وبعد مرور أكثر من نصف قرن على جلاء الاحتلال من الدول العربية فما زلنا نحصد ما زرعوا حتى اليوم!

حينما اختلفنا وتخلفنا عن ركب الحضارة وتفرقت الأمة شيعا ووثبت أوروبا على الشرق تصفعه بيدها وتركله برجلها حتى استفاق على تلك الضربات كما قال الشيخ سيد سابق عليه رحمة الله، فوجدت نفسها قد تخلفت عن القافلة وتأخرت الأمة حتى أصبحت في زيل الأمم، وأصبحت مقاومة المحتل الخيار الأوحد فكانت تتعمد دول الاحتلال الأوروبي قبل خروجها من مستعمراتها في الشرق خلق مشكلة في كل دولة احتلتها لكي تظل هذه الدول تدور في حلقة مفرغة وفى دوامة من المشاكل والمعضلات التي لا تنتهي وتظل في تبعية مطلقة للمحتل رغم رحيله.

لا يسعنا هذا المقال أن نذكرها كلها أو حتى جلها، ولكني سأعرض عليكم ثلاث مشكلات خلقها الاحتلال قبل خروجه من دولنا العربية ما زلنا نعاني من أثارها حتى الآن .

أوغادين

من أوغادين نبدأ… منذ أن سقطت عدن في يد الإنجليز سنة 1839م وهم يتطلعون إلى الصومال وخصوصا مينائي زيلع وبربرة اللذان تسيطر عليهما الإدارة المصرية، وأخيرا وبعد سقوط القاهرة سنة 1882م في يد الانجليز استطاعت بريطانيا الضغط علي الإدارة المصرية للانسحاب من مينائي زيلع وبربرة ثم سيطرة القوات البريطانية عليهما.

وفى عام 1869م اشترت إيطاليا ميناء عصب وعقدت عدة اتفاقيات حماية مع شيوخ الساحل الصومالي، ثم تأجير كسمايو عام 1889م ومقديشيو نفسها عام 1892 م ، وأخيرا أعلنت إيطاليا الحماية على الصومال الجنوبي سنة 1896م .

ولم تتأخر فرنسا حيث اشترت ميناء أوبوك-في جيبوتي-عام 1862م، وفى عام 1888م اتفقت فرنسا وبريطانيا على أن تكون جيبوتي لفرنسا وزيلع لبريطانيا .

وهنا يصبح الوضع أكثر تعقيدا ، حيث أنه قبل نهاية القرن التاسع عشر كانت أراضي الصومال محتلة من ثلاث دول أوروبية مقسمة بينهم ، ففي الشمال (جيبوتي حاليا) احتلال فرنسي وفى الوسط الاحتلال الإنجليزي وفى الجنوب الاحتلال الإيطالي.

مقاومة الشعب الصومالي

لم يتوانَ الشعب الصومالي عن المقاومة بل وصلت المقاومة ذروتها حينما أعلن الزعيم السيد محمد عبد الله حسن الصومالي الجهاد ضد المستعمرين بجميع أنواعهم سنة 1899م، واستمرت المقاومة والجهاد ضد المستعمرين حتى تولت المقاومة زمام الأمور فس البلاد من الأربعينات حتى إعلان الاستقلال .

خلال الحرب العالمية دارت الكثير من المعارك والحروب بين الطليان فس الجنوب والإنجليز فى الوسط حتى عام 1941م استطاع الإنجليز السيطرة على الصومال الإيطالي.

اقرأ أيضًا: المقاومة الإسلامية في الصومال كما لم تسمع عنها من قبل

تطور الأحداث في الصومال

وتطورت الأحداث وبشكل مفاجئ قامت بريطانيا سنة 1948م  بإهداء إقليم أوغادين الصومالي لأثيوبيا ومنطقة إنفدى لدولة كينيا، فص حركة لا يمكن وصفها إلا بالخبث الأسود والحقد الدفين والمكر السيئ فص تخطيط مسبق ونظرة ما بعدية إلى ما بعد رحيل بريطانيا وتأمر بتدبير ناتج عن حقد دفين لإدخال الصومال فص دوامة من الحروب لاسترداد أرضها في مجازفة غير معلومة عواقبها.

استقلال الصومال

ويمكن أن نقول إن هذا بالفعل ما حدث، حيث أنه في أواخر يونيو 1960م استقل الصومال البريطاني وتبعه بثلاثة أيام استقلال الصومال الإيطالي ليتحدا مكونين جمهورية الصومال، وبقي الصومال الفرنسي تحت الاحتلال حتى عام 1977م لتخرج منه فرنسا بعد أن تأكدت من انفصاله وإعلان الصومال الفرنسي نفسة دولة مستقلة (جيبوتي حاليا) .

نزاع الصومال وكينيا

بالفعل ونتيجة للسياسات الحقيرة للإنجليز دخلت الصومال في نزاع حدودي مع كينيا من أجل منطقة إنفدي سنة9631م ولكنها لم تتمكن من استعادتها، وفى سنة 1964م دخلت في نزاع مسلح مع أثيوبيا من أجل إقليم أوغادين التي لم تتمكن أيضا من استرداده، وفى عام 1977م-1978م تدخل الصومال حرب مع أثيوبيا تمكنت الصومال خلالها من السيطرة على 90 % من الإقليم ولكن نتيجة للدعم السوفيتي الكاسح للحكومة الشيوعية في أثيوبيا أجبرت القوات الصومالية على الانسحاب من أغادين دون تحقيق الهدف المنشود.

وما زال حلم الصومال الكبير يراود الصوماليين، أمليين في يوم من الأيام أن يجمعهم وطن واحد.

شط العرب ما بين الحاضر والأمس

لن أخوض كثيرا فيما حدث هناك في شط العرب، ولكن يمكننا أن نبدأ بذكر أبعاد القضية، حيث ورثت الدولة العراقية الحديثة تركة الدولة العثمانية ومعاهداتها فيما يخص الحدود بين العراق وإيران وخصوصا في منطقة شط العرب، وشط العرب هذا هو ممر مائي ناتج عن التقاء نهري دجلة والفرات ويبلغ طولة 204 كم، ويرجع ترسيم أول خط حدودي بين العراق وإيران إلى عام 1648م وكانت بين الدولة العثمانية والدولة الفارسية وسميت بمعاهدة زوهاب، تبع هذه الاتفاقية الكثير من المفاوضات والاتفاقيات وصولا إلى اتفاقية القسطنطينية 1913م التي لم تخلو من تدخل الإنجليز وتنازلت الدولة العثمانية عن جزء من سيادتها على مياه شط العرب أمام منطقة المحمرة وبطول 7.25 كم وظل شط العرب يخضع كاملا للسيادة العثمانية ما عدا المناطق التي تم استثنائها في الاتفاقية.

اتفاقية 1937

وبعد قيام الدولة العراقية الحديثة سنة 1921م تحت الانتداب البريطاني مارست بريطانيا الضغوط على الإدارة العراقية لتوقيع اتفاقية 1937م التي تنازلت بموجبها عن حوالي 16 كم من مياه الشط العرب أمام منطقة عبدان لصالح إيران، وذلك لتأمين مسار وحركة ناقلات النفط الإيراني من عبدان بالإضافة للسماح للسفن الحربية الإيرانية بالدخول عبر شط العرب حتى الموانئ الإيرانية.

اتفاقية الجزائر 1975

وبعد أن وضعت الولايات المتحدة يدها على معظم النفط الإيراني خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وبوازع من الانجليز والولايات المتحدة يقوم الشاه محمد رضا سنة 1970م بإلغاء اتفاقية 1937م من طرف واحد مستغلا ضعف الإدارة البعثية في العراق، بل حشدت إيران قواتها العسكرية فارضة أمرًا واقعًا جديدًا على مياه شط العرب معتبرة أن خط المياه العميقة وسط النهر هو الحدود الفاصلة بين الدولتين، ثم إجبار العراق نتيجة للاضطرابات الداخلية على توقيع اتفاقية الجزائر 1975م التي تنازل فيها عن حقوقه التاريخية في مياه شط العرب مقابل وقف إيران دعمها للتمرد الكردي في شمال العراق.

موقف صدام حسين من اتفاقية الجزائر

وبذلك تكون استطاعت إنجلترا والولايات المتحدة تأمين مصالحهم وإراداتهم من النفط  الإيراني وزرع فتيل مشكلة حدودية  يمكن أن تستيقظ في أي وقت، حين يرغب أي طرف أن يطالب بأحقيته فيها .

وبالفعل، بعدما وصل الرئيس العراقي صدام حسين إلى قمة هرم السلطة في العراق مستغلا ضعف النظام الحاكم في إيران ليطالب عام 1979م بمراجعة اتفاقية الجزائر، لتوتر العلاقات بين البلدين حيث في 17 سبتمبر 1980م  ألغى صدام حسين اتفاقية الجزائر داعيا إلى عودة السيادة العراقية على كامل شط العرب، قتتصاعد وتيرة الأحداث وتقوم إيران بتحرشات عسكرية وقصف بالمدفعية للمدن العراقية على الضفة الأخرى من الشط ، ليرد عليها الجيش العراقى في 22 من سبتمبر باجتياح الأراضي الإيرانية، لتبدأ حرب ضروس لمدة  ثمانية أعوام، أستُنزف خلالها البلدين بصفة عامة والعراق بصفة خاصة، وتعتبر الحرب العراقية الإيرانية أو حرب الخليج الأولى هي أطول حرب في القرن العشرين وقع خلالها أكثر من مليون قتيل و خسائر تقدر بـ 1.19 تريليون دولار.

وما زال الوضع في شط العرب على ماهو عليه متأرجح بين اتفاقية الجزائر 1975م والحدود التاريخية للعراق واتفاقية 1937م.

أخيرا وليس أخرا مثلث حلايب وشلاتين

وضع السودان قديما

لم يكن السودان المعروف حاليا بحدوده الحالية موجود قبل قرنين من الزمان، بل كان يحكم السودان عدة ممالك إسلامية الديانة عربية الثقافة، منها السلطنة الزرقاء أو مملكة الفونج فى سنار وسلطنة الفور في الغرب ومملكة تقلى في جبال النوبة  ومملكة المسبعات في كردفان، ومملكة الداجو ومقر حكمها كلوا  في الغرب الأقصى ومملكة البجا وعاصمتها هجر في الشرق .

السودان في عهد الدولة العثمانية

وفى عام 1822م وفى عهد الوالي العثماني محمد علي باشا استطاع الجيش المصري ضم السودان الشمالي كاملا لمصر ما عدا سلطنة دارفور، وفى عهد الخديوى إسماعيل استطاع ضم جميع المناطق الاستوائية حتى أوغندا سنة 1875م  ثم سلطنة دارفور فى وقت لاحق، ومن هنا بدأت تتشكل ملامح الدولة السودانية الحالية ككيان سياسي موحد، وخلال فترة حكم أبناء محمد علي باشا على مصر والسودان لم يكن هناك حاجة لرسم حدود بين مصر والسودان ولم يتم تحديد أو محاولة أو مجرد التفكير في رسم حدود بين مصر والسودان، وظل الأمر هكذا لبرهة من الزمن حتى هزيمة جيش عرابي سنة 1882م حيث سقطت القاهرة واستطاع الإنجليز خلال الأعوام التالية السيطرة على باقي الأراضي المصرية ثم القضاء على الثورة المهدية والسيطرة على السودان سنة 1898م، ثم تشكيل اتفاقية الحكم الثنائي سنة 1899م والتي كانت باختصار شديد احتلال انجليزي له مطلق الحكم بصورة اسمية للمملكة المصرية، وتم تحديد خط عرض 22 شمالا هو الحد الفاصل بين الدولتين–التي كانت قبل وصول الإنجليز دولة واحدة.

وضع مثلت الحلايب تحت إدارة السودان

ونظرا لانتشار قبيلتي البشارة السودانية والعبابدة المصرية على جانبي الخط، قررت الإدارة البريطانية-المسيطرة على السودان وصاحبة الحماية على مصر-في عام 1902 وضع مثلث حلايب تحت إدارة السودان بسبب امتداد قبائل البشارة السودانية فيه، وبحجة أن المثلث أقرب إلى الخرطوم منه إلى القاهرة، وبذلك يكون الإنجليز قد انتهوا من وضع أساس أزمة ومشكلة حدودية على أمل منهم أن تنفجر يوما ما.

الخلاف بين مصر والسودان على مثلث حلايب وشلاتين

وبعد رحيل الإنجليز سنة 1956م وانفصال السودان عن مصر، أدرجت الخرطوم سنة 1958م حلايب وشلاتين كدائرة انتخابية سودانية، ردت عليها القاهرة بإرسال مذكرة لإخطار الخرطوم بأن حلايب وشلاتين هي أرض مصرية تقع فوق خط 22 شمالا، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها عن وجود مشكلة حدودية بين مصر والسودان.

ظلت حلايب تحت السيطرة السودانية بموجب القرار البريطاني عام 1902، بينما ظلت مصر تعتبرها أرضا مصرية بموجب اتفاق ترسيم الحدود سنة 1899م، وفى عام 1990م أصدرت مصر قرارا جمهوريا يوضح الحدود المصرية بما فيها حلايب وشلاتين، تبعها سنة 1992م توغل للقوات العسكرية المصرية في حلايب، ورغم اعتراض الطرف السوداني وتقديمه لشكوى في مجلس الأمن إلا أن رد وزير الخارجية المصري حينها قاطعا ومؤكدا مصرية مثلث حلايب وشلاتين وموضحا أن التسهيلات والصلاحيات التي منحتها القاهرة للخرطوم في إدارة المنطقة لا تجعلها بأي حال أرض سودانية ، وقبل النظام السوداني بالأمر الواقع منشغلا بحروبه في الجنوب ومشاكله الداخلية واختفت القضية من على الساحة لفترة من الزمن حتى عادت للظهور مرة ثانية منذ 2010م وحتى الآن.

هل ستتسبب مشكلة حلايب وشلاتين بنزاع عسكري بين مصر والسودان؟

ربما يظن أفضل المتفائلون أنه لن تقوم حرب بين الطرفين مع وجود الجيل الحالي والإدارة الحالية في الخرطوم والقاهرة والتي ترفض الحل العسكري كخيار، ولكن هل سيستمر رفض الحل العسكري كخيار في المستقبل القريب أو هل سيستمر الوضع كما هو عليه بعد عدة تغيرات في الأنظمة الحاكمة في كلا الدولتين؟  ربما لا، بل بالتأكيد لا، لأن هذا النفق الذي نسير فيه ونرى علاماته ومنعطفاته في تصريحات الإعلاميين والمسؤولين قد سار فيه من قبلنا شعوب وأمم فأوصلهم إلى مستنقع النيران، ونحن الآن أوشكنا على نهاية النفق بل أصبحت نهايته على بعد مرمى حجر منا.

ومما يحيرني حقا ويثير التساؤل في نفسي، هو منطق الجهلاء وجهل الأغبياء، فبينما يعلو أصوات أهل الشمال (المصريين) مطالبين بقطعة أرض لا تزيد عن 20.5 كم مربع (حلايب وشلاتين) معتمدين على حدود رسمها أعدائنا (الإنجليز) على طاولة اجتماعات في لندن ليس لها علاقة بالواقع إطلاقا ( اتفاقية 1899م) ، تجد في المقابل أهل الجنوب (السودانيين) عاكفين على قرار (قرار 1902م) الذي اتخذه نفس العدو (الإنجليز) لمحاولة إثبات ملكيتهم لهذه الأرض .

ربما حفرت بريطانيا النفق ولكننا نحن من دخلناه، فبينما هؤلاء يحاولون جاهدين لإلغاء كافة الحدود والفواصل بين دولهم ومجتمعاتهم، يدفعوننا لنتقاتل ونستميت على حدود بين دولنا ومجتمعاتنا لم نضعها بيننا بل هم من وضعوها لنا لإحداث تفرقة وصدع في مجتمعنا ، هل وصل بنا الغباء لهذا المنحدر؟ متى نكف عن تقديس هذه الحدود التي رسمها لنا أعدائنا ونتفق ولو لمرة على نبذ هذه الحدود التي تقسم دولتنا التي لطالما تربعت على عرش التاريخ وصدارة الأمم إلى دويلات لا قيمة لها؟

ويبقى السؤال الأخير

متى نوقف هؤلاء الانقلابين الجهلة، الذين وصلوا إلى سدة الحكم في كلا البلدين عن طريق الانقلاب، واستمروا في الحكم من على ظهر الدبابة التي أتوا عليها؟ هؤلاء الذين يدفعوننا للسير قدما نحو هذا النفق المظلم الذي يعلم جميعنا أين سينتهى بنا، متى نقف لهم ونأمرهم بالخروج منه؟ متى نستبدل هؤلاء الأغبياء–من الإعلامين والسياسيين الجهلاء–المناديين بالعصبية والقومية العفنة؟ والمناداة بالتوحد ونبذ الفرقة؟


م. عبد السلام عصر

عبد السلام عصر

مهندس مدنى، وباحث فى التاريخ الاسلامى، وكاتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى