تبعات الانفصال العربي عن الخلافة العثمانية- الجزء الثالث
كيف أضرت هويات التجزئة بأصحابها؟
- لبنان
رعت أوروبا في زمن ضعف الدولة العثمانية إقامة إقليم خاص بجبل لبنان في أعقاب المذابح التي تعرض لها المسيحيون على أيدي الدروز في سنة 1860، ولكن الحل الأوروبي لم يكن حلاً، وفي ذلك يقول المؤرخ يوجين روجان في كتابه العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر:
“كانت الحدود الجغرافية لإقليم جبل لبنان المتمتع بالحكم الذاتي هي بعض أكبر عيوبه، فمساحة الإقليم صغيرة للغاية وأرضه مجدبة…واضطر كثير من اللبنانيين أثناء السنوات الأخيرة من الحكم العثماني إلى الرحيل عن وطنهم بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل، فبين عامي 1900 و 1914 رحل ما يقدر بنحو 100 ألف لبناني، أي نحو ربع إجمالي عدد السكان، عن جبل لبنان…”، وبهذا كانت الخطوة الأولى في تكوين الكيان اللبناني على يد الاستعمار ضد مصلحة أهل لبنان، فتطلع مجلس إدارة الإقليم الذي يعين أعضاؤه من الطوائف المتنوعة حسب أحجامها إلى فرنسا التي طالما كانت راعياً ونصيراً لهم للحصول على بلد أكبر، وعلاوة على ذلك فازت فرنسا بدعم وولاء طائفة المسيحيين الموارنة..(و) لعل لبنان، مع انتهاء الحرب العالمية الأولى كان البلد الوحيد في العالم الذي يضم جمهوراً كبيراً من المؤيدين النشطين الذين يمارسون الضغوط للفوز بانتداب فرنسي على بلدهم.
ولعلم شعب لبنان بأن فرنسا أيدت تكبير حجم الإقليم منذ إنشائه في ستينيات القرن التاسع عشر ذهب الوفد اللبناني إلى مؤتمر الصلح في باريس لعرض قضيته (1919) مدعواً من الحكومة الفرنسية على عكس ما حدث مع دول عربية مزعجة أخرى مثل مصر وسوريا زُجرت أو استُبعدت لأن تطلعاتها القومية تعارضت مع الطموحات الإمبريالية السائدة في المؤتمر”، وكان الوفد اللبناني يسعى للحصول على المساعدة الفرنسية لتحقيق هدف الاستقلال بالنمو الاقتصادي والتنظيم السياسي “إلا أن الفرنسيين بدوا غير مستعدين لسماع إلا ما يريدون سماعه، وكانوا سعداء باستغلال الوفد اللبناني لإضفاء الشرعية على ادعاء حقهم في السيطرة على لبنان”[38].
كان هناك معارضة لفصل لبنان عن الشام بين كثير من المغتربين اللبنانيين في المهجر حتى مع طلبهم الانتداب الفرنسي على مجمل بلاد الشام، وكان هناك اتجاه ثالث في السياسة اللبنانية، بعد اتجاه الانفصال اللبناني واتجاه الوحدة الشامية المطالبين بالمساعدة الفرنسية، و ذلك الاتجاه الثالث يتسم بمعاداة فرنسا “لم تكن لدى المسلمين السنة والمسيحيين الأرثوذكس اليونانيين في المدن الساحلية مثل طرابلس وبيروت وصيدا وصور أي رغبة في الانفصال عن التيار الرئيس للمجتمع السياسي السوري”، ورغم اعتراض مجلس إدارة الإقليم المؤيد لفرنسا على فكرة الوحدة السورية وطلبه استقلال لبنان والمعونة الفرنسية، فقد ازداد قلق القادة السياسيين من نوايا فرنسا، إذ توقعوا منها “أن تتصرف بدافع من الإيثار لا بدافع الحرص على مصالحها الإمبريالية”، ومع شروعها في فرض الانتداب على لبنان “بدأ السياسيون في جبل لبنان التشكك في الحكمة من التماس مساعدة فرنسا في بناء الدولة” ودعوا إلى الاتفاق مع سوريا نحو تفاهم مشترك فألقى الفرنسيون القبض على أعضاء المجلس الإداري اللبناني الذين استعدوا لعرض قضيتهم على مؤتمر الصلح(1920) واتهموهم “بالخيانة” لكونهم أرادوا الانضمام إلى سوريا وحلوا المجلس وقدموا أعضاءه للمحاكمة العسكرية، مما تسبب في “تنفير بعض أقوى مناصري فرنسا في لبنان…كان الفرنسيون يقوضون على نحو خطير قاعدة الولاء لهم في لبنان بأفعالهم الاستبدادية”[39].
ومع تكوين لبنان الكبير في 1920 في ظل المساعدة الفرنسية بدا أنه”كلما زادت مساعدات الفرنسيين تضاءل الاستقلال الذي تمتع به لبنان” وحل محل المجلس الإداري لجنة برئاسة فرنسي يتبع المندوب السامي الجنرال غورو ، وفرضت فرنسا تكوين دولة مسيحية وزعت مناصبها وفق التقسيم الطائفي ، وتقلصت نسبة المسيحيين في الكيان الجديد بعد إلحاق المدن الساحلية والأقاليم الشرقية ومُنحوا تمثيلاً لا يتناسب مع عددهم، وأعلن الفرنسيون عن انتخابات من جانب واحد أثارت حفيظة السياسيين وشعر بالغضب حتى أكثر اللبنانيين تأييداً لفرنسا، ولم يتقبل الفرنسيون أي تحد لمؤسساتهم “وأكدت الانتخابات نوايا فرنسا الرامية إلى حكم لبنان كمستعمرة لا مساعدتها على نيل الاستقلال، وأقنعت تلك الإجراءات بعض أقوى مؤيدي فرنسا بالانضمام إلى الصفوف المتزايدة للقوميين اللبنانيين الذين يناضلون ضد الحكم الفرنسي”[40].
وبعدما أعلن الفرنسيون عن إنهاء الانتداب استعد السياسيون اللبنانيون للاستقلال بالتوقيع على الميثاق الوطني (1943) “ووفق بنود هذا الميثاق يكون رئيس لبنان من الآن فصاعداً مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً، أما المناصب الوزارية الهامة الأخرى فإنها توزع بين الدروز والمسيحيين الأرثوذكس وغيرها من الطوائف الدينية…(وقد) بدا أن الميثاق الوطني حل التوترات التي نشبت بين الطوائف اللبنانية المختلفة، وجعل لكل منها نصيباً في المؤسسات السياسية لبلدهم، غير أن الميثاق وطد نفس مبدأ “الطائفية” الذي أقامه الفرنسيون، …وقوض السياسة اللبنانية، ومنع البلاد من تحقيق تكامل حقيقي أصيل، وبهذا ترك الفرنسيون إرثاً من الانقسام ظل باقياً وقتاً طويلاً بعد رحيلهم عن لبنان”[41]، وبهذا كان الاستقلال اللبناني تكريساً للمشروع الفرنسي الذي أضر باللبنانيين ولكن هذه المرة ليس بأيدي الفرنسيين بل بأيدي “الوطنيين”، وكان هذا الحل الطائفي هو الباب الذي دخلت منه الكوارث على لبنان فيما بعد.
الخلاصة اللبنانية:
1-أدى تكوين متصرفية جبل لبنان في ستينيات القرن التاسع عشر بدعوى حماية المسيحيين إلى رحيل كثير من سكان الجبل عنه وغربتهم في أقطار الأرض البعيدة بسبب قلة إمكاناته الاقتصادية وهو عيب لم يعالجه تكوين لبنان الكبير، الذي كان هدفاً لتلافي العجز الاقتصادي للمتصرفية[42]، ويعيش اليوم ثلث أهله فقط (4 ملايين) داخله أما الثلثان (8 ملايين) فهم مغتربون عنه[43]إما بسبب وضعه الاقتصادي المتردي أو بسبب الحروب الطاحنة والسببان متصلان بنيوياً بتكوينه الاستعماري الضعيف بصفته السلبية المزدوجة: دولة تجزئة وكياناً طائفياً>
2-أدى تكوين دولة لبنان الكبير بعد الحرب الكبرى الأولى إلى الاحتلال الفرنسي الذي نفّر أنصار ومحبي فرنسا منها 3-أدى الاستقلال بعد الحرب الكبرى الثانية إلى أن يتبنى الساسة اللبنانيون نفس الحل الاستعماري الطائفي الذي كان اللبنانيون يحاربونه فيما سبق، فأصبح “شرعياً” بعد زوال الاحتلال ودون الحاجة لقواته البغيضة، وليس خافياً أنه سبب كل الكوارث التي حلت بالبلد منذ ذلك الحين وأبرزها الحرب الأهلية منذ سنة 1975 والتي أتت على الأخضر واليابس.
4-قامت فرنسا العلمانية التي ترفض التصنيفات الدينية بإلقاء قمامتها الطائفية على بلادنا وقطعت الطريق على تكوين كيان حديث في لبنان على الطريقة الغربية[44]، مما يؤكد أن الغرب يعاملنا بغير ما يرتضيه لنفسه-5-لم تؤد المراهنة على “المساعدة” الغربية إلا إلى تدهور أحوال المراهنين واستخدامهم بأيدي المستعمرين والتلاعب بهم وفق المصالح الاستعمارية.
الهوامش
[38] -يوجين روجان، العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2011، ترجمة: محمد إبراهيم الجندي، ص 271-273.
[39] -نفس المرجع، ص 273-277.
[40] -نفس المرجع، ص 278-280.
[41] -نفس المرجع، ص 311.
[42] – Engin Akarli, The Long Peace: Ottoman Lebanon, 1861-1920, University of Oklahoma Press, Berkeley, 1993, p. 184.
[43] -موسوعة ويكيبيديا العربية : لبنان (15/1/2015)
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86#.D8.A7.D9.84.D8.B3.D9.83.D8.A7.D9.86
[44] -Engin Akarli, p. 192.