السلطان العادل أورانك زيب
وما أرى أحدًا في القوم يشبهه … وما أُحاشي من الأقوام من أحد
ذلك الذي تغنى به الشعراء، ذلك السلطان المجاهد.. ذلك الذي لما تولى السلطة صرف أهل الموسيقى والغناء عن بلاطه، ورُوي في ذلك قصة:
أنه كان يومًا خارج قصره فرأى الموسيقيين والقينات يلبسون السواد ويبكون ويحملون نعشًا، فسأل: ما هذا؟ قالوا: هذا الغناء والمعازف نذهب لدفنها. فقال رحمه الله: إذن أحسنوا دفنها لئلاَّ تقوم مرة أخرى!!
وارهـا الثرى في عهده رحمه الله، فأعادهـا للحياة آخرون بعده. إنه أورانك زيب.
مولده ونشأته :
وُلد في 15 من ذي القعدة 1028 هـ 24 أكتوبر 1619مـ في بلد دوحت في كجرات بالهند لم يكن هذا الطفل أكبر إخوته، لكن استطاع الشيخ (محمد معصوم السرهندي) أن يشرف علي تربيته، فنشأ بين المشايخ والمدرسين، ترعرع محبًا للدين، وبرع في الفقه الحنفي، وألم بعلوم عصره، وبرع في الفروسية والقتال وتعلم فن الإدارة وأتقنه، ظهر عليه النبوغ والجد منذ صغره. ولابد من وقفة هنا، عند هذه التربية العظيمة التي كان لها أكبر الأثر في شخصية هذا السلطان العظيم (أورانك زيب)، فإن كنا نريد استعادة مجد ضيعه المسلمون هنا أو هناك، فعلينا أن نعني بتربية هذا الجيل تربية كهذه تصنع الرجال، لا أن نبكي ونرثي مجدًا ضاع.
أورانك زيب أميرًا :
كان أميرًا علي ولاية “الدكن” في عهد أبيه السلطان (شاه جهان)، وعُرف بالعدل والهيبة وقمع المتمردين وطهر البلاد وقاد الجيوش. وظل كذلك حتى وفاة أمه (ممتاز محل) فانشغل أبوه السلطان (شاه جيهان) بوفاتها وببناء مقبرة لها تخلد ذكراها.
زهد في الدنيا وأهمل شئون البلد وظهرت بوادر الفتن وتنازع الإخوة علي سلطنة البلاد. استطاع أورانك زيب أن يتقلد الحكم ويقمع الثورات وعزل أباه في قصر يطل علي المقبرة التي بناه لزوجته، لأنه أساء في أمور الحكم وأهملها بعد وفاة زوجته.
أورانك زيب سلطانًا:
تولي السلطنة وهو في الأربعين من عمره. لنحاول أن نتخيل رجلًا مشغولًا بالمعارك وفتح البلاد ينتقل من معركة إلي أخري ومن بلد إلي بلد حتى أنه مات شهيدًا في سبيل الله هل يتبقي لمثل هذا وقت و للسلطنة والإصلاح الداخلي ؟! سأجيب أنا بلا، وتجيب أنت بكل ثقة “لا” ولكن، لنلق نظرة علي حياة هذا الرجل الفذ أثناء إدارته للبلاد:
-أدني منه العلماء ولازمهم وجعل منهم مستشاريه ولم يكن يعطي عالمًا عطية إلا طالبه بعمل حتى لا يأخذ المال ويتكاسل.
-عمل علي تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد يتخذ قانونًا للبلاد وسميت “الفتاوي العالمكيرية” واشتهرت “بالفتاوي الهندية” أي أنه أقام شرع الله وجعله دستورًا كما هو سمت المسلمين. ولم يسبقه أحد من ملوك المسلمين إلي مثل هذين العملين.
– كان ينظر في شئون الرعية ونشر العدل في البلاد وسن ضرائب عادلة.
– بنى المساجد في أقطار الهند، وإن مسجد بادشاهي المعروف بالمسجد الجامع في لاهور بالهند ليقف شامخًا دالاً على إبداع وروعة الحضارة الإسلامية في الهند.
– وفوق ذلك كله كان أيضا يؤلف فألف كتبًا في الحديث وشرحه شرح فيه أربعين حديثًا علي غرار الأربعين النووية ولا أدري، لم لا نسمع عنه؟! كان يقسم أوقاته ويعيش حياة مرتبة فوقت لنفسه ووقت لأهله ووقت لربه ووقت للإدارة والقتال والقضاء.
حكم الهند خمسين عامًا وكان أعظم ملوك الدنيا. يقول عنه الشيخ علي الطنطاوي أنه كان بقية للخلفاء الراشدين وما رأى الناس بعده وقلما رأوا قبله مثله.
توفي سنة 1118 هـ .. وبعد أن وارى الثري الموسيقي والظلم، عاد إلي الظهور مرة أخري بعد وفاته، ترك لنا مجدًا عظيمًا وحسرة في القلوب أعظم، رحمه الله وأضاء قبره كما أضاء دنيا المسلمين بـشرع الله وكتابه.