الثورة الإيرانية: مُختصر القصة
هذا المقال هو ترجمة بتصرف لمقال World politics explainer: the Iranian Revolution لكاتبه محمد أوزالب. الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وتوجهات تبيان.
لفهم أسباب الثورة الإيرانية، يجب علينا أولا أن نفهم الصراع المستمر الذي تدور رحاه بلا هوادةٍ في المجتمعات الإسلامية بين العلمانيين الذين يجتهدون في فرض نماذج الحكم العلمانية، وبين المسلمين الذين يرَوْن ضرورة الحُكم بمرجعية إسلامية.
ـــ بدأت القصة مع الاستعمار البريطاني للهند في عام 1858، الحدث الذي كان ضربةً مُوجِعة في جسد الحضارة الإسلامية الذي اشتد سقمه في تلك الفترة، وكان عامِلا أساسيًّا في انهيار الحضارة الإسلامية كليا بعد أقل من قرن من وقوعه. وبحلول القرن العشرين، كان العالم الإسلامي بأكمله تقريبا مُستعمرًا من قبل القوى الأوروبية.
انهارت الإمبراطورية العثمانية، آخر ممثل للحضارة الإسلامية، بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1918. وهكذا، شهِد النصف الأول من القرن العشرين نضال الشعوب المسلمة وكِفاحِها لنيل استقلالها واسترجاع سيادتها.
وبعد موجات التحرر الشعبية نالت الشعوب استقلالها. ثم استطاعت النُخب العلمانية والوطنية القبض على زِمام الحكم، واكتسبت السيطرة السياسية ونالت القيادة في بُلدانها. أراد هؤلاء القادة تقليد أوروبا في تخفيفها من قبضة الكنيسة على المجتمع والسلطة، واعتقدوا أن المجتمعات الإسلامية سوف تتطور إذا ما تمت تعريتها من الإسلام، أو على الأقل تقليل تأثيره على المجتمع من خلال فصل الدين عن الدولة، وحصر الإسلام في عِباداتٍ تُؤدّى في أديرته المخصصة.
وما حدث في تركيا أوضحُ مثالٍ على هذا، فإحدى الإصلاحات الرئيسية التي تبنتها جمهورية أتاتورك العلمانية الجديدة هي إزالة الخلافة العُثمانية، وتجريد الخليفة (الزعيم الديني والسياسي الذي يُعتبر في الإسلام خليفة رسول الله) من منصبه في عام 1924، الأمر الذي شكّل صدمةٍ لم يسبق لها مثيل في العالم الإسلامي.
اقرأ أيضا: جناية أتاتورك وإسماعيل الصفوي على تركيا وإيران
تسبب هذا في ظهور حركاتٍ إصلاحية إسلامية تهدف إلى إحياء الإسلام من جديد يقودها العُلماء الذين تنبّهوا لهذه الموجة العلمانية الاستئصالية، وعلِموا أن تمكُّنَها خطر على وجود الإسلام ذاته.
وعلى الرغم من أن هذه الحركات الإسلامية الإصلاحية لم تكن سياسية في بداياتها، إلا أنها حصلت على دعمٍ جماهيري كبيرٍ في وقتٍ كانت فيه الجماهير المسلمة بحاجة إلى عزاءٍ روحي ومُفتقرة إلى دعمٍ إجتماعيٍّ بعد صدمة سقوط الخلافة. ثم، ومع مرور الوقت، استطاع قادة هذه الحركات تكوين وتطوير رؤية إسلامية واضحة المَعَالمِ للمجتمع ولِنموذج الدولة. وفي سبيل إحياء المشروع الإسلامي من جديد، نَشَطت هذه الحركات الإسلامية في المشهد السياسي.
الحرب الباردة وتأثيرها
مع نهاية الحرب العالمية الثانية، نجت البلدان الإسلامية ــ إلى حدٍّ كبيرٍ ــ من أنياب الإستعمار الغربي.. لتقع ضحية الحرب الباردة.
كان الاتحاد السوفيتي قد كثّف جهوده في السعي إلى ضمّ إيران وتركيا لمعسكره. وردًّا على ذلك، زوّدت الولايات المتحدة الأمريكية كِلا البلدين بالدعم الاقتصادي والسياسي لتضمن انضواءهم تحت لواء الكتلة الغربية الديمقراطية. استلمت الدولتان هذا الدعم بابتسامةٍ تفيضُ سعادةً، وبعد أن أصبحت الدولتان ديمقراطيّتان رسميا في عامي 1950 – 1951 على التوالي ـــ حُسِبَتَا مع المُعسكر الغربي.
بعد فترةٍ وجيزة، أصبحت الجبهة الوطنية لِمحمد مصدق أول حكومة إيرانية منتخبة ديمقراطيا في عام 1951. كان مصدق زعيمًا ذا نزعة علمانية، واستطاع الحصول على دعمٍ واسع من النخبة العلمانية وعُلماء الدين سواء. ومما ساعد محمد مصدق في تحصيل الفوز من صناديق الاقتراع هو الازدراء الشعبي لِمَلَكِيَّة الشاه رضا بهلوي، والغضب الشعبي تجاه الاستغلال الغربي لحقول النفط الإيرانية؛ فمع الهجوم النازي الكاسح ضد الحُلفاء في الحرب العالمية الثانية، كان النفط الفارسيُّ هو ما مكّن بريطانيا وروسيا من تحمّل المد النازي المدمر والبقاء على قيد الحياة. كما استطاعت بريطانيا تعزيز قوتها الاقتصادية من خلال استغلالها لحقول النفط الإيرانية، بينما كان الإيرانيون يتلقون 20 بالمئة فقط من الأرباح.
اتخذ مصدق خطوةً جريئةً لمُعالجة هذه المسألة من خلال تأميم شركة النفط الأنجلو-إيرانية المملوكة سابقًا لبريطانيا (AIOC). لم يسر هذا في مصلحته، بل جلب غيظ بريطانيا وأميركا، فتحرّشتا به من خلال فرض عقوباتٍ اقتصادية أعاقت تقدم الاقتصاد الإيراني.
ثم في عام 1953، تمت الإطاحة بحمد مصدق عن طريق انقلابٍ عسكريٍّ نظّمته وكالة المُخابرات الأمريكية (CIA) بالتنسيق مع المخابرات البريطانية. بعده أُعيد الشاه رِضا بهلوي إلى السلطة، الذي أصبح رجل أميركا وبريطانيا في المنطقة، واستحالت شركة النفط الأنجلو-إيرانية إلى شركة بريتيش بتروليوم (British Petroleum) بقانون أرباحٍ يُعطي 50 بالمئة للطرفين.
ترك هذا التدخل الأجنبي في دواخل الإيرانيين شعورًا بالإذلال والخيانة والعجز، وتردد تأثيره في العالم الإسلامي بأسره.
لقد بعث هذا الانقلاب العسكري برسالةٍ مفادها أنه حتى وإن كانت الحكومة مُنتخبةً ديمقراطيًّا، سيتم إسقاطها إذا لم تُسايُر المصالح الغربية ـــ ونفسه حدث مع الانقلاب العسكري في الجزائر في عام 1992، ونفسه حدث مع الانقلاب العسكري في مصر في عام 2013 ـــ ولا يزال هذا هو الخطاب السائد عند النشُطاء الإسلاميين إلى يومنا هذا، وبه تُفَسَّر معظم الأحداث العالمية التي تؤثر على الشعوب المسلمة.
وإذا نظرنا إلى التطورات في إيران بين عامي 1953 و1977، سنلاحظ أن الشاه اعتمد اعتمادًا كبيرا على الولايات المتحدة الأمريكية في تطوير الجيش الإيراني وفي “عَصْرَنَةِ” المجتمع، كما أن الأيادي الأمريكية امتدت لِبرامِجه في تطوير الاقتصاد، ويظهر هذا جليًّا في ما سماه بــ “الثورة البيضاء”.
على الرغم من أن برنامج الشاه الاقتصادي جلب الرخاء وساهم في تقدم الصناعة في إيران، كما متّنت المبادرات العلمية والتعليمية المستوى العلمي في إيران وقلّلت نسبة الأمية، إلا أن كل ذلك جاء بتكلفةٍ باهظة؛ فقد تم توزيع الثروة بشكل غير متكافئ، وزادت نسبة الهجرة نحو المدن، كما شهدت الساحة السياسية قمعًا واسع النطاق للقوى المُعارضة.
ثم يأتي فرضُ العَلْمنةِ على المجتمع، فشعر عُلماء الدين بالقلق مما رَأَوْه من فرضٍ لِأسلوب الحياة الغربي من أعلى إلى أسفل، وشعروا أن الإسلام قد تمت إزالته من المجتمع بالكامل.
الثورة ـــ مالذي حدث؟
ردّت المعارضة الإيرانية أخيرًا على القمع السياسي، وكان الردّ عنيفًا.
بدأت مجموعتان مسلّحتان هما حركة “فِدَايان خَلَف الماركسية” وحركة “مُجاهدي خَلَق الإسلامية” في شن هجمات على المسؤولين الحكوميين في الستينات، كما ظهرت أوجه أخرى للمُعارضة المباشرة وغير المباشرة من الأوساط الدينية بقيادة آية الله الخُميني، ومن الأوساط الفكرية بقيادة علي شريعتي.
علي شريعتي، مثقف ومُفكّرٌ درس في فرنسا، كان مُعجبًا جدّا بالثورة الجزائرية والثورة الكوبية، ودعا إلى النضال المستمر من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، وشدّد على أهمية التُراث الثقافي الإسلامي بدلًا من النموذج الغربي للمجتمع، كما انتقد العلماء الشيعة لكونهم عالِقِين في عقيدة التهدئة السياسية وتجنّب الصراع المباشرة التي كانت قائمة في إيران منذ قرون ـــ والتي اعتبرها حاجزًا ضد الحماسة الثورية.
ولكن سُرعان ما ظهر آية الله الخُميني وكسر هذا الحاجز، برز آية الله بدوره الجليّ في احتجاجات عام 1963 وبِخُطَبِه المسجلة والواسعة الانتشار التي تنتقد الشاه علنًا ـــ وتم نفيه نتيجةً لذلك.
مُتأثِّرًا بنموذج الدولة الإسلامية التي تُطبّق فيها أحكام الإسلام كاملةً؛ وبالتالي إنهاء إمبريالية الغرب الاستعماري، قال الخُميني إن على المسلمين أن يُنشِئوا حكومةً إسلامية على أساس القرآن ومسيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
في كتابه “ولاية الفقية: الحكومة الإسلامية”، أصر الخُميني على أنه في ظل غياب الإمام الحقيقي ـــ القائد الشرعي الوحيد من نسل النبي عليه الصلاة والسلام حسب المذهب الشيعي ـــ فإن العلماء مُكلفون بالالتزام بتأدية واجبهم في استلام مقاليد الحكم، بُحكم معرفتهم بالكتاب والتراث الإسلامي.
ومع مرور الوقت نضجت ظُروف الثورة أكثر فأكثر، فتضَخَّمَت الاحتجاجات التي حرِص أتباع الخُميني على وصولها لجميع المدن الرئيسية، ثم تُوِّج هذا بثورة 1 فبراير 1979 عندما عاد الخُميني إلى إيران مُنتصِرًا.
تأثير الثورة
إن الثورة الإيرانية كانت حدثًا جلَلًا بكل المقاييس، ليس في إيران فحسب، بل امتد تأثيرها إلى كل العالم، لقد تسببت في تحوّلٍ عميقٍ في الحرب الباردة، وفي الجغرافيا السياسية العالمية، ولم تفقد الولايات المتحدة حليفًا استراتيجيا رئيسيًّا ضد التهديد الشيوعيّ فحسب، ولكن اكتسبت عدوًّا جديدًا.
حفّزت التطورات في إيران الاتحاد السوفييتي على غزو أفغانستان في عام 1979، وأعقب ذلك اندلاع الحرب الإيرانية العراقية في عام 1982، والتي كانت تهدف إلى إسقاط النظام الجديد في إيران؛ ومن أجل هذا، دعّمت الولايات المتحدة الأمريكية صدّام حسين بالأسلحة والتدريب، وهذا بدوره ساعده في السيطرة على مقاليد الحكم في العراق.
مآلات الثورة الإيرانية في هذا العصر
الثورة في إيران، ثم الحرب العراقية الإيرانية، وسلسلة الأحداث التي أعقبتها ـــ غزو صدام حسين للكويت في عام 1991، حرب الخليج، ظهور القاعدة، هجمات 11/9 والحرب على الإرهاب ـــ حددت جغرافيا السياسة على مدى العقود الثلاثة الماضية إلى اليوم.
كما غيرت الثورة الإيرانية المشهد السياسي في الشرق الأوسط بشكل كبير، فَبِسَعْيِ إيران لقيادة العالم الإسلامي أشعلت حربًا باردة بينها وبين حُكمِ آل سعود، ولازالت الحرب الباردة بين إيران والسعودية مستمرة حتى يومنا هذا، وتظهر تجليّاتها في النزاعين السوري واليمني.
ولقد أعادت الثورة الإيرانية الإسلام السياسي إلى الحياة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، لقد أظهر نجاح الثورة في إيران أن إقامة نموذج دولةٍ إسلاميةٍ لم يكن مجرد حلم، بدا أن إسقاط وُكلاء الغرب في المنطقة من الحُكام والدكتاتوريين العلمانيين المُتعاونين مع السيد المُستعمر، والتخلص من السيطرة الغربية، بل إسقاطها حتى والهيمنة عليها في كثير من الأحيان أمرٌ ممكنٌ جِدًّا، ولا يحتاج تحقيقه إلا إلى عزمٍ وطول نَفَسٍ ومُثابرة.
وهكذا، خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي انتشرت العديد من الأحزاب السياسية الإسلامية في جميع الدول الإسلامية تقريبا، كان هدفها أسلمةُ المجتمع باستخدام أدوات الدولة كالمؤسسات الإدارية والمؤسسات التربوية.
أعلنت هذه الحركات الإسلامية أن النموذج العلماني قد فشل في تحقيق التقدم وفي المحافظة على الاستقلال، بل اتُهِّم في كثير من الأحيان بأنه قد اغتال حُلم الثورة ونيل السيادة، وأعلنوا أن النموذج الإسلامي هو البديل الأصلح والأسلم. بالنسبة لهذه الحركات، كانت الثورة الإيرانية دليلا على أن حُلم إقامة دولة الإسلام يُمكن أن يُصبح حقيقةً واقعة.
هل نجحت الثورة الإيرانية؟
إذا نظرنا إلى الأمر من المدى البعيد، نقول أن الثورة مازالت قائمة. لقد تمكنت من الصمود لمدة أربعة عقود، صمدت خلال الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات، فضلا عن صمودها عبر عقودٍ من العقوبات الاقتصادية.
من ناحيةٍ أخرى، وعَدَ الخُميني وأنصاره الشعب بإنهاء الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق تقدمٍ اقتصاديٍّ واجتماعي. اليوم، الاقتصاد الإيراني في حالة سيئة، ولولا عائدات النفط لانهار الاقتصاد منذ زمن. الناس غير راضين عن ارتفاع معدلات البطالة والتضخم المفرط، للشعب أملٌ ضئيلٌ في النهوض الاقتصادي.
والنقطة الأهم: أسلمة المجتمع. لقد فشلت السلطة أيضا في تحقيق النتائج المرجوة، رغم أن 63 بالمئة من الشعب الإيراني وُلدوا بعد الثورة، إلا أنهم ليسوا أكثر تديُّنًا من الذين وُلِدوا أو عاشوا قبل الثورة. يبدو أن مناهج النظام في إحياء الإسلام تحتاج إلى مراجعة.
مُعظم الإيرانيين يُلقون باللوم على العقوبات الأمريكية التي لا تنتهي، مُعلِنين أنها سببُ عدم نجاح الثورة بعد، ورغم أن إيران تُتاجر مع القوى الأوروبية، وكذلك مع الصين وروسيا، إلا أن الإيرانيين يؤمنون أن الغرب لا يريد لبلادهم أن تنهض بأي ثمن.
دور الثورة الإيرانية في الاستراتيجية الأميركية
حــــســــن الــــحــــسـن
تمثل منطقة الشرق الأوسط واحدة من أهم القضايا الدولية، وذلك بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي، ولكونها قلب العالم الإسلامي، وشعوبها أهم مكون من مكونات الأمة الإسلامية لارتباطهم المباشر باللغة العربية وهي لغة الإسلام، إضافة إلى الاحتياطي الهائل الذي تختزنه من مواد الطاقة الاستراتجية (نفط وغاز) التي يتكالب عليها ويلهث وراءها العالم كله، لذلك كله شكلت منطقة الشرق الأوسط ميداناً ساخناً ومعقداً من ميادين الصراع الدولي، وقد كانت ومازالت وستبقى مركز تنبه الدول الكبرى، لذلك كان لا بد من استحضار الموقف الدولي ابتداء واتخاذه أساساً في محاكمة واقع الدول الموجودة في المنطقة ولفهم أدوار الأنظمة الحاكمة والأحداث الجارية فيها.
كما كان لا بد من التنبه إلى التضليل السياسي الذي يعتبر عاملاً أساسياً في إدارة الصراع بين الدول وعنصراً فعالاً في إنجاح مشاريعها، بل إنه يعتبر فناً من فنون السياسة التي تعتمدها الدول لتحقيق مصالحها، لذلك تناور الدول وتعتمد إخفاء الحقائق لتحقيق أجنداتها، وهو ما عبر عنه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وينستون تشرشل بقوله لستالين أثناء لقائهما في طهران إبان الحرب العالمية الثانية “إن الحقيقة ثمينة لدرجة أنه لا بد من حمايتها غالباً بحرس من الأكاذيب”.
في هذا الإطار، برز في العقود الأخيرة في الشرق الأوسط محور أطلق عليه محور الممانعة، وهو المحور الذي يتألف من النظام الإيراني والسوري وأتباعهما، وقد أثار كثيراً من الجدل حول حقيقة وضعه، فهل هو محور ممانع مقاوم لأميركا وأتباعها ومشاريعها بحق كما هو رائج، أم أن هذه الممانعة المدَّعاة جزء من دور سياسي تلعبه لصالح الدول الكبرى؟ فعلى مدار زمن طويل راجت حرب دعائية عدائية شرسة بين هذا المحور وبين أميركا، لدرجة بات يمثل أمام الرأي العام جبهة مواجهة للقضاء على النفوذ الإمبريالي الاستكباري الأميركي في المنطقة والعالم، فيما يمكن ملاحظة أن السياسات العملية لهذا المحور تتقاطع في القضايا المحورية مع توجهات أميركا، بل وفي أكثر الأحيان تتطابق مع مخططاتها بشكل مذهل!
وللحكم على الموضوع وتحديد دور محور الممانعة بقيادة إيران بشكل سليم لا بد من إعادة قراءة المشهد برمته منذ أواخر السبعينات حين نجحت ثورة الملالي في إيران سنة 1979م في إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي وفي تحويله من نظام ملكي إلى “جمهورية إيران الإسلامية” بزعامة الإمام الخميني. وقد لفتت السرعة التي حدث بها التغيير الثوري العميق المتدثر بالعباءة الدينية نظر المراقبين، حيث كان نظام الشاه محمياً من الغرب، كما كان مسنوداً من قبل جيش قوي وأجهزة أمنية متماسكة ومتينة تم إنفاق ميزانيات ضخمة عليها، إضافة إلى انعدام الأسباب الاعتيادية المعروفة للثورة، كالأزمات المالية، أو الهزائم العسكرية، أو انتشار الاضطرابات المقلقة، أو التمرد العسكري.
كان الحزب الشيوعي الإيراني في تلك الأثناء يستبعد اندلاع ثورة في إيران، بل إن الخميني نفسه وبعد اندلاع الثورة “لم يكن واثقاً من أن الشاه سيرحل وأن الثورة ستنجح، حتى إنه تم شراء منزل له في فرنسا في حال لم تنجح الثورة، لكي يبقى فيه” بحسب ما أكد أبو الحسن بني صدر، أول رئيس إيراني بعد نجاح الثورة الإيرانية، في عدد من لقاءاته.
في تلك الفترة، سيطر حزب الشعب الديمقراطي (الحزب الشيوعي الأفغاني) على السلطة في أفغانستان في أبريل 1978م، وقد أرسلت موسكو حينها مئات المستشارين العسكريين السوفيات لدعم الحكم الشيوعي فيها، ثم ألحقتهم بكتائب مجوقلة مع طواقمها استناداً إلى اتفاقية تعاون ثنائية بينهما. وازدادت المساعدات العسكرية السوفياتية بشكل مضطرد بالعدة والعتاد والمستشارين العسكريين. ثم ما لبث أن اجتاح السوفيات أفغانستان أواخر 1979م. وبات الدب الروسي على مسافة قريبة من المياه الدافئة في منطقة الخليج خزان النفط العالمي! لذلك كان هناك خشية من قبل الغرب أن يتمدد الاتحاد السوفياتي وأن تكون إيران هي الخطوة المقبلة له في حال تمكن من ترسيخ هيمنته في أفغانستان.
كانت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على أوجها في تلك الفترة، وأصبح صناع القرار في أميركا يفكرون جدياً في تطوير حالة الصراع معه في محاولة لاستنزافه وتحجيمه وفرض الهيمنة الأميركية المطلقة على العالم. لذلك تدخلت أميركا في المنطقة بشكل استخباراتي واسع حتى قبيل الاجتياح الكامل من قبل السوفيات لأفغانستان، فقد كتب مدير الـ(CIA) السابق روبرت غيتس في مذكراته “إن المخابرات الأميركية بدأت بمساعدة الحركات المعارضة في أفغانستان قبل 6 أشهر من التدخل السوفييتي”. وفي يوليو 1979م، وقع الرئيس الأميركي جيمي كارتر توجيهاً يخول وكالة المخابرات المركزية الأميركية القيام بحملات دعائية لأجل تثوير الناس ضد الحكومة الشيوعية الموالية لموسكو.
كانت حصيلة السياسة الأميركية بهذا الصدد استنزاف الاتحاد السوفياتي في صراع طويل في أفغانستان، أدى لاحقاً إلى تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط المعسكر الاشتراكي برمته.
في هذا الإطار يصبح واضحاً أن التغيير الثوري الذي أسس للنظام الديني الذي تزعمه الخميني ضرورة لتحصين إيران من الحركات اليسارية والشيوعية النشطة في إيران، ولجعلها سداً صلباً أمام احتمال أي اختراق من قبل الاتحاد السوفياتي لها في حال نجاحه في الإطباق على أفغانستان. لذلك نجد أن الغرب نفسه قد أتاح للخميني حرية الحركة والعمل السياسي بشكل مفتوح، حيث قضى الشهور الأخيرة من إقامته في فرنسا مع فريق مرافق له يقود الثورة من إحدى ضواحي العاصمة باريس، ثم ما لبث أن انتقل منها – أي من الغرب نفسه – ليتزعم الثورة في إيران وليمسك بمقاليد السلطة فيها.
كما خذلت أميركا الشاه رغم كل تعهداتها بالدفاع عنه، فقد ذكر السفير الأميركي في إيران حينها، ويليام سوليفان بأن مستشار الأمن القومي الأميركي السيد زبيغنيو بريجنسكي “أكد للشاه مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة تدعمه بالكامل … وأنها ستدعمه حتى النهاية”. لكن سياسة البيت الأبيض -كما أكد عدد من الساسة الأميركان، كانت على النقيض من ذلك، حيث قرر أن على الشاه أن يذهب، حتى لو كان ذلك إلى الجحيم، وبغض النظر عمن سيحل مكانه! بالطبع، هم يعرفون تماما أن الخميني هو من سيحل محله، ما يعني أنهم تواطؤوا عملياً ضد الشاه لصالح الخميني!
كذلك أربكت أميركا الموقف داخل الجيش الإيراني وشلته عن اتخاذ أي خطوات تحول دون استتباب الوضع لنظام الخميني، حيث ألغى الرئيس الأميركي جيمي كارتر قرار إرسال حاملة الطائرات يو أس أس كونستليشن (USS Constellation) بالتوجه إلى المحيط الهندي لدعم الشاه بعد أن أعطى أمره بذلك، كما عارض كارتر دعم انقلاب الجيش واستلام الحكم. فتداعت القوى التي يستند لها الشاه، وبدأ الخميني يستأصل كبار الجنرالات في الجيش وأعدم أكثر من 200 من كبار مسؤولي الشاه المدنيين. ما أدى إلى انهيار النظام بالكامل وإلى سيطرة الخميني وأتباعه على البلاد.
كما جرت مجموعة من الأحداث المريبة التي تشي بشكل واضح وقوف المخابرات الأميركية وراءها أو غض النظر عنها، ما مكَّن الخميني من التفرد بالحكم في السلطة والتخلص من جميع مناوئيه، وفي إعادة بناء النظام السياسي على أنقاض نظام الشاه المتهاوي، على سبيل المثال حادث اختطاف أفراد السفارة الأميركية في طهران، إذ أبرزت هذه العملية نظام الخميني كمناوئ لأقوى دولة استعمارية في العالم، فعززت مكانته في إيران والمنطقة، كما أدت العملية إلى اكتساح المرشح الجمهوري رونالد ريغان الانتخابات الأميركية، والتي سندته أجهزة المخابرات الأميركية ليصل إلى البيت الأبيض. لذلك فإن عملية اختطاف موظفي السفارة وإخفاق كل محاولات جيمي كارتر لإطلاق سراحهم، قضت على مستقبله السياسي، بعد أن ظهر ضعفه وعجزه أمام الرأي العام. المفارقة أن الخميني نفسه أمر بإطلاق سراح الموظفين المختطفين فور إدلاء ريغان بالقسم الرئاسي. هكذا آتت العملية أكلها بتعزيز وضع الخميني في إيران وبإيصال ريغان إلى البيت الأبيض حاملاً معه مشروع القضاء على الاتحاد السوفياتي، والذي أنهى مرحلة الحرب الباردة بعد أن أعلن عن مشروع حرب النجوم وقاد حملة سباق التسلح مع روسيا ودعم الأفغان بشكل مهول فاستنزف الاتحاد السوفياتي وأدى إلى انهياره وإلى تفكك الكتلة الشرقية الشيوعية برمتها لاحقاً.
بل إن أميركا ذهبت إلى ما هو أبعد من هذا بكثير، إذ عقدت إدارة الرئيس الأميركي ريغان اتفاقاً مع إيران-الخمينية لتزويدها بأسلحة متطورة فيما عرف لاحقاً بفضيحة إيران كونترا. فقد كانت إيران بحاجة ماسة لأنواع متطورة من الأسلحة أثناء حربها مع العراق، وتم ذلك الاتفاق بين الطرفين لقاء مساهمة إيران بإخلاء سبيل خمسة من الأميركيين المحتجزين في لبنان. وقد عقد جورج بوش الأب نائب الرئيس رونالد ريغان في عام 1985م هذا الاتفاق عند اجتماعه برئيس الوزراء الإيراني أبو الحسن بني صدر في باريس، اللقاء الذي حضره أيضاً المندوب عن المخابرات (الإسرائيلي) الخارجية “الموساد” “آري بن ميناشيا”، الذي كان له دور رئيسي في نقل تلك الأسلحة عبر (إسرائيل) إلى إيران. وكانت إدارة ريغان تعتزم استعمال أموال الصفقة لتمويل حركات “الكونترا” المناوئة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا.
هكذا تخلصت أميركا من نظام رضا بهلوي الذي نصبته بريطانيا شاهاً على إيران منذ احتلالها عام 1941م إبان الحرب العالمية الثانية إلى لحظة خلعه في 1979م. وتصدت بهذا النظام للشيوعية التي كانت في أوج صراعها معها. كما أججت دولة ولاية الفقيه الإيرانية الصراع السني-الشيعي في المنطقة، وذلك بعد أن أعلنت عن تعميم نموذجها في المنطقة تحت عنوان تصدير الثورة ومواجهة الاستعمار، ما فجر صراعاً طائفياً محموماً لا سيما مع وجود النظام السعودي الذي يستند إلى المدرسة الدينية الوهابية الخصم الحاد للتشيع بكل أشكاله ومذاهبه. فبات في العالم الإسلامي قطبان سياسيان يتخذ كل منهما الآخر خصماً لدوداً له من منطلق البعد الطائفي المحض، فنجحا في إشعال نيران الحقد والكراهية بين المسلمين. ويخدم ذلك مباشرة السياسة الأميركية التي تعتبر الإسلام خطراً عليها، وتسعى بشكل حثيث إلى تشويه أي نموذج للحكم في الإسلام كما تهدف إلى تمزيق المسلمين وتشتيتهم.
كما فرضت أميركا وصايتها على منطقة الخليج بذريعة حمايتها من إيران التي تريد – بحسب الدعاية التي تم ترويجها حولها وساعدت هي في تصديقها – ابتلاعها ودمجها في عباءة دولة ولاية الفقيه. فقد لعبت أميركا وإيران لعبة أرهقت المنطقة ظهرت فيها إيران وكأنها قوة إقليمية كبرى تستطيع منازلة أميركا فما بالك بدويلات الخليج وممالكه.
مفارقة أخرى، إنه في ظل هذه العداوة الضروس المعلنة بين إيران وأميركا، تقوم الأخيرة بإسقاط نظام طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق، وكلاهما خصم لدود لإيران، فيما تطلق يد إيران في المنطقة بشكل ملحوظ، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ولزيادة حقيقة العلاقة بين أميركا وإيران وضوحاً، فلطالما سعت الولايات المتحدة مراراً وبشكل حثيث إلى تجنيب إيران أي ضربات عسكرية غربية عموماً وإسرائيلية تحديداً، لدرجة أن 16 جهازاً استخباراتياً أميركيا أعلن في كل من عام 2007م و2010م عدم وجود أي تهديد نووي من قبل إيران، بهذا درأت أميركا عن إيران أي مبرر لضربها.
كما شاهدنا في السنوات الأخيرة إصراراً أميركياً محموماً لإخراج إيران من دائرة الحصار الدولي الذي فرضته هي عليها للعب دور في الفترة الماضية لم يعد مناسباً البتة مع ما تشهده المنطقة من تحديات جدية لنفوذ أميركا وحاجتها للعلاقة العلنية مع إيران، فقد صار الحديث علنياً بين رأس محور الشر والشيطان الأكبر (بحسب المصطلحات المتبادلة بينهما) على ضرورة العمل سوية. حيث صرح الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد “إن بلاده على استعداد لملء الفراغ الأمني في العراق حال انسحاب القوات الأميركية منه” وتم تأكيد الأمر على لسان الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني بقوله “إن إيران على استعداد لضمان الأمن والاستقرار في العراق في حال ما إذا انسحبت أميركا منه”. وهذا يعني صراحة موافقة إيران على لعب الدور الذي حددته وثيقة بيكر هاملتون الأميركية الشهيرة لمساعدة أميركا في الخلاص من المستنقع العراقي.
كل هذا وغيره لا يمكن تجاوزه ولا يصح اعتباره صدفة مع تكراره وانسجامه وتناسقه التام مع طبيعة الموقف الدولي الذي ترسمه موازين القوى بين الدول الكبرى، والذي لا حظ فيه لإيران بلعب أي دور خارج إطار التبعية لأميركا. وهو موقف يشمل بطبيعة الحال الشريك السوري “الممانع”، الذي يلاحظ تطابق خطواته مع مخططات أميركا في المنطقة.
فقد أدى نظام الأسد (الابن وأبيه) دوره في خدمة أميركا على خير ما يرام، فهو حليفها فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، وهو وكيلها في السيطرة على لبنان وإخضاعه لها منذ 1975م إلى حين خروجه منها 2005م. وهو عصا أميركا لإرغام (إسرائيل) على القبول بـ”عملية السلام” الأميركية التي تقوم على أساس الدولتين والتي أعلنت (إسرائيل) مؤخراً رفضها لها صراحة! كما أسند لهذا النظام دور الشراكة مع إيران لمساعدة أميركا في تسوية الملف العراقي الملتهب منذ احتلاله عام 2003م. وهو ما جاء ضمن توصيات لجنة بيكر هاملتون الشهيرة لمساعدة أميركا في تسوية الأزمات المتفجرة بوجهها في العراق.
لهذا كان النظام السوري يشعر منذ بداية الثورة عليه بأنه مطلق اليدين للبطش بأهل الشام، فالمس به فضلاً عن تغييره يعني التحدي للولايات المتحدة، فإذاً هو نظام محصَّن من المحاسبة طالما أن مظلة الدولة الأولى في العالم تغطيه، بعد أن أثبت تفانيه في خدمتها، وهو مدرك تماماً أهميته لديها وعدم وجود بديل له عندها، فهو بمثابة واسطة العقد في معادلة أميركا في الشرق الأوسط، ضمن حلف الممانعة الكاذبة، الممتد من طهران إلى لبنان مروراً بالعراق. لهذا كان نظام الأسد يشعر بثقة فائقة في قدرته على الثبات في وجه أي عاصفة تهب عليه، وكان جاهزاً للبطش بوحشية، ومستعداً لبتر أي تحرك ضده منذ اللحظات الأولى.
هكذا يتضح بأن محور الممانعة عبارة عن تركيبة سياسية خاصة لخدمة الاستراتيجية الأميركية؛ لذلك حرصت على حمايته وتمدده، وعملت جاهدة للحيلولة دون تفككه لما له من قيمة في حفظ التوازن لصالح النفوذ الأميركي في المنطقة لذلك غضت البصر تماماً عن بطش النظام الإيراني بالمتظاهرين عقب ما سمي بالثورة الخضراء في 2008م، بعد أن ثار هؤلاء بالملايين تأييداً للمرشح الإصلاحي ضد مرشح النظام أحمدي نجاد. كما حالت بقوة دون إسقاط نظام الأسد رغم تخطيه كل الخطوط الحمراء التي وضعتها له، من قتل لشعبه بالكيماوي وارتكاب المجازر الجماعية البشعة بحق المدنيين جهاراً نهاراً. بل ومنحت إيران وأدواتها مطلق الصلاحية عملياً لدعمه على كل صعيد، فيما فرضت حصاراً على الثورة ومنعت من دعمها بأية قوة مؤثرة يمكن أن تهز النظام. فالمس بأحد ركني محور الممانعة يعني ضرب نفوذ أميركا في الصميم، لا سيما بعد أن جرت تغيرات محورية في وضع أميركا في العالم وأصبحت أكثر حاجة لعملائها في تنفيذ مخططاتها بعد أن فشلت في إنجاز مشروع التفرد بالقرار الدولي في سياق ما عرف بالحرب العالمية على الإرهاب، حيث أرادت بناء نظام دولي جديد يجعل منها الحاكم المطلق في العالم. بهذا يشكل ضرب محور الممانعة أو كسر أحد جناحيه تهديداً مباشراً لمخططات أميركا وعاملاً مربكاً لها.