خطورة نظرية المؤامرة: أين يجب أن تنتهي حدود النظرية؟

  • انتهينا في الجزء الأول إلى سؤال مهم ألا وهو: هل بروتوكولات حكماء صهيون هي وثيقة حقيقية أم مزورة؟

والخبر الذي لن يسعد أنصار نظرية المؤامرة أن كثيرًا من العلماء يؤمنون أن بروتوكلات حكماء صهيون وثيقة ملفقة. فكانت المرة الأولى التي أثيرت فيها مسالة تلفيق “البروتوكلات”، عام 1921، بعدما قام محرر بريطاني بترجمة ونشر البروتوكلات في صحيفة تايمز البريطانية، ولكن رئيس تحرير تايمز أكتشف التشابه المريب بين البروتوكلات وأعمال أدبية سابقة شاعت في فرنسا، فأوقف نشر البروتوكلات وقدم اعتذارًا لقرائه.

فمن أين جاءت هذه البروتوكولات؟

أما هذه الأعمال الأدبية السابقة التي انتحلت منها البروتوكلات، فقد تتبع عالم الألسنيات الإيطالي “أومبرتو إكو” أصول بروتوكلات صهيون، ليكتشفوا أن هذه البروتوكلات منتحلة من عمل أدبي ألَّفه المحامي الفرنسي موريس جولي عام 1864 بعنوان “حوار في الجحيم بين مكيافيللي ومونتيسكو Dialogue aux enfers entre Machiavel et Montesquieu”، كتبه بغرض التعريض بسياسة نابليون الثالث الاستبدادية.

ثم قام الكاتب الألماني هرمان جودشه باقتباسها في رواية عنوانها “بيارريتز Biarritz” ونشرها عام 1868، وفي هذه الرواية بالذات يقدم الكاتب مشهد تخيلي في فصل عنوانه “في المقبرة اليهودية في براج” حيث يجتمع أثنى عشر حاخام يمثلون القبائل اليهودية الإثني عشر، اجتماعًا يعقد مرة كل قرن، للتشاور حول خطتهم لتملك العالم. وهذا المشهد هو الذي سوف يصبح أساس نص “بروتوكلات حكماء صهيون” الذي كتبه بافل كروشفان بوحي ورعاية بيوتر راشكوفسكي مدير المخابرات الروسية القيصرية،الأوكرانا، ليستخدمها لحشد الرأي العام الروسي ضد اليهود وإلهاءه عن الثورة التي كانت تعصف بروسيا [1].

وقد أكد عالم الأدب الروسي وخبير الانتحالات الأدبي “سيزار دي ميكالي” أبحاث “أكو”، وقام مع فريق عمل من جامعة نبراسكا الأمريكية بدارسة مقارنة للبروتوكولات والنصوص التي يفترض أنها قد اقتبست منها، ليثبتوا أن ما لا يقل عن 15% من البروتوكلات منقول نصًا عن عمل موريس جولي المذكور سلفًا [2].

ويجب الإشارة في هذا الموضع، أن عملاق الأدب العربي، عباس محمود العقاد، في تقريظه للترجمة العربية للبروتوكلات التي قدمها محمد خليفة التونسي، قد أشار إلى البروتوكولات قد تكون ملفقة، ولكنه توقف في تعيين ما إذا كانت ملفقة أم حقيقية [3].

الماسونيون الخارقون

في نهايات القرن الرابع عشر ومطلع القرن الخامس عشر، تشكلت في معظم بلدان أوروبا الغربية والجزر البريطانية، نقابات جمعت الحرفيين المختصين بشئون البناء لينظموا من شأنهم ويتبادلوا الخبرات المتعلقة بالبناء. كان أفرادها يعتبرون مواطنين أحرارًا وليس عبيد أرض كبقية الشعب، ولكنهم دون النبلاء والموظفين الكنسيين في المكانة الاجتماعية. كذلك كان أفراد هذه النقابات، بحكم مهنتهم ذوي معرفة علمية عملية، يمكن أن نسميها سر الصنعة، شكلت طريقة تفكيرهم الخاصة المخالفة للثقافة السائدة التي تدور حول التراث المسيحي الأوروبي وشذرات من فلسفة أرسطو. وبمرور الوقت، وحدوث الإصلاح الديني اللوثري في ألمانيا، راح أبناء هذه النقابات يطورون مفهومهم الخاص للدين، لا يعتمدون فيه على الكنيسة، بما يسمح لهم أن يقدموا أعمالهم في المناطق الكاثوليكية والمناطق البروتستانية بحرية. وقد ظلت هذه النقابات تعمل بحرية حتى مطالع القرن الثامن عشر، حيث ظهرت المدارس الهندسية والإنشائية الحديثة، فأصبحت المعارف المتعلقة بالبناء معارف عامة، وسقط عنها عباءه الأسرار السرية. ولكن النقابات كانت قد تحولت إلى أندية ثقافية عرفت باسم “محافل الماسونيين الأحرار”[4].

تلك المرحلة من التاريخ الأوروبي الذي تحولت فيها نقابات البنَّائين إلى محافل الماسونيين الأحرار، يصفها عالما اللسانيات “أومبرتو إكو” كالتالي، ” تمرد الأوروبيون على الكنيسة، فلما خرجوا منها ألفوا أنفسهم في تيه روحي، فراحوا يرتمون في أحضان الكابالا اليهودية والديانات الشرقية الغامضة، والوثنيات القديمة”[5]، وكانت المحافل الماسونية واحدة من تلك الجهات التي ارتمى في أحضانها شباب البرجوازيين الأوروبي، الذين وجدوا في سريتها ملجأ من الاستبداد السياسي والتعصب الكنسي، وسرعان ما قام هؤلاء القادمين الجدد بصبغ المحافل الماسونية بصبغة هذا العصر التي قال عنها “إكو”، “كانوا مغرمين بالطقوس المبهرجة المستوحاة من الأديان الوثنية القديمة، والموضوعات الصوفية الغامضة المقتطعة من الفلسفات الشرقية، والرموز السحرية التي استعاروها من ثقافات عرفوها سطحيًا”[6].

وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، كانت المحافل الماسونية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة قد نظمت كجمعيات خيرية، وقام المحامي الأمريكي والماسوني “آلبرت جالتين ماكي” بصياغة أفكار الماسونية وتنظيمها من خلال كتبه، وأهمها كتاب “مبادئ القانون الماسوني The Principles of Masonic Law” الصادر عام 1858، وكتاب “رمزية الماسونية الحرة The Symbolism of Freemasonry” الصادر عام 1869، وفي  الكتاب الأول وصف “ماكي” الماسونية بأنها معتقد ربوبي Deism ورؤية إنسانية أخلاقية للإنسان والكون، مما يعني إيمانهم بوجود خالق للعالم يتوصل إليه عن طريق العقل، وتقييمهم لأعمالهم الفردية والاجتماعية بميزان التحسين والتقبيح العقليين. وفي الكتاب الثاني قام بشرح الطقوس والرموز الماسونية، وبين أن الغرض منها تكريم مهنة البناء على مدى التاريخ، باعتبارها مهنة مقدسة ميز بها الرب البشر، وهو الأمر الذي يجعلهم يبلجون شخصية حيرام أبيف الذي يفترض به أن يكون بنى المعبد للنبي سليمان حسب المعتقد اليهودي، كما يبجلون بناة الأهرام باعتبارهم أول بنائين حقيقيين[7].

إلى هنا، الماسونية مجرد حركة أوروبية منفلتة عن المؤسسة الكنسية، مثلها في ذلك مثل العلمانية ومثل المدارس الفلسفية المختلفة التي ظهرت في أوروبا القرن التاسع عشر.

فمتى وكيف بدأت فكرة المؤامرة الماسونية؟

كانت المحافل الماسونية نوادٍ اجتماعية للبرجوازيين، والذين كانوا قد أصبحوا من القوة بحيث يطالبون بحقوقهم في الموارد الاجتماعية، والثروة والسلطة، في أوروبا، ولذلك نمت بينهم الاتجاهات المناهضة لسلطة تحالف الكنيسة والملكية الأوتوقراطية، فأصبحت المحافل الماسونية مقرات للحركة الثورية، وهو ما دفع سلطات الممالك المستبدة إلى النظر إليهم بعين الريبة، بينما أظهرت الكنيسة عداءها لهم بالفعل.

راحت قوى الكنيسة والمملكة تروج إلى أن الحركة الماسونية في حقيقتها ما هي إلا منظمة سرية تهدف إلى نشر عبادة الشيطان، وذلك من خلال تدمير الكنيسة والممالك المسيحية، ورُوجَ إلى أن بريطانيا والولايات المتحدة قد وقعتا تحت نفوذ الماسونية، بدليل وجود عدد من أعضاء المحافل الماسونية بين أكابر زعماء هذين البلدين. في الواقع كان اختيار بريطانيا والولايات المتحدة اختيارًا دقيقًا وليس وليد الصدفة، فكلتا البلدين لفظتا نظام الملكية المستبد الذي لا يزال يناضل في أوروبا، وتبنت أنظمة ديموقراطية توسع من قاعدة المشاركة الشعبية في الحكم، كما أنها قيدت النفوذ الدنيوي للكنيسة على أراضيها، وهو ما يجعلهما هدفًا لسخط حلف الكنيسة والمملكة [8][9].

ولعل خدعة تاكسيل، دليلًا واضحًا وصريحًا على حملة الدعاية السوداء التي خلقت نظرية المؤامرة الماسونية، ففي مطلع 1885 أعلن صحفي فرنسي علماني أمضى حياته في الهجوم على الكنيسة أسمه “ليو تاكسيل Leo Taxil” عن توبته، وأنه سوف يوقف قلمه على فضح مؤامرة الماسونيين الشيطانية وغيرهم من الجماعات المتمردة على سلطة الدولة والكنيسة، وبدأ تاكسيل حملته بكتاب بعنوان “تاريخ الماسونية” في اربع مجلدات، أطلق فيه تاكسيل العنان لخياله، فجعل من الماسونية عبادة شيطانية تهدف للتمهيد لحكم المسيخ الدجال Antichrist، تشتمل على طقوس سحرية مروعة مثل التضحية بالأطفال وشرب الدم واغتصاب الصبايا وتدنيس القربان الكنسي، كما قام برسم تاريخ توازي للتاريخ الأوروبي في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، يجعل من الماسونية المحرك الخفي لجميع أحداثه مثل الثورة الفرنسية والحرب الأهلية الأمريكية. لحق تاكسيل هذا الكتاب، بعدد من الكتب التي تابع نشرها على مدار إثني عشر عامًا، دارت كلها حول الجمعيات السرية من عبدة الشيطان، والتي كان على رأسها دائمًا الماسونية.

وفي إبريل 1897 دعى تاكسيل إلى مؤتمر صحفي، لتعريف المجتمع بالسيدة ديانا فوجان، وهي ساحرة وعابدة شيطان أمدته بمعظم مادة كتبه، ولكنه بدلًا من ذلك، قام بإلاعتراف العلني أنه قام بكتابة جميع من كتبه منذ توبته المزعومة بدافع المال الذي دفعته له جمعية اليسوعيين Jesuits، وأن هناك مجموعة من الرهبان اليوسوعين الذين قاموا بكتابة هذه الكتب نيابة عنه، ووضعوه في الواجهة باعتباره علماني تائب لتنال المصداقية. وأعلن تاكسيل عن أسماء مشغليه من اليسوعيين، وقائدهم والذي كان قس كاثوليكي يحمل جواز سفر بابوي بوظيفة مستشار للبابا. وفي اليوم التالي كان جميع اليسوعيين الذين ذكر أسمائهم قد غادروا فرنسا إلى روما، ما عدا كبيرهم الذي أختفى ولم يعرف مصيره إلى اليوم [10].

على الرغم من تلك الفضيحة المجلجلة، والتي تبعتها عدة فضائح أخرى يطول عن ذكرها المقام، إلا أن هذه الكتابات المختلقة قد حققت نجاحًا واسعًا بين معارضي الماسونية، وترجمت إلى مختلف اللغات، واعتُبرت مرجعًا علميا موضوعيًا لكثير من الكتب التي تناولت موضوع الماسونية، وفي العربية وصلنا من هذا الغثاء كتب مثل “حكومة العالم السرية” تأليف الروسي شيريب سبيريدوفيتش والذي كان عميلًا سابقًا للحكومة القيصرية، و”أحجار على قطعة الشطرنج” الذي ألّفه الكندي وليام جاي كاي، الذي عرف عنه تعصبه للجنس الأبيض والكنيسية. ويتم تداول هذه الكتب بين أيدي المسلمين دون أي دراسة موضوعية لمحتواها، وينظر إلى ما تقدمه من نظرية مؤامرة كحقيقة مسلم بها.

ملامح الشيطان

إذًا تتمحور نظرية المؤامرة في تركيبها حول وجود كيان خفي هائل القوة يمثل الساحر الشرير في الثالوث المدنس. ولكن هذه الملامح العامة المذكورة غير كافية لرسم الصورة المرعبة لهذا الشيطان القادر على تهديد مجتمع بأكمله، لكن هناك ملامح أخرى تفصيلية هي المسئولة عن رسم صورة الشيطان في العقل الجمعي لمجتمع.

أهم هذه الملامح هي إضفاء المظاهر الخارقة للطبيعة المادية أو التاريخية والاجتماعية على هذا الكيان الشرير، كأن يكون هذا الكيان وجد منذ بضع آلاف من السنين، وصيغت أهدافه وبرامجه منذ ذلك الحين، ولم يموت أو يتخلى عن أهدافه على مدى هذه القرون، ومثل هذه الخاصية العجيبة تراها في مؤامرتي حكماء صهيون والمتنورين التي يزعم القائلين بها أن كلًّا من الكيانين الخرافيين أُسسا منذ آلاف السنين لتنفيذ هدف محدد.

وفي هذا الزعم خرق للسنن الاجتماعية والتاريخية، فجميع المؤسسات تتغير بمرور السنين عليها، حتى أنه يمكن أن تؤمن لحظة بأهداف غير تلك التي أمنت بها من قبل، ومثال ذلك الاستخبارات البريطانية التي نشئت لحماية النظام الملكي، واليوم أصبح هدفها حماية الشعب البريطاني ومصالحه.

ومن الملامح الضرورية لإتمام رسم الصورة الشيطانية للساحر في نظرية المؤامرة، هو انتخاب فئة مستضعفة اجتماعيًا وربطها عنوة بالمؤامرة، وهذا الإجراء يرمي إلى هدفين. الهدف الأول أن الفئات المستضعفة اجتماعيًا تفتقر للقنوات الإعلامية التي تعبر عن نفسها من خلالها، وبذلك يسهل التعبئة الإعلامية ضدها، بينما لا تملك هي أي وسيلة للدفاع عن نفسها، ومثال ذلك مكارثي وعصابته التي استهدفت المعارضة اليسارية واتهمتها بالشيوعية، واستخدمت الصحف ومحطات الراديو في تشويه سمعتهم واتهامهم بالتآمر على الولايات المتحدة، بينما لم يملك هؤلاء المساكين أي موقع إعلامي يدافعون به عن أنفسهم.

الهدف الثاني أن الفئات المستضعفة اجتماعيًا يمكن التخلص منها وتدميرها في حال حدوث فورة للعامة غير محسوبة، بدون الخوف من مسئوليات قانونية، ولعل يهود أوروبا الذين دام اضطهادهم على يد الكنيسة لقرون، ثم اضطهدوا على أيدي الأنظمة الفاشية الستالينية في روسيا والنازية في ألمانيا، مثل ممتاز على استخدام الفئة المستضعفة اجتماعيًا في نظرية المؤامرة.

ومن المهام الرئيسة في شيطنة الساحر، أتهامه بأنه يعتمد على مرجعية شريرة، ولا أعني بشريرة غير أخلاقية، بل شريرة بمعني أن الكيان الذي يمثل الساحر في نظرية المؤامرة، لابد وأن يرتبط بالشر المطلق ويمثله، ضد كل ما هو خير، فمن الضروري أن يصبح فرسان المعبد يعبدون الشيطان حتى يمكن أن يصبحوا ركن لنظرية مؤامرة جيدة، أما الرهبان اليسوعيين، فيمكن أن يتهموا يالخيانة الوطنية وتقديم ولائهم للبابا على ولائهم للملك وهكذا يقبل العامة أن هؤلاء الرهبان مجرد خونة متآمرين.

وأخيرًا، أهم ملامح شيطنة الساحر، إعادة تفسير التاريخ بحيث يصبح للكيان المتآمر دورًا أساسيًا في الهزائم التي تلاقها المجتمع، ولأن المجتمع المؤمن بنظرية المؤامرة، كما قدمنا، يعيش في ظل هزيمة حضارية ثقيلة يرفض تقبلها وتحمل مسئوليتها، فإنه سوف يتقبل أي تفسير لهزائمه السابقة لا يتحمل فيه هذا المجتمع مسئوليته عن هذه الهزيمة، وفي هذه الحالة حتى ولو كان إعادة تفسير التاريخ تزويرًا واضحًا لا يصمد لنقد أو لمنطق، كما في تلك الحالة التي أرجع فيها أحدهم سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر الميلادي، إلى جماعة نشئت في القرن العشرين، فإن هذا الهذيان سوف يكون مقبولًا وغير قابل للنقد من قبل المؤمنين بنظرية المؤامرة.

صناعة المؤمن الصادق

تصبح نظرية المؤامرة نظرية جيدة وفعالة، عندما يعظم عدد المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالمؤامرة، هؤلاء الذين يؤوون إلى نظرية المؤامرة كلما تعرض مجتمعهم لهزيمة. وهناك طريقان لنشر نظرية المؤامرة في الناس:

الطريقة الأولى: الطريقة التقليدية

عن طريق استخدام القنوات المتاحة لمخاطبة الجمهور في إملاء نظرية المؤامرة وتفاصيلها عليهم. وهذه الطريقة التي استخدمت على نطاق واسع في القرن التاسع عشر لترويج لنظريات المؤامرة في أوروبا، حيث استخدمت الكنائس والصحف في إملاء نظرية المؤامرة على روادها وقراءها. وتعتمد هذه الطريقة على ثقة المتلقي في القناة المستخدمة لإملاء نظرية المؤامرة عليه.

الطريقة الثانية:تزييف الوعي

نشأت في ألمانيا في الحقبة النازية، واستخدمت في تطوير هذه الطريقة أحدث نتائج البحوث النفسية والاجتماعية المتاحة حينئذ، وهي الطريقة التي حملت أسم Falsches Bewusstsein ويعني تزييف الوعي بالألمانية، وهي واحدة من من أخطر آليات الفاشية، التي ابتدعها مهندس الدعاية النازية جوبلز.

حيث جاء في دليل عمل توجيهي للعاملين في الإذاعة النازية أشرف على إعداده جوبلز نفسه ما يأتي “لا تقوموا بترديد ما نريد من الجمهور أن يؤمن به، ولكن قدموا له الأدلة والبراهين على ما نريده أن يؤمن به، اختاروا الأدلة والبراهين التي تخدم ما نريد، واحجبوا عنه أي شيء قد يضر بها، وإذا عجزتم عن إيجاد مثل هذه الأدلة، فزيفوها، ومهدوا الطريق للجمهور حتى يستنتج من خلال ما نقدم له ما نريده أن يؤمن به، عندئذ سوف يعتقد الجمهور انه بذكائه قد استنتج المؤامرة على الوطن، سوف تصبح الفكرة من صنعه ليس من صنعنا، وفي أي لحظة لاحقة، إذا توفرت له براهين جديدة على زيف ما يؤمن به، فإن غطرسته والكبر الفطريين في الإنسان، سوف تدفعانه دفعًا للتمسك بما أوحينا إليه والدفاع عنه، لأنه بذلك يدافع عما صنعه وآمن به”[11].

حدود نظرية المؤامرة

إن خطورة نظرية المؤامرة لا تنحسر في تبربر الهزيمة للمجتمع المهزوم، أو في جعل هذا المجتمع يستمرأ هذه الهزيمة، ولكن خطورتها أنها تعمل على تسطيح وعي الفرد والمجتمع، فإذا كان علماء وظائف الأعضاء يعتقدون أن درجة ذكاء الإنسان تتناسب مع نسبة تعقيد تلافيف سطح مخه، فإن هناك المؤمنين الصادقين بنظرية المؤامرة تتحول أمخاخهم مع الوقت إلى ما يشبه سطح البيضة أو جسم الأخطبوط، أملس خالي من أي تلافيف، يسبح في المياه الآسنة لنظرية المؤامرة، رافضًا ومهاجمًا أي يد شريفة تحاول أن تساعده على الخروج من هذا المستنقع.

وبمرور الوقت، فإن أي فرصة للإصلاح سوف تصبح مظهرًا من مظاهر المؤامرة لدى المؤمنين الصادقين، تحشد من أجل تدميرها قوى المجتمع بأكملها. ولما كان اضمحلال المجتمع لا يمكن أن يستمر أبدًا، بل لابد له وأن ينتهي إما بانتصار الإصلاح أو بانهيار المجتمع؛ فإن فرصة انهيار المجتمع تزيد في ظل هيمنة نظرية المؤامرة على العقل الجمعي.

لا يمكن التخلص من عقيدة نظرية المؤامرة، إلا بعد إحلال ثقافة المجتمع التي تعتبر الاعتراف بالخطأ من علامات الضعف الإنساني، بثقافة أخرى يلعب فيها النقد الذاتي والإقرار بالخطأ دورًا أساسيًا. كما يجب أن يفهم أن الأنظمة المتكبرة، التي تلعب دور الدجال الانتهازي الثالوث المدنس لنظرية المؤامرة، هي مجرد عنصر طفيلي في هذه العلاقة، وأن القضاء على الأنظمة المتكبرة لا يعني القضاء على نظرية المؤامرة، فإن المجتمع المتدني ثقافيًا سوف يساعد بالبحث عن دجال جديد، يبيع له وهم نظرية المؤامرة، التي تمنعه من الاعتراف بهزيمته، ونخلص من ذلك إن إصلاح ثقافة المجتمع هو السبيل الطبيعي للقضاء على نظرية المؤامرة والمستفيدين منها.


المراجع

[1] Eco, Umberto (1994), “Fictional Protocols”, Six Walks in the Fictional Woods” Cambridge, MA: Harvard University Press.

[2] Michelis, Cesare De (2004) “The non-existent manuscript: a study of the Protocols of the sages of Zion”. Lincoln: University of Nebraska Press.

[3] العقاد، عباس محمود (1951) “بروتوكولات حكماء صهيون” جريدة الأساس 23.11.1951 القاهرة. ونشرت ضمن مقدمات الطبعة الرابعة من التونسي، محمد خليفة (1951) “الخطر اليهوي: بروتوكولات حكماء صهيون” بيروت: دار الكاتب العربي.

[4] Barrett, David V. (2007) “A Brief History of Secret Societies: An unbiased history of our desire for secret knowledge” Philadelphia: Running Press.

[5] Eco, Umberto (1994) “Apocalypse Postponed” Bloomington: Indiana University Press.

[6] ibid.

[7] Barrett, ibid.

[8] Morris, S. Brent () “The Complete Idiot’s Guide to Freemasonry” London: Penguin Books.

[9] De Poncins, Leon & De Poncins, Vicomate (1994) “Freemasonry and the Vatican: A Struggle for Recognition” New York: EWorld Inc.

[10] de Hoyos, Arturo & Morris, S. Brent (2010) “Is it True What They Say About Freemasonry? The Methods of Anti-Masons” Lanham: M. Evans & Company.

[11] Manvell, Roger & Fraenkel, Heinrich (2010) “Doctor Goebbels: His Life and Death” New York: Skyhorse.

د. وسام عبده

أكاديمي وكاتب ومترجم من مصر

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم. يعني أفهم من كلامك أن جمعية اليسوعيين Jesuits، رهبان اليوسوعين، هم الذين قاموا بكتابة هذه الكتب نيابة عنه أم أنه افترى عليهم الكذب كمؤامرة مبيتة؟

    1. قام اليسوعيون بإعداد معظم المواد التي مثلت أساس كتابات تاكسيل، ثم عهدوا
      بها إلى تاكسيل الذي اعاد صياغتها بقلمه حيث كان كاتبًا صحفيًا وروائيًا
      وخطيبًا موهوبًا، وذلك من خلال أتفاق بين اليسوعيين وتاكسيل بهدف تشويه
      سمعة الماسونيين وغيرهم من المنظمات المشابهة المعارضة للملكية والبابوية
      أو المتعاطفة مع هؤلاء المعارضون، وفي المقابل حصل تاكسيل على دعم مادي
      هائل من اليسوعيين، إضافة إلى نشر وتوزيع أعماله عبر شبكة الرهبان
      اليسوعيين الممتدة حول العالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى