الفوائد الستة من أدلة وجود الله للموقن أصلا بوجوده!
إخواني في سلسلتنا لبناء اليقين سنبدأ بإثبات وجود الله تعالى. فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه كل شيء.
المتابع المسلم قد يقول: (طيب أنا مؤمن بوجود الله، إذًا هذا الكلام ليس لي). في الحقيقة حتى المؤمن بوجود الله إيمانا عميقا يحتاج إلى هذه الحلقات. لماذا؟ سأذكر ست فوائد مهمة، يمكن أن نعنونها بــ:
- تعميق الجذور.
- إحسان الظن بالله.
- تكوين الدافعية.
- الثبات والتثبيت.
- إدراك النعمة.
- إحياء العزة.
تعميق الجذور
فاليقين على درجات وليس درجة واحدة. (كيف؟ مش الإنسان إما مصدق وإما شاك أو مكذب؟ أليس اليقين تصديقا جازما لا يخالطه شك؟)
بلى. لكن هذا التصديق بدوره على درجات. أنت حين تصدق بوجود الله تصديقا جازما حاسما لا يخالطه شك فقد اجتزت الخط المطلوب… يعني أفلتَّ من جاذبية الشكوك والتردد..لكنَّ الناس بعد ذلك يتفاوتون في التحليق.
ادخل حديقة وانظر إلى أشجارها. كلها أشجارٌ حية قائمة على سيقانها… نعم، لكن هل هي سواء؟ لا. ستجد شجرة قائمة على جذور قريبة من سطح الأرض، فيسهل اجتثاثها، بينما ستجد أخرى عميقة الجذور يصعب اجتثاثها، وستجد أخرى أكثر جذورا وأعمق، فلا مطمع في اجتثاثها أبدا، قد تُقطع… تُقتل، لكنها لا تُجتث. وكذلك اليقين في النفوس… قد يكون مجموعة من المسلمين، كلُّهم عندهم يقين حي، كما هذه الأشجار حية. لكن شتان بين ثباتها إذا تعرضت للفتن.
أيضا هذه الأشجار… هل هي سواء في إثمارها؟ أبداً! فمنها ما لا تنفع إلا نفسها، ومنها ما يتساقط ثمرها على الناس ويستظلون بظلها. وكذلك اليقين. ولذلك فحتى صاحب اليقين بحاجة إلى سقي شجرة يقينه لئلا تجف وتموت، بل تنمو وتثمر وتنفع وتضرب جذورها عميقا. ومن أهم سقائها التفكر الذي حث عليه ربنا بقوله: (ويتفكرون). فمراجعة أدلة وجوده سبحانه من أعظم التفكر.
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى
أدرك أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام تفاوت مراتب اليقين، وهو من هو في قوة يقينه… ومع ذلك أراد أعلى درجاته: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى)
(قال أولم تؤمن)؟ (قال بلى) يعني لدي إيمان ويقين سالم من الشك..
(ولكن ليطمئن قلبي)…قال ابن عاشور في تفسير (ليطمئن قلبي): (ليثبت ويتحقق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة، وانكشاف المعلوم انكشافا لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشبه عن العقل).
يعني كأن إبراهيم عليه السلام يقول: أريد أن أُحكم هذا الأساس (حقيقة البعث بعد الموت)… أُحكمه إحكاماً لأبني عليه ولأنعم ببرد اليقين ولا تعود بي نفسي إلى فتح الموضوع والحاجة إلى البرهنة عليه وإجابة التساؤلات عنه.
سلسلتنا هذه هي لتنعم ببرد اليقين وطمأنينته.
إحسان الظن بالله
فطريقتنا في تناول أدلة وجود الله لن تكون جافة، بل المقصود منها بالإضافة إلى تعميق اليقين هو أيضا تعميق المحبة لله تعالى واليقين بعدله وحكمته ورحمته… كلما نظرت في أدلة وجود الله، ثم في أدلة صحة دينه، تزداد يقينا برحمته سبحانه أنْ أقام كل هذه الشواهد وتقول في نفسك: يااااه ! (كل هذه الشواهد! كل هذه الأدلة! ما أرحمك ربي بعبادك!).
ستزداد يقينا بعدل الله تعالى حين يعاقب أناسا كفروا به بعد هذا كله، وتعلم حقا أنه ليس للناس على الله حجة بعد هذا كله ولا عذر. هناك مسلمون موقنون بوجود الله لكن لديهم إشكالية حقيقية في هذه المسألة، ويساورهم الشعور بأنه (لماذا يعاقَب الكافر الذي لم يقتنع بوجود الله أو صحة الإسلام؟)! وهذا يوقع العبد الموقن بالله، يوقعه في سوء الظن برحمة الله وعدله.
الإيمان بالله يا إخواني مركب من تصديقٍ وأعمال قلبٍ وأعمال لسان (يعني: القول) وأعمال الأعضاء.
التصديق قلنا أنه ليس على درجة واحدة وهو بحاجة إلى تمكين وترسيخ وسقاءٍ بتأمل أدلة وجوده سبحانه.
وأعمال القلوب: محبة الله واليقين بعدله وحسن الظن بحكمته ورحمته..هذه أيضا تحتاج التفكر في أدلة وجوده سبحانه. وإذا كان عندك تصديقٌ، بينما أعمال القلوب مشوشة والظن ليس بحسَن وفي الصدر حرج، فنور التصديق سيبقى محجوباً.
لذا فاليقين الذي نتكلم عنه يقينان: يقين بوجود الله، ويقين بأدلة وجود الله، أنها كافية شافية واضحةٌ مُلزمة تقوم بها الحجة على الخلق.
تكوين الدافعية
فاليقين بالمفهوم الذي شرحناه هو قوتك الدافعة لكل شيء بعد ذلك… هو الـمُحرك الذي بحسب قوته تنطلق وتستطيع تجاوز العقبات وصعود الجبال. كلما أحكَمْتَ مسألة اليقين فإنه ليس أمامك إلا العمل، والانطلاق بهمة وحيوية في طريق الجنة، وتتفجر ينابيع طاقاتك المذخورة في خدمة دين الله والاستقامة على أمره والدعوة إليه بعزم وثبات ومثابرة. كلما سقيت اليقين تجدد النشاط وتلاشى الفتور.
لذلك فأول وصف وصف الله به المؤمنين في كتابه الكريم في مطلع سورة البقرة: (الذين يؤمنون بالغيب)… هذا هو المحرك لكل شيء. بينما إذا كان هناك خلل في الجذور فسيسري الأثر في الثمرة.
الثبات والتثبيت
فنحن في زمان فتن، وكم خلعَتْ هذه الفتن أناساً من إيمانهم. وواجب المسلم أن يـُحَصِّن نفسه ويضرب جذور يقينه في الأرض ليثبت أمام عواصف الفتن ويُثَبِّت من حوله. تأمل معي قول ابن تيمية رحمه الله: (فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون لا إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شُككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، وليسوا كفارا ولا منافقين، بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب).
إذاً هؤلاء أناس عندهم إيمان مجمل، لكنه ليس عميقا في نفوسهم، فهم على خطر. حتى لو كنتَ راضيا أخي عن يقينك، ماذا عن أبنائك؟ هل تستطيع إعانتهم على تثبيت القناعة واليقين؟ ماذا عن أهلك وأحبابك ومحيطك ونحن في زمن الحرب الفكرية التي تضرب الأساس والجذور، لتشكك المسلمين بربهم سبحانه وتعالى؟ أصبحنا كثيرا ما نسمع هذه الأيام عن أناس يشتكون أن أبناءهم أو إخوانهم تأثروا بالشبهات… فهل تطيق أن يموت حبيب لك على الكفر أو الشك؟
قال الله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)… بالعلو في مراتب اليقين تتأهل لأن تكون من الأئمة الذين ينصر الله بهم الدين. قد تُلقى أمامك شبهة عن وجود الله..من طالبِ جواب بالفعل أو مُشَكِّكٍ في دينك يريد إحراجك… فرقٌ بين أن تتلعثم أو تتهرب أو تجيب بعصبية أو بسطحية يفرح بها هذا المشكك ويحرز بها انتصارا وهمياً على دينك من خلالك… وفي المقابل أن يكون عندك الجواب القاطع الذي يلجم الـمُغرض ويهدي الحيارى ويشفي الصدور. لذلك شمر وأقبل وتعال معنا.
إدراك نعمة الله عليك
وأنت ترى الفرق الكبير بين المؤمن بوجود الله والمنكر له، تستشعر كما لم تستشعر من قبل معنى الكثير من الآيات: (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات)… تدرك بعمق معنى قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يُصرفون) تدركه وأنت ترى تبعات إنكار الله كيف يهوي صاحبه في مكان سحيق، فيزيدك ذلك تمسكا بدينك وانحيازا له وإدراكا لنعمة الله به عليك.
ذكر ابن تيمية في منهاج السنة أن عمر بن الخطاب قال: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية). نعم، فهؤلاء لا يدركون عظمة نعمة الإسلام، وقد تقلصت المسافات في كيانهم بين الحق والباطل. فما أسهل أن تنحل عرى الإسلام لديهم فيسقطوا في وديان الشك والضياع.
إحياء العزة
مع تأمل أدلة وجود الله تعالى تحس بالعزة والانسجام مع نفسك وأنت تُظهر شعائر دينك وتدعو إليه. لأنك تدرك أنك على الحق المبين، ولأن هذا الذي تُظهره وتدعو إليه وضعُف فيه الآخرون من شعائر دينك، دعوتِك، أمرك بالمعروف، نهيك عن المنكر، كلها مستندة في الأساس إلى الحقيقة العظمى والعليا التي لا تتردد في صحتها لحظة… لن تحتاج أن تُعَدل في مظهرك أو تخفي ملامح هويتك الإسلامية ليتقبلوك… لن تحتاجي أن تعدلي في حجابك أو سلوكك ليتقبلوك. لن تشعر بالغربة… حتى لو كنت تمشي عكس التيار فإنك تشعر أنك الأصل لأنك على هذا الحق. ولسان حالك: يا ناس! ألا ترون ما أرى؟! ألا ترون هذه الشمس في رابعة النهار؟! أنا شخصيا إخواني كلما نظرت في أدلة وجود الله استشعرت هذه العزة وهذا الانسجام وهذه الرغبة في دلالة الناس على طاعة ربهم عز وجل.
لأجل هذه الأسباب كلها، فإن هذه الحلقات التي نتناول فيها أدلة وجود الله تعالى لن تكون نافعة ومهمة للمتردد أو المنكر الباحث عن الحقيقة فحسب، بل ولكل مسلم. لتعمق جذورك، تحسن ظنك بربك، تقوي دافعيتك، تَثْبت وتُثَبت، تدرك نعمة الله عليك، وتحيي العزة في نفسك بإذن الله.
في الحلقة القادمة سنبدأ معكم بإذن الله بالأدلة الفطرية على وجود الله.