سقوط الأندلس: قراءة وتحليل (الجزء الأول)
تمر علينا ذكرى سقوط الأندلس كالعادة؛ بمحاولة استحضار الأحداث والوقائع التي أدت إلى سقوط غرناطة وانتهاء الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية، في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي والتاسع الهجري، إلا أنه من غير المناسب اعتبار مسألة نهاية غرناطة وسقوطها أمام الاحتلال الأسباني هو بالضبط ما نعنيه حصراً في التاريخ بسقوط الأندلس، بيد أن هذه المسألة جاءت نتيجة حتمية لسلسة من الحوادث التاريخية المتراكمة، مثلت سقطات وهزات تعرضت لها الأندلس الإسلامية في القرون الأربع الأخيرة من عمرها، أي منذ القرن الخامس الهجري الموافق للحادي عشر الميلادي.
السقوط الأول: الفتنة الأندلسية وعصر ملوك الطوائف
كانت بلاد الأندلس منذ الفتح الإسلامي –كغيرها من البلدان الإسلامية-قوية متماسكة خاضعة لحكم مركزي في قرطبة، وازدهرت حضارة المسلمين في هذا القطر الأوروبي زمن الدولة الأموية (فترة الإمارة والخلافة). وصحيح أن النصارى استطاعوا تشكيل قوى في الشمال حظيت بدعم أوروبي ومباركة بابوية صليبية، إلا أنهم لم يتمكنوا من فعل الكثير، لشدة قوة المسلمين وانضوائهم تحت قيادة واحدة، لكن هذه القيادة وهذه الوحدة ما لبثت أن بدأت تتفكك في مستهل القرن الهجري الخامس، لتندلع الفتنة بين المسلمين، ويبدأ السقوط الذي سميناه “الأول” للبلاد الأندلسية.
بدأت الفتنة الأندلسية مباشرة بعد وفاة عبد الملك بن الحاجب المنصور سنة 399هـ، وتولي أخيه عبد الرحمن (شنجول)، وكانوا هؤلاء العامريين هم حكام الأندلس الفعليين وقد فرضوا وصايتهم على الخلافة الأموية. لكن إقدام شنجول على طلب الخلافة لنفسه، قد أشعل نيران الاضطرابات والفوضى، فقامت الثورات في كل مكان ودبت حرب أهلية بين الأمويين والعامريين، وانهار البيت الأموي على نفسه، فاستغل الأمراء الطامعين هذا الوضع الطارئ فأعلن كل واحد منهم استقلاله داخل مدينة وإقليم محلي، فانقسمت الدولة الإسلامية إلى 22 دويلة لتدخل البلاد في عهد ملوك الطوائف.
تفاقمت الأوضاع المتردية في البلاد الأندلسية، واستمر الانقسام فأعلن بالتالي انتهاء الخلافة الأموية عام 422هـ التي لم تعد تصلح لشيء، فعانت الأندلس عقود طويلة من القرن الخامس للهجرة فترة حالكة من تاريخها، ودويلات الطوائف موزعة في أصقاع البلاد متنازعة متناحرة فيما بينها، وذلك في الوقت الذي تتحد فيه الإمارات المسيحية وصارت تتربص بالمسلمين، فاستغل النصارى الفرصة وبدئوا يتوسعون في الأراضي الإسلامية، وملوك الطوائف لا يفعلون شيئا سوى تقديم الجزية ومحاولة إرضاءهم، وقد توجت هذه المرحلة العسيرة بسقوط طليطلة كبرى الحواضر الأندلسية في وسط البلاد سنة 478هـ، بيد القشتاليين النصارى، فأدى ذلك بالأندلسيين من العلماء وبعض الأمراء إلى الاستنجاد بالمرابطين حكام المغرب وأميرهم يوسف بن تاشفين، فعبر هذا الأخير وهزم النصارى في الزلاقة عام 479 هـ، مما مهد إلى ضم الأندلس إلى الحكم المرابطي وانتهاء حقبة ملوك الطوائف.
السقوط الثاني: انهيار حكم مراكش وتقلص البلاد الإسلامية
نعني هنا بحكم مراكش تلك الفترة التي عاشت فيه الأندلس في عهد المرابطين وورثتهم الموحدين، الذين كانوا قد فرضوا سلطانهم على الغرب الإسلامي وعاصمتهم مدينة مراكش، فقد استطاع المرابطون منذ سنة 483 هـ السيطرة على الأندلس وإنقاذها من بطش النصارى ونذالة ملوك الطوائف، وقد أكمل الموحدون من بعدهم هذه المهمة، وإن كان هناك فرق بين الدولتين.
لكن تضعضع الدولة الموحدية بعد هزيمة العقاب 609 هـ، قد مهد نحو تدهور الأمور بالأندلس من جديد ومن تم انهيار الحكم المراكشي بالبلاد على إثر الصراع بين الأمراء والشيوخ الموحدين، وكانت الأندلس منذ هذا الوقت وطيلة النصف الأول من القرن السابع الهجري، تشهد اضطرابات وفوضى وظهر عهد جديد من “ملوك الطوائف” حيث ثار الولاة وحكام الجهات على الموحدين، الذين لم يستطيعوا إنقاذ الأوضاع لانشغالهم بنزاعاتهم الداخلية في بلاد المغرب، فكان المستفيدين من كل هذا هي الممالك الصليبية التي سيطرت على المساحة الأكبر من البلاد و تمددت إلى الجنوب فسقطت قرطبة عام 633هـ وإشبيلية سنة 646هـ، بفعل الخذلان والخيانات من طرف أمراء المسلمين وكادت الأندلس الإسلامية أن تضيع بالكامل؛ لولا أن تصرف ابن الأحمر الذي استطاع الحفاظ بمملكة غرناطة في أقصى الجنوب.
وهكذا تعرضت الأندلس لهزة ثانية أو سقوط ثاني؛ دفع بأكثر من معظم مساحتها الإسلامية بالزوال والاحتلال في يد الدول النصرانية، وقد تزامن انحلال دولة الموحدين بتقلص البلاد الإسلامية وتساقط أغلب حواضر المسلمين في قبضة المسيحيين، عدى غرناطة التي بقي فيها المسلمين تحت سلطان بنو الأحمر، فاستطاع هؤلاء الاستمرار في حكم ما تبقى من الأندلس الإسلامية بمساعدة من بنو مرين سلاطين المغرب، لتنتهي هذه المرحلة المتدهورة بانتصار الدونونية الذي أحرزه الأندلسيين على النصارى، بعون من المرينيين المغاربة عام 674ه.
السقوط الأخير: زوال مملكة غرناطة ونهاية دولة الإسلام في الأندلس
بقيت دولة بنو الأحمر في غرناطة تمثل أخر معقل للمسلمين في الأندلس، التي سيطرت الدول النصرانية على غالبها، وبالرغم في أن العدو الصليبي يهدد في كل مرة بابتلاع ما بقي من الأراضي الإسلامية بالبلاد؛ إلا أن الخيانة والنزاعات تفشت بين سلاطين بنو الأحمر وأثاروا المتاعب حتى مع المسلمين في المغرب، بينما الممالك النصرانية تتقدم وتحيط بغرناطة ومجالها المحدود، وقد تمكنت إسبانيا الصليبية من إحكام الحصار على الغرناطيين بعد ضعف الدولة المرينية والصراع بينها وبين باقي دول الشمال الإفريقي، وزد على ذلك الانقسام المتواصل بين حكام غرناطة فأدى ذلك في النهاية إلى تسليم المدينة عام897هـ/1492م، فكان ذلك السقوط الأخير والمكتمل للحكم الإسلامي في الأندلس.
وهكذا ما كان سقوط الأندلس (غرناطة)؛ إلا نتيجة لسلسلة من الهزات والسقوط المتكرر الذي أثر في تاريخ البلاد، منذ زمن ملوك الطوائف مرورا بزوال الحكم المغربي عنها في منتصف القرن السابع للهجرة، ثم في النهاية إلى سقوط مدينة غرناطة المعقل الأخير للمسلمين، لكن هذه الأحداث لم تنعكس فقط على شبه الجزيرة الأيبيرية، التي انتقلت من الإسلام إلى النصرانية، بل كان لها نتائج وتداعيات على منطقة الغرب الإسلامي، وعلى الأمة والعالم كذلك.
جزاكم الله خيرا استمروا في مقالاتكم