محطات بين الشبهة والشهوة (3)
ولما كانت الشُّبُهَات بهذه الخطورة، كان السلف -رحمهم الله- يحرصون على البعد عنها، وعن المجالس التي تورد فيها الشُّبُهَات، جاء في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، وغيره:” دخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل. قال: لا. لتقومان عني أو لأقومن. قال: فقام الرجلان فخرجا. فقال بعض القوم: يا أبا بكر ما كان عليك أن يقرأ آية من كتاب الله عز وجل؟ فقال محمد بن سيرين: إني خشيت أن يقرأ آية عليَّ فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي.” [القدر للفريابي].
ما هو العلاج؟
أولًا: علاج الشبهات
قال ابن القيم-رحمه الله-:” قال لي شيخُ الإسلام، وقد جعلتُ أُورِدُ عليه إيرادًا بعد إيراد: لا تجعلْ قلبَك للإيرادات والشُّبُهَات مثل السفنجة فيتشربَها، فلا ينضح إلا بِها، ولكنِ اجعلْه كالزجاجة المصمتة، تمرُّ الشُّبُهَات بظاهرِها ولا تستقرُّ فيها، فيراها بصفائه، ويدفعُها بصلابته، وإلاَّ فإذا أَشْرَبْتَ قلبَك كُلَّ شُبهةٍ تمرُّ عليها، صارَ مقرًّا للشُّبهات، -أو كما قال-، فما أعلمُ أنِّي انتفعتُ بوصيَّة في دَفْع الشُّبُهَات كانتفاعي بذلك.” [مفتاح دار السعادة].
يقول الشيخ محمد المختار الشنقيطي:” أما مرض الشبهة فإنه مرضٌ يأتي بسبب ضعف الإيمان، فالشبهات ترد على الإنسان بضعف إيمانه، فيغذي إيمانه، أولًا: بسؤال الله أن يصرفها عنه، وأن يثبته على الإيمان الذي يحول بينه وبين هذه الشبهات، فأول علاج لمن بلي بالشبهات والشكوك والوساوس والأذية في قلبه وفي صدره، أن يستعيذ بالله جل وعلا، لأن الله يقول في كتابه:{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] فأمر الله بالاستعاذة إذا حصلت الشبهة، فأكثر من الاستعاذة فإن الله يعيذ من استعاذ.
أما الأمر الثاني: فأن تأخذ بالأسباب التي تبعد الشبهة عنك، فإذا كانت الشبهة من جليس سوء فابتعد عنه وإياك أن تجلس معه؛ لأن الله أمرك أن تقوم إذا ذكر الله بما لا يليق به في مجالس الظالمين { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68]؛ فلا يجوز للإنسان أن يجلس في المجالس التي تثار فيها الشب، ويضعف فيها الإيمان.
أما الأمر الثالث من الأسباب التي تعين على انصراف الشبهة: أن تأخذ بالأسباب التي تزيد في الإيمان، ومن أعظم ذلك تلاوة القرآن وتدبره،…
أن تختار لتلاوة كتاب الله أنسب الأوقات، وأن تقبل على كلام الله وأنت تحس كأن الله يخاطبك، وكأن الله يناديك، وكأن الله يوصيك، فإذا استشعرت بهذا الشعور دخلت الآية إلى سويداء قلبك وتغلغلت إلى جنانك وكان لها أطيب الأثر على جوارحك وأركانك، وكف الله بها عنك الوساوس والشكوك
القرآن فيه الحجج وفيه الآيات، وهذه الحجج والآيات تقوي القلب، وتجعل فيه الحصانة والقوة من هذه الشبهات التي ترد على القلب.
ثانيًا: علاج الشهوات
أما مرض الشهوة: فابتدئ بأسبابها، فما كان من أسباب تثير الشهوة فابتعد عنها، غض البصر عن الحرام، وعن استماع الفحش والآثام، واجعل جوارحك سليمة عن مظان الريب والفتن؛ فإن ذلك يعصم الله به قلبك، فإن الإنسان إذا حفظ سمعه وبصره صانه الله عن الشهوات، ولم يجد الشيطان عليه سبيلًا أن يعلق قلبه بها، ثم خذ بالأسباب التي تزيد في إيمانك حتى تقوى على البعد من الشهوات، وقال بعض العلماء: إن عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم من أعظم الأسباب التي توقع الإنسان في الانتكاسة بشهوة أو شبهة، فيبتعد الإنسان عن عقوق الوالدين وأذية الوالدين، وقطع الأرحام، لأن الله تعالى يقول:{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 – 23] قال: أصمهم فلا ينتفعون بموعظة، وأعمى أبصارهم فلا يهتدون ببصيرة -نسأل الله السلامة والعافية- وكل ذلك بسبب قطيعة الرحم، فأكثر ما يقع الإنسان في شهوة أو شبهة إما بذنب بينه وبين الله وإما بذنب بينه وبين عباد الله.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجيرنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم”.
العلم والتقوى لا غنى عنهما
وعلاج الشبهة –أيضًا- يكون بالعلم، ولا مصدر صحيح للعلم إلا قال الله تعالى وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال ابن القيم عليه رحمة الله:
العلم قال الله قال رسوله .. قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف .. سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
وإذا كان العلم هو علاج الشبهات، فإن علاج الشهوات: تقوى الله.
فبالعلم تنزاح الشبهات عن القلوب، وبتقوى الله تعالى تنزاح الشهوات. فاستحضار مراقبة المولى -عز وجل-، ومخافة الله -عز وجل-، وكل ما يمكن أن تجمعه كلمة تقوى الله: هي علاج الشهوات، أما علاج الشبهات: فهو طلب العلم المستمد من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم.
وقالوا:” بالبصر النافذ تندفع الشبهة، وبالعقل الكامل تندفع الشهوة، والورع يمنع السطو على الحقوق بدافع الشهوة أو الشبهة”.
يقول العلامة السعدي: إن الله -عز وجل- امتن على عباده بنعم كثيرة، ومن أفضل وأعظم ما منَ الله -تعالى- به على عبده هو العلم النافع؛ لأن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر. وضابط العلم النافع هو ما أزال عن القلب شيئين: الأول: الشبهة، والثاني: الشهوة. لأن الشبهات تورث الشك، وأما الشهوات فتورث درن القلب وقسوة القلب، وتُثَبط البدن عن الطاعات.
إذا أزال العلم النافع الشبهة والشهوة؛ حل محل الأول اليقين؛ الذي هو ضد الشك، وحل محل الثاني الإيمان التام؛ الذي يوصل العبد لكل مطلوب، المثمر للأعمال الصالحة، وكلما ازداد الإنسان علمًا؛ حصل له كمال اليقين، وكمال الإرادة، وكمال الخشية؛ قال الله عز وجل:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وإذا كان العلم بهذه المنزلة، وبهذه المثابة؛ فإنه ينبغي للإنسان أن يحرص على طلبه، وأن يستزيد من طلب العلم، ولذلك لم يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- المزيد من شيء، إلا من العلم؛ قال الله -عز وجل-:{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]. [شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي].
اليقين ودوره العظيم في العلاج
وعلاج الشبهات يكون أيضًا باليقين بأخبار الله، فإن الله قد أخبرنا عن نفسه، وناره، والبعث، والملائكة، والجن… فهل أحد أصدق من الله -تعالى-؟ { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]،{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]،{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]؛ صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، لا مبدل لكلمات الله.
فعلينا أن نتلقى الأخبار الإلهية باليقين، واليقين: هو منتهى درجات التصديق؛ أي أن يستيقن القلب، ويثبت، ويطمئن على هذا الكلام أنه حق، فالله يقول في القرآن الكريم:{ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23]، (الحق): البعث.
ويقول في آية أخرى:{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53]، (إنه حق): أي البعث.
ويقول:{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7]، إن كان مستحيلًا بالنسبة لكم، فهو يسير عند الله.
وأخيرًا: سلاح الصبر
وحتى نتغلب على مرض الشهوة، علينا أن نتسلح بسلاح الصبر؛ الصبر على أوامر الله، والصبر عن المحرمات، والشجاعة؛ كما يقولون:” صبر ساعة”!
اصبر قليلًا؛ فأنت لو لم تصبر على مر التعلم لا يمكن أن تنجح، ولو لم تصبر على تعب السعي لا يمكن أن تجمع المال الذي يغنيك عن ذل السؤال.
إذن لماذا لا تصبر على الدين؟
تصبر على كل شيء، إلا على الدين! فلابُد من الصبر؛ ولهذا فإن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، ولا دين لمن لا صبر له، كما أنه لا حياة لمن لا رأس له.
وقد ذكر اللهُ -تعالى- في القرآن الصبرَ في أكثر من تسعين موضعًا، وأمر الله به، وأمر به الرسولَ، يقول الله للرسول:{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]،{ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96]،{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
جزاك الله خيرا. من سلم من الشبهة والشهوة فقلبه كوكب دري وهو على صراط مستقيم في الدنيا يهديه إلى صراط الآخرة.
اللهم ارزقنا قلوبا سليمة نقدم بها عليك (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)