غياب فاعلية المساجد.. الأسباب والحلول
بات المسجد الآن في بلاد المسلمين مكان لإقامة الصلوات الخمس فقط، وربما لا تتعدى أهميته عند الكثير عن ذلك، فهل كانت تلك هي قيمة المسجد ورسالته التي أسس لها ؟ ما هي التحديات والتغيرات التي واجهناها لتتحول المساجد من جامعات للعلم والدعوة والتربية والقضاء ومبايعة الحكام وإطلاق الجيوش والغزوات لدور عبادة فقط؟هل كان للمساجد دور وفاعلية في التأثير على الشعوب؟.
نعرض بعض الشواهد في الإجابة على ذلك
دور المسجد في المجتمعات المسلمة القديمة
لما أراد النبي (صلى الله عليه وسلم) تأسيس دولة إسلامية على نهجه بتأييد من الله ووحيه؛ كانت أول لبنة وركيزة وضعها في هذا البناء هي المسجد الذي شيده فور هجرته من مكة ووصوله للمدينة، ليعلم فيه الناس دينهم، ويذكّرهم ويفتيهم، ويستقبل فيه الوفود، ويكرم فيه الفقراء، ويعقد فيه الزواج، ويقضي بين الناس، ويجمعهم للشورى، وينادى فيهم “الصلاة جامعة” ليخطب فيهم كلما جد جديد على الأمة؛ ليصبح هذا المسجد هو المدرسة التي أثمرت عظماء وعلماء وفوارس وأبطال التاريخ، ويصبح هذا هو الجيل الذي رباه المسجد من الصحابة الذين رفعوا راية الإسلام في شتى بقاع الأرض بعد ذلك.
ثم يأتي عهد الخلفاء الراشدين لتكون بيعة الناس لكل حاكم منهم في المسجد، ويعتلي كل منهم المنبر ليوضح للناس منهجه وطريقته في خلافة رسول الله في المسجد.
يقول الإمام ابن تيمية: “وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك على التقوى؛ ففيه الصلاة والقراءة، والذكر وتعليم العلم والخطب، وفيه السياسة وعقد الألوية والرايات وتأمير الأمراء وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون عنده لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم”.
لقد عرف أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وأتباعه أن المسجد هو صلب الهوية وأنه لا قيام لأمة بغير مسجد فاعل، إذا كان المسجد هو البوتقة التي ينصهر فيها الطائع والعاصي والعالم والجاهل والسيد والمملوك ليمحى وجود الطبقية بينهم من خلال الجماعة وآدابها، فيخرجون منها بأواصر ترابط وإخاء ووحدة دين وغاية.
فمن المستحيل أن يجتمع مجلس منهم تحت سقف المسجد وينتهون فى أمرهم إلى ما لا يرضي الله ورسوله فالمسجد يحفظ عليهم دينهم، كيف لا وقد جعل الله لأهل المساجد أجرا وخصّهم بالإيمان والتقوى؟!.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..” وعدّ منهم “..ورجل قلبه معلق في المساجد”.
“إنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ”.
وجعل الله في الخطو للمساجد تكفير للخطايا ورفع في الدرجات.
فحينما أدرك معاوية بن سفيان مدى أهمية وتأثير الخطبة والمنبر أراد نقل منبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعاصمة الخلافة في دمشق.
إنما جاء نجاح هذا الجيل في فهم أهمية المسجد لفهمهم حقيقة الدنيا فلم يكن لديهم انفصام بين الدين والدنيا، وبين الروح والجسد، وبين المسجد والمجتمع.
دور المسجد حديثا
لا يزال المسجد مأوى للقلة من الدعاة والمصلحين في سعيهم لتفعيل للمسجد دوره، ولإصلاح ما طُمس وشُوّه من عقيدة الناس، وتذكيرهم بدينهم وأصوله رغم ما يتعرضون له من تقييد وتضييق واضطهاد، فتخرج من المسجد القوافل الدعوية، وتعقد فيه حِلق الذكر والتذكير.
ولكن انحصار دور المسجد على ذلك هو تحجيم لرسالته الشاملة ودوره الكبير وتحييد له عن أداء دوره المجتمعي، فأصبح المسجد مهمشاً مقارنةً مع المقاهي ودور السينما وقاعات الألعاب والنوادي وأماكن الترفيه، وبذلك تم تقليص دور المسجد الاجتماعي فنجد أن المصلين لا يعرفون بعضهم بعضا بالرغم من سكنهم بحي واحد، فقد أصبح المسجد يقوم بمهام ثانوية ومحدودة لا تتجاوز الصلاة وخطبة الجمعة وتحفيظ القرآن، ويغلق في غير أوقات ذلك فقد عمّره الناس وهجروه، واهتموا ببناء المساجد وزخرفتها ثم تركوها فارغة!.
وصارت أعداد المصلين تزداد جدا في شهر رمضان والأعياد وتقل في الصلوات الخمس اليومية إلى أن علمنا أنها انعدمت في أحيان كثيرة،
حتى انتشر أكثر من مقطع مرئي على شبكات التواصل لإمام يصلى بمفرده في صلاة الفجر! لقد تراجعت قيمة المسجد وغاب دوره عند غياب تمسك الأمة بالمنهج القويم والعقيدة الصحيحة.
أسباب غياب فاعلية المسجد
في الدول الشمولية، تحرص الدولة كل الحرص على تقليص دور المسجد واقتصار دوره على الصلوات الخمس ثم تحرص الدولة أن ينفض المصلون إلى سبيلهم لأن رسالة المسجد تتنافى وأُسس الدولة الشمولية.
قال حلمي النمنم وزير الثقافة المصري خلال مؤتمر الشباب بمدينة شرم الشيخ إن “القوات المسلحة ورجال الأمن يبذلون جهودا جبارة ويسقط منهم ضحايا كل يوم، لكن هذا هو الجزء الظاهر من المواجهة، أما المواجهة الحقيقية فهي تجديد الخطاب الديني”، ولم يبين الرجل ما علاقة القوات المسلحة بالخطاب الديني، وكيف يتم هذا الجزء غير الظاهر من المواجهة؟!.
وكان الرئيس المصري السيسي قد دعا في خطاب بمناسبة المولد النبوي الشريف إلى ما سماه ثورة دينية للتخلص من أفكار ونصوص تم تقديسها على مدى قرون، وباتت مصدر قلق للعالم كله، حسب رأيه.
وقال حينها إنه “ليس معقولا أن يكون الفكر الذي نقدسه على مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها”. وقد أثار خطاب السيسي آنذاك انتقادات واسعة .
وقد قامت وزارة الأوقاف المصرية بإصدار قرار توحيد خطبة الجمعة في جميع المساجد، وطالب السيسي بـتشكيل هيئة علماء تعمل على مدار أيام العام لتجديد الخطاب الديني.
وفى سياق ذلك قال المستشار السابق لوزير الأوقاف سلامة عبد القوي إن “القرار سيحول الداعية إلى آلة تردد ما يمليه عليه النظام بلا اجتهاد ولا إبداع، وهذا ما يريده قادة الانقلاب، حيث الخطيب مجرد بوق فوق المنبر، يردد دون وعي ولا فهم ما يريدونه”.
فيما اعتبر أستاذ الشريعة رجب سليمان ذلك “انتكاسة وتبديداً للخطاب الديني، ونتيجته فرار الناس من المساجد، فتخرب ولا يقصدها إلا الكهول، كما كان الحال منذ قرن تقريبا قبل الصحوة الإسلامية”.
هل باتت المساجد أداة بيد الدولة
لكن السؤال هنا هل تهتم الدولة فعلا بتخريج أئمة وفق منهج معتدل يديرون المساجد تبعا لخططهم ويأخذون أجوراً مجزية لذلك؟.
إن وظيفة إمام المسجد تقتضي اتّصافه بمزايا محددة وخضوعه للتدريب والإعداد، لذا فإن اتجاهات ومساعي وأفكار الجهة التي تعمل على تكوين الأئمة تؤثر بالطبع على طريقة أداء الإمام لوظيفته، وعلى أبعاد مهامّه المُكلف بها.
فماذا إن كانت مساعي الدولة هي تجفيف منابع التدين بهدف القضاء على تيارات “إسلامية”، وذلك بدءاً بتوحيد خطبة الجمعة نصاً ومدة ووصولا لإلغاء معظم المنابر بمنع الأئمة وحظر المساجد والزوايا؟.
وقد وافق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على طلب شيخ الأزهر أحمد الطيب بإنشاء أكاديمية لتدريب الأئمة لتحسين أداء أئمة وخطباء المساجد، ويرى أستاذ الشريعة رجب سليمان تعليقاً على ذلك “أن العبرة ليست في من يقوم بالإشراف على تدريب الأئمة سواء وزارة الأوقاف أم الأزهر، ولكن العبرة في جدية هذه البرامج التدريبية، وهو ما يتطلب معرفة المناهج التي ستدرس في شهر واحد ومن سيقوم بالتدريس، وما الأهداف من وراء هذا المنهج”.
ولا يبدي سليمان تفاؤلا بمخرجات هذه الأكاديمية “في ظل الهيمنة الأمنية على كل المؤسسات الدعوية”، كما يستبعد أن تكون الخطوة ضمن ما يعده البعض محاولة من مؤسسة الأزهر للاستقلال عن هيمنة السلطة على المؤسسات الدينية، مؤكدا أن المؤسسات الدينية بأكملها تقع تحت هيمنة السلطة”.
شدد الشيخ محمد عوف عضو جبهة علماء الأزهر على أن الحكومة لم تقم بزيادة رواتب الأئمة الذين وقف عدد كبير منهم مع الانقلاب، “الذي استخدمهم في تضليل الناس عن طريق المنابر والعمائم، وليسوا شريكاً مثل القضاء والشرطة والجيش”.
وأكدت “رابطة أبناء الأزهر الأحرار” أن عددا كبيرا من الأئمة خرجوا في مظاهرات مناهضة لجماعة الإخوان بطلب من وزير الأوقاف مختار جمعة، “ودعما للرئيس عبد الفتاح السيسي في حربه ضد الإرهاب، أملا في الحصول على حقوقهم”، لكن النتيجة كانت مغايرة حيث انخفضت رواتبهم 150 جنيها تخصم لصالح صندوق “تحيا مصر”!.
القيود والقبضات الحكومية تشكل حواجز بين الناس والمساجد
إن ظاهرة احتكار المنابر من قبل الدولة ومؤسساتها تبارز حرية الفكر، وأحقية أهل الكفاءة واللسان -الذين لا تعترف بهم الدولة- من مشاركتهم في خطاب الناس والتعبير عن مواضيع الخطاب من منظورهم المختلف والذي لا ترضاه الدولة.
ولقد وصلت حالة اهتمام الأنظمة ومراقبتها لمدى التزام المواطنين بالصلاة المساجد وقد عُثر بعد اقتحام مقر أمن الدولة المصري على وثائق موجهة بها تهم: “المحافظة على صلاة الفجر”.
إن التردّي الفكري والانحدار الديني خارج المسجد من الأسباب التي أدت لفقد المسجد رسالته، ففى ظل عصر التنوير ودعوات الانفتاح العالمي والصبغة العلمانية التي طبعت على سلوك المجتمعات وحياتهم؛ تكوّنت الصورة الكنسية للمسجد فأصبح المسجد هو مكان لأداء الصلوات والتعبد فقط، على الرغم من أن الإسلام ليس به تلك الرهبانية التي تنفصل عن مجالات الحياة.
ويقودنا ذلك لسبب آخر، وهو عدم تطوير الخطاب في المساجد.
فعقلية الشاب المعاصر لا تنتظر من خطيب الجمعة ذكر نص قرآني وحديث مع ترديد عبارات رنانة فقط لإقناعه بشأن قضية معينة.
إن ما أصاب فكر هذا الجيل من غزو وتضليل يحتاج معالجة ركاكة الخطاب وتطويره ودمج ما يصد الشبهات به، وبذل جهود داخل المسجد وخارجه لإعادة ما فقد من الهوية لدى الشباب. كما أن انصراف الخطاب عن الأحداث الجارية في وقته وتعاميه عن قضايا تمس الأمة أو تثير تفكير الناس يخلق فجوة بين أهل الخطاب والمتلقين.
أيضاً لشخصية إمام المسجد وثقافته وعلمه وأسلوبه ومدى إحاطته بالقضايا ومدى اتصاله بالناس أثر على اهتمام الناس بالمسجد أو نفورهم منه.
أطروحات لإعادة فاعلية المسجد
إن ضاعت قيمة رمز الأمة ومنهل العلم فيها ومنبع الحضارة لها، فتعاد بإرجاع بيئة النشأة الأولى لهذا الرمز؛ لم لا نلحق بالمسجد المكتبات ونوادي الاجتماعات والمشاورة وملحقات صحية ودعوية وتعليمية وترفيهية تفعّل له دوره الحقيقي وإطلاق برامج ودروس مجدولة يومية وأسبوعية، لم لا نسعى لإضافة ما يجذب النشء لتربيتهم على حب المساجد والتعلق بها؟.
هل يقوم مسجد إن لم يكن إمامه ملم بمسؤوليته وثغره، أو يقوم إن كان الإمام كذلك أمامه قيود قد تسمح له أو لا تسمح أن يقول ما يمليه عليه دينه وعلمه؟.
الإسلام دين الفطرة ودين التكامل، فكيف للمسلم أن يعلّمه دينه _في بيوت أذن الله أن يرفع فيها اسمه_ من يلبسون عليه دينه، ويحتكرون ميراث النبوة، ويلغون يد الدين وأداته في غير مساحة العبادات والروحانيات، ويحدثونه بخطاب قُطري محدد يتجاهل من القضايا أكثر ما يتعرض لها؟
يحتاج الخطاب الديني -من أجل إعادة ثقة المخاطَبين لا أكثر- تجديد التمسك لا التنازل، والتطوير لا التفريط، والترغيب بلا تماهي، والترهيب بلا مغالاة، والتوازن بين التحيز والترويج وبين التخطي والتجاهل، يحتاج لترسيخ الأخلاق السياسية والمحافظة على الهوية. بدلا من ترك الناس لتبعية الخطاب العلماني أو الإلحادي، يحتاج للانتقال من نهج الوعظ فقط إلى نهج إصلاح المجتمع كله، إلى حقيقة رسالة الخطاب.
المصادر:
أكاديمية الأئمة بمصر..إصلاح أم تدجين؟
الخطاب الدينى بمصر.. هدف تصيبه النيران.
-المجموع اللفيف مختارات من الأدب والفكر والحضارة.
-موسوعة د.سلمان العودة.
-عمر مكرم..جامع الثورات وقبلة الثوار.
-المسجد فى حكم الخلفاء الراشدين.
-لمن المنابر اليوم؟.