مراهقون بلا مراهقة .. تعرف عليهم
حدّد الفقهاء قديمًا سن التمييز للصبي بسبع سنوات، وقيل قد يكون مُمَيزًا فيما دون السابعة إن فهم الخطاب وردّ الجواب. فكان الصبي يزاحم العلماء بالرُكَبِ لطلبِ العلم وهو في السابعة، ويختم القرآن وهو في التاسعة، ويؤذِن للصلاة ويؤم المصلين، حتى إذا صار شابا يافعا نبغ في العلم وطلبه كإمام أهل السنة أحمد بن حنبل. فقد كان في الثالثة والعشرين من عمره وهو وقتئذٍ من أعلم الناس بالفقه وقد ذاع صيته، وكان في أول طريقه لعلم الحديث. والجدير بالذكر أن من وضعه على طريق الحديث وقتها هو الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ الخطيب، الشاعر، الأديب، الذي يتكلم في الفقه بالقرآن والحديث، وكان وقتها في الثلاثين من عمره! ورحم الله من قال “ذهب الذين يُعاش في أكنافهم”
مراهقو زماننا
في زماننا هذا صُدِّرت إلينا الكثير من المصطلحات الحداثية التي لا تنتمي إلى أصل تراثنا ولا إلى ثقافتنا. فالصبي في السابعة يلهو ولا يفقه معنى الإسلام شرعا! فيصير في العاشرة وهو مُغَيب تمامًا ولا يدري ما أركان الوضوء. ويصبح في العشرين أسيرًا في سجن هو من وضع ذاته فيه. لا يعلم حقه ولا واجباته ولا يحمل همًا ولا مهامًا. تضيق به الثقافة التي استوردها وتلحَّف بها، حتى تخنقه، فيُحسَب على الأمة رجلًا جُمعت كل خوارم المروءة فيه. ويضاف للمجتمع فردًا كئيبًا يعاني من التيه والتخبط النفسي، لا يضبط شهواته ضابط، ولا معيار لفكره، ولا قوة لصوته، ولا صدق في عزيمته إن وُجدت من العدم!
لا أدري حتى أهو المسئول أم الطبقة المجتمعية السائدة والشريحة العظمى من الشباب. ربما السبب لإنتاج هذه الصورة هو تراكم تلك الثقافة التي غلبت على أصل تراثنا! تراكمت طبقًا عن طبق حتى صارت مألوفة مستساغة. صُدّر إلينا مصطلح المراهقة الذي وبلا دراية ولا تفكر يقتطع عمرًا هو أزهى أوقات القوة والإنتاج والعلم، ليصبح السائد في هذه الفترة هو المجون والطيش والاندفاع والاستسلام للشيطان! ولا عتب عما يبدر ويترتب في هذه الفترة؛ فإن القلم قد رُفع في عرفنا والإثم لن يحتسب والمبرر واضح أبلج: “فالشاب مراهق”، “مرحلة وستمر ويصير رجلا”.
من قال بأننا نقتطع عمرًا نودعه للشيطان ثم نأمل أن نستأنف ما بقي منه بنقاء! من قال بأن الأمة تستغني عن أبنائها فترةً ثم تعود قوية! من قال بأن الدين فيه فترة استراحة تدعى “فترة المراهقة”! من قال بأن الرَكب سيتوقف من أجلك هُنيهة حتى تنغمس في مستنقعات الهوى ثم تعود لتجد لك موضع قدم! وهل ورد في سير عظمائنا بأن واحدًا لم يحمل همًا ولم يكن ذا همة حتى نفض عنه غبار فترة المراهقة ثم أصبح عظيمًا هكذا بين ليلة وضحاها! إن أزمة الثقافة غلبت على شباب أمتنا وغُيبت القدوات فصار الذي يفترض بأن يكون واقعًا حيًا، ماضٍ ميت لا حراك فيه. ومالا يصح كونه فُرض علينا حتى وإن ضقنا به ذرعًا. فسير العظماء قصصًا مملة، وأحاديث السفه لهي خير جليس في الأسمار.
نماذج لمراهقين بلا مراهقة
زيد بن ثابت
فهذا سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه تعلم اللغة العبرية في أسبوعين، واللغة السريانية في سبع عشرة يومًا، وكان يتابع وحي القرآن حفظًا، وكان الرسول كلما نزل عليه الوحي بعث إلى زيد فكتبه وكان عمره رضي الله عنه لا يتعدى الثالثة عشرة سنة. يقول زيد:
أُتي بي للنبي في مقدمة المدينة وقيل هذا من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة فقرأت عليه فأعجبه ذلك فقال تعلم كتاب يهود فإني ما آمنهم على كتابي، ففعلت فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته فكنت أكتب له إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له.
معاذ بن عمرو ومعوذ بن عفراء
وهذان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء يتقلدان سيفيهما ويتوسطهما في بدر عبد الرحمن بن عوف ليشهد على حماسة سيف كل منهما، ليأتي بخبر أبي جهل للنبي كما طلب ويهمس إليه خفية الأول سائلا: يا عم أين أبو جهل فإني سمعت أنه سبّ رسول الله. ويهمس إليه الآخر قائلا: يا عم أين أبو جهل فإني سمعت أنه يسب رسول الله! وعمر الأول ثلاثة عشر عامًا وعمر الثاني أربعة عشر عامًا، حتى إذا رأياه انقضَّا عليه وذهبا بسيفيهما للنبي فرحين بقتل رأس الشرك في مكة!
الأرقم بن أبي الأرقم
وهذا هو الجميل الجليل العظيم، حاضن الدعوة في سنواتها الأولى، الأرقم بن أبي الأرقم، التي شهدت جدران منزله أيام الدعوة الأولى وسنواتها السرية، وتسلل الجند الأول لها في الخفاء خوفًا من صناديد قريش. وتشرّبت أركان بيته الأُسس الأولى لبناء الجيل الإسلامي، وسمع أنين الذاكرين بالسحر وعمره رضي الله عنه لا يتعدى ستة عشر عاما!
سعد بن أبي وقاص
وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، خال النبي، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وذلك في سرية عبيدة بن الحارث، وهي أول سرية بعثها النبي في السنة الأولى من الهجرة، وكانوا ستين راكبًا خرجوا ليلاقوا عيرًا لقريش عائدة من الشام، فتراموا بالسهام فكان سعد أول من رمى بسهم في سبيل الله. وكان رضي الله عنه يقول “ألا هل أتى رسول الله أني…حميت صحابتي بصدور نبلي!” وقال له النبي في أحد “ارم سعد فداك أبي وأمي”. فكان الوحيد الذي جمع له النبي، وأسلم وعمره لم يتعدى سبع عشرة سنة!
طلحة بن عبيد الله
وهذا طلحة بن عبيد الله أسلم وهو صغير وكان من السابقين للإسلام. أكرم العرب في الإسلام. بايع رسول الله على الموت وأبلى بلاءً حسنًا في غزوة أحد. حمى النبي من الكفار ووقاه بنفسه، واتقى عنه النبل بيده حتى شلت يده، وكان عمره ستة عشر عامًا!
بُني الإسلام بسواعد الشباب وبِهِمَمِهم ولم يتكاسل فرد يومًا بحجة من حججنا الواهية ولا طرح مصطلحًا من مصطلحاتنا القميئة العيية.
رضي الله عن شاب وعى لوازم سِنه، ومتطلبات وقته، ولم تغرّه مظاهر الحداثة ولم يتأثر بها، بل مضى خلف ركب الأجداد وحذى حذوهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع مستعيدًا مجد من قد سبقوا.