محطات بين الشبهة والشهوة (2)
وقال ابن القيم -رحمه الله-: “الفتنةُ نوعان: فتنة الشبهات -وهي أعظم الفتنتين-، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.
فتنة الشبهات
ففتنةُ الشبهات من ضعفِ البصيرة وقلَّة العلم، ولا سيَّما إذا اقترنَ بذلك فسادُ القصد وحصولُ الهوى، فهنالك الفتنةُ العُظمى والمصيبةُ الكبرى، فقل ما شئتَ في ضلالِ سيءِ القصد الحاكم عليه الهوى لا الهُدى، مع ضعف بصيرته وقلَّة علمه بما بعثَ اللهُ به رسولَه، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، وقد أخبر الله سبحانه أن اتباعَ الهوى يُضِلُّ عن سبيل الله؛ فقال:{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
خطر هذه الفتنة العظيمة
وهذه الفتنة مآلُها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنةُ المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم، ولا يُنجِّي من هذه الفتنة إلا تجريدُ إتباع الرسول وتحكيمُه في دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهرِه وباطنِه، عقائدهِ وأعمالهِ، حقائقهِ وشرائعهِ، فيُتلقَّى عنه حقائقُ الإيمان وشرائعُ الإسلام، وما يُثبِتُه لله من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه، كما يُتلقَّى عنه وجوبُ الصلوات وأوقاتُها وأعدادُها، ومقاديرُ نُصُب الزكاة ومُستحقِّيها، ووجوبُ الوضوء والغُسلِ من الجنابة، وصومُ رمضان؛ فلا يجعلُه رسولاً في شيءٍ دون شيءٍ من أمور الدين؛ بل هو رسولٌ في كل شيءٍ تحتاجُ إليه الأمةُ في العلم والعمل، لا يُتلقَّى إلا عنه، ولا يُؤخَذ إلا منه.
فتنة الشهوات
وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنةُ الشهوات، وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتَيْن في قوله:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} [التوبة: 69]؛ أي: تمتَّعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخَلاَق: هو النصيبُ المُقدَّر، ثم قال:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا}، فهذا الخوضُ بالباطل، وهو الشُّبُهات.
فساد للقلوب والأديان
فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصُلُ به فسادُ القلوب والأديان من الاستمتاعِ بالخَلاقِ والخوض بالباطل؛ لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلُّم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح؛ فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسقُ الأعمال.
أصل كل فتنة وكيفية التعامل معها
وأصلُ كل فتنةٍ إنما هو من تقديم الرأيِ على الشرع، والهوى على العقل؛ فالأولُ: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصلُ فتنة الشهوة.
ففتنةُ الشُّبُهات تُدفَع باليقين، وفتنةُ الشهوات تُدفَعُ بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامةَ الدين منوطةً بهذين الأمرين؛ فقال:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فدلَّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين.
فبكمال العقل والصبر تُدفَعُ فتنةُ الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تُدفَعُ فتنةُ الشُّبهة، والله المستعان”. [إغاثة اللهفان:2/167]
قال أهل العلم:”من المعلوم أن من دار في خلده شيء من الغلط ثم استقر، أو استمالته الشهوة إلى ما لا يحل وعاود ذلك واستمر؛ يقوى ذلك في اعتقاده حتى تعود الشهوة شبهة. والغلط في اعتقاده صوابًا، فيبقى منافحًا عن غلطه، وعن الشّبهة التي نشأت عن شهوته، وبهذا اصطاد الشيطان أكثر الخلق، وأمرَّ في مذاقهم الفاسد حلاوة طعم الشرع والحق”.
نماذج وأمثلة
–قال ابن الخطيب:” اعلم أنَّ إنكار البعث يتولد تارة من الشُّبهة، وأخرى من الشَّهوة، فأما تولده من الشبهة فهو ما حكاه الله عز وجل بقوله: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ}، وتقديره: أنَّ الإنسان هو هذا البدن، فإذا مات وتفرقت أجزاؤه، واختلطت بأجزاء التراب، وتفرَّقت بالرِّياح في مشارق الأرض ومغاربها، فيكون تمييزها بعد ذلك محالًا.”
وهذه الشبهة ساقطة من وجهين:
الأول: لا نُسلِّمُ أن الإنسان هو هذا البدن، بل هو شيء مدبرٌ لهذا البدن، فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيًّا كما كان، وحينئذ يعيد الله -تبارك وتعالى- أي بدن أراد، فيسقط السؤال، وفي الآية إشارة إلى هذا، لأنه سبحانه أقسم بالنفس اللوامة، ثم قال تعالى جل ذكره:{أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ}، وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن.
الثاني: سلَّمنا أنَّ الإنسان هو هذا البدن، لكنه سبحانه عالم بالجزئيات، فيكونُ عالمًا بالجزء الذي هو بدن زيدٍ، وبالجزء الذي هو بدن عمرو، وهو تعالى قادر على كلِّ الممكنات، فيلزم أن يكون قادرًا على تركيبها ثانيًا، فزال الإشكال.
وأما إنكار البعث بناءً على الشَّهوةِ فهو قوله تعالى:{بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}؛ ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه للشَّهوات واللَّذات، والفكرةُ في البعث تنغصها عليه، فلا جرم ينكره.
–قال ابن القيم في [كشف الغطاء عن حكم سماع الغناء]:والتحقيق في السماع أنه مركب من شبهة وشهوة، وهما الأصلان ذم الله من يتبعهما ويحكمهما على الوحي الذي بعث به أنبياءه ورسله.
قال تعالى:{إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]. فالظن الشبهة، وما تهوى الأنفس الشهوة، والهدى الذي جاءنا من ربنا مخالف لهذا.
قال تعالى:{كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69].
الشهوة التي فيه: فالاستمتاع بالخلاق -وهو النصيب- هو الشهوة، والخوض هو الكلام بمقتضى الشبهة، فهذان الداءان هما داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله -وقليل ما هم-، وهذا السماع قد تركب أمره من هذين الأصلين.
فأما الشبهة التي فيه: فهي تعلق أهله بالشبهة التي يستندون إليها في فعله، كقولهم حضره سادات المشايخ ومن لا يطعن عليه، وأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيته، وسمع الحداء وهو ضرب من سماع الغناء وسمع الشعر وأجاز عليه .. وما هو صريح في الدلالة فكذب موضوع على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن الشبهة التي فيه أن الروح متى سمعت ذكر المحبة والمحبوب والقرب منه ورضاه حرك ذلك لما في قلبه شيء من المحبة الصادقة، وهذا أمره لا يمكن دفعه، فهذا نصيب الشبهة منه.
وأما الشهوة فهي نصيب النفس منه، فإن النفس تلتذ بسماع الغناء وتطرب بالألحان المطربة، وتأخذ بحظها الوافر منه، حتى ربما أسكرها وفعل فيها ما لا يفعله الخمر. فإن الطباع تنفعل للسماع والصورة، والخمرة تسكر النفوس بها أتم سكر. ولهذا قال الله تعالى في اللوطية لما أخذهم العذاب:{لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
– قال تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220]
المصلح: هو من يأتي بالإصلاح عملا، والمفسد: هو من يأتي بالإفساد فعلا، وحال كل منهما ظاهرة للعيان، وإنما أيقظ الله تعالى القلوب إلى ذكر علمه بذلك لتلاحظ اطلاعه على العمل، وتتذكر جزاءه عليه فتراقبه فيما خفي منه، لعلها تأمن من مزالق الشهوة، وتسلم من مزال الشبهة; فإن شهوة الطامع تولد لصاحبها شبهة أكل مال اليتيم، كما يأكل صاحبها مال أخيه الضعيف، ولا عاصم من ذلك إلا بمراقبة الله تعالى وتقواه. [تفسير المنار]