العبرة من متتالية الفشل التغريبي
بدأت المشاريع النهضوية في بلادنا بطموحات فردية استقلالية، أدت إلى عكس المراد منها، لأنها تركت أقطارها وحيدة في مواجهة غيلان الدول الكبرى بعيدة عن الكيان العثماني الجامع، وكانت متتالية التغريب كالآتي:
من التقليد للحصول على قوة الغرب والتصدي له، زمن العثمانيين، إلى تقمص الغرب، وإلغاء الذات، والرضا بالاستسلام لمصالحه، زمن دولة التجزئة
كان التغريب العثماني مستقلًا يستهدف الوصول إلى ما وصل الغربيون إليه من قوة، ليتصدى لهم ويرفع شأن أمته بذلك، ولكنه سلك طريقًا مسدودًا، لأن نهضة التغريب عصية، سواء بالاتفاق مع الغرب أو بمناوأته: المنفعة تمنعه من مساعدة أقطاب تستغني عنه، هذا فضلًا عن استحالة تكرار نموذجه الذي اعتمد على إبادة ونهب واسترقاق العالم ابتداءً، وانتهى باحتكار 20% من البشر 80% من موارد الأرض. ثم إن مصارعة الغرب تؤدي إلى التحطم بعد الاعتماد عليه، كما حدث في أكثر من تجربة نهضوية سلكت مسلك التغريب وحاولت الابتداء بالتنسيق مع الغرب منذ محمد علي، ثم ثورة يوليو 1952 في مصر، ثم ثورة تموز 1968 في العراق.
ولكن لماذا رفض الغرب تطوير تابعيه؟
السبب في ذلك هو أن تطوير المستعمرات سيجعلها منافسة للمستعمِر نفسه على موارد الأرض، التي يسعى دائمًا لاحتكارها، فكيف يحدث ذلك في حضارة مثلها الأعلى ومرشدها هو مبدأ المنفعة والبقاء للأقوى؟ وقد اعترف الرئيس الأمريكي السادس (جون كوينسي آدامز) أنه في الحالات القليلة جدًا التي قام فيها الأمريكيون بنقل مزايا الحضارة إلى الهنود، أنشأ الهنود بعدها كيانات سياسية صارت تنافس الولايات الأمريكية على السيادة على الأراضي التي تقوم عليها، والتي يصر البيض على امتلاكها. والتحضر يجعل الهندي رافضًا عملية الرحيل عن أرضه كما يرفض الأبيض ذلك ويفضل الاستقرار، وهو حال يجب أن يتوقف وألا ينجح الهندي في هذه المنافسة كما قال الرئيس. وقد انتهى الأمر فعلًا بتدمير تجارب الهنود الحضارية وقذفهم في بحور البؤس والفقر والمرض والإدمان.
-
المستوطن الأمريكي والهندي الأحمر
وكان المستوطن الأمريكي يرفض أن يتطور الهندي لأنه حينئذ سينازعه على امتلاك الأراضي التي يطمع المستوطن فيها ويريد طرد الهندي منها؛ أي أن رفض تطوير الهنود، وغيرهم في بقية المستعمرات، لم يكن متعلقًا بأنظمة استبدادية في القمة، بل كان رغبةً في القاعدة الجماهيرية عند المستعمِرين. ولا غرابة حينئذ أن قرارات الاستعمار كانت ديمقراطية، ولهذا يخطئ من يظن أن الديمقراطية نظام معصوم عن الخطأ.
-
الصهاينة في فلسطين والإنجليز في مصر
وهذا ما فعله الصهاينة أيضاً، فهل كان المستوطن القادم من شرق أوروبا للحياة في فلسطين مهتمًا بتطوير الفلاح العربي وتعليمه وسائل الزراعة الحديثة، ليزدهر في أرضه ويزداد تمسكًا بها، أم أنه يريد اقتلاعه منها ليحل محله ويطرده بعيدًا ليأتي بمزيد من المهاجرين والمستوطنين من أصقاع الأرض؟ وهل كان الإنجليزي مهتماً بتطوير صناعة النسيج في الهند لتنافس صناعاته، أم بترويج صناعاته وقمع الصناعات الهندية؟ وهل كان البريطاني في مصر مهتمًا بتعليم المصريين وتطوير بلادهم ليطالبوه بعد ذلك بالاستقلال ورحيله عنها، أم بجعلها مزرعة قطن تقضي على زراعة القمح للغذاء وتجعل هذا البلد التاريخي الثري بأرضه الخصبة فقيرًا في الاكتفاء الذاتي ولا يستطيع إطعام نفسه ليخدم حاجات مصانع النسيج في لانكشاير التي تروج بضائعها المصنعة على حساب الصناعات المصرية أيضاً؟
الاستعمار يرفض نشوء عملاق في منطقتنا
الخلاصة أن الاستعمار لا يريد أن تنافسه مستعمراته وأشباهها ومن باب أولى أن يرفض نشوء عملاق في منطقة حيوية كبلادنا مازال يحتفظ بذكريات الصراع المرير، لكسر إرادتها الموحدة تحت راية واحدة. ولهذا رفض تطويرها وحطم نهضاتها واستغلها لصالحه فقط كما يأمره مبدؤه النفعي في الحياة؛ وهذا ما أكده عميد السياسة الخارجية الأمريكية (هنري كيسنجر) حين قال:
لمدة أكثر من نصف قرن، وجّهت عدة أهداف أمنية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط : منع أية قوة في المنطقة من الظهور والهيمنة، ضمان تدفق موارد الطاقة التي ما زالت ضرورية لتشغيل الاقتصاد العالمي، ومحاولة القيام بدور الوسيط بين إسرائيل وجيرانها من أجل قيام سلام دائم
في مقال بعنوان: “توجه جديد للتدخل” (صحيفة الواشنطن بوست 31/3/2012). كيف يراهن أي ساذج بعد ذلك على تحقيق النهوض اتكالًا على الغرب؟
بين التغريب العثماني وتغريب دولة التجزئة
لقد اصطدم التغريب العثماني بمن نشأ في حضنهم، ودخلت جمعية الاتحاد والترقي الحرب الكبرى 1914 لتكسر قيود الغرب وانتهي التغريب المستقل بهزيمته. وهذا ما حدث مع جميع النهضويين التغريبيين الذين حاولوا الخروج عن الطوق.
عرف تغريب دولة التجزئة حجمه، فتخلى عن مشروعه وألغى ذاته، واختار تقمص مصالح الغرب وخدمتها، بدل تقليدها؛ كما حدثت في بلاد المنشأ، فرأيناه يسوق برامج التجزئة التي تناقض الواقع الغربي التكتلي، وبرامج التجارة الحرة التي لا يلتزم الغرب نفسه بها، وبرامج العولمة، والاستسلام، ومعاداة الأمة، والغزو الغربي، والاحتلال الصهيوني، التي لا يرضى الغرب بتطبيق معظمها على نفسه، كل ذلك بحجة واهية هي الوصول للنموذج الياباني الذي لم يحققه أحد من الحكام المتغربين منذ النموذج الكمالي في تركيا، إلى النموذج الأفورقي في أريتريا، وها نحن اليوم أمام النموذج الجنوبي في السودان، وقبلها النماذج الليبرالية الأولى في العراق الملكي، ومصر الوفدية، وتونس بورقيبة، رغم استسلامها المطلق للغرب.
وكل ما أنجزه نموذج التغريب هو الاستمرار في البقاء مع التخلف. وكل من حاول الخروج على هذه المعادلة ليقلد ما صنعه الغربي لنفسه تم تحطيمه بالقوة، وساعد على ذلك قلة إمكانات الدولة القطرية التي انطلقت منها المشاريع في مواجهة الكبار. ولم يمانع الغربيون بالاستعانة بنماذج صنفوها كتراثية متخلفة لضرب نماذج التحديث التي خرجت عن الطوق الغربي، منذ الثورة العربية الكبرى، إلى الحلف الإسلامي ضد مصر، إلى غزو العراق.
الديكتاتورية الغربية
ولا تخدعنا تهم الديكتاتورية، فقد أدى الاستبداد والدموية والإرهاب في الداخل الأوروبي دورًا محوريًا في نهوض الغرب المعاصر منذ عهد الإصلاح الديني ومستبديه ودمائه، إلى كرومويل في إنجلترا، إلى لويس الرابع عشر في فرنسا، ثم عهد إرهاب الثورة الفرنسية، ثم حروب نابليون، وبعد ذلك الحرب الأهلية في أمريكا، هذا إذا طرحنا الدور الأعظم الذي أداه استبداد ودموية الاستعمار الخارجي.
بالإضافة إلى دور الديكتاتوريات الألمانية والإيطالية في نهوض بلادها رغم محاولة الغرب الحثيثة، ولكن الفاشلة، للتنصل من تبعاتها؛ فقد استندت وإن بتطرف إلى نفس مسلّمات الحضارة الغربية العامة وكان لها من الآثار ما يفوق صلة التطرف بالإسلام وآثاره الهامشية فيه، كل هذا ومازال أنصار الغزو والاحتلال دون الاعتبار به، وعلى أصحاب المشروع الإسلامي الذي طرح آمالًا كبارًا في الماضي أن يفي بوعوده ويستفيد من دروس غيره، فلا يسعى للتأقلم مع الظروف الغربية التي قهرت غيره ممن هم أقرب إلى الغرب منه، وإلا فإنه سيسير في نفس المتتالية التغريبية التي أنهكتنا فيما سبق وإن طرح لها ديباجات إسلامية شكلية.