فصل الدين عن العمل السياسي!

الإسلام دين جاء ليحكم حياتنا الروحية، ويحدد غايتها ومبادئها، كما جاء ليحكم حياتنا المادية ويضع أهدافها ومقاصدها.. فجاءت شريعته بالشعائر الروحية التعبدية، كما جاءت بالنظم والقواعد التي تحكم واقعنا وحياتنا، وتحدد الصواب من الخطأ، والحق من الباطل. ومنها ما جاء مفصلاً، ومنها ما جاء مجملاً.. وما جاء مجملاً قُصد به الالتزام بقواعده العامة، ومبادئه، ومقاصده، والاجتهاد فيما ليس فيه نص.

ومما جاء به من مبادئ عامة هو نظم الحكم، فوضع لها المبادئ العامة اللازمة والواجب أتباعها حتى تُحقق شريعة الإسلام في نظم الحكم والمال، وترك صور الحكم وأشكاله لحاجة وظروف كل جيل، ولطبيعة المرحلة الحضارية التي تمر بها الأمة.

ولكن وقع للأسف خلط شديد بين المبادئ السياسية التي جاء بها الإسلام، وبين الأفعال السياسية التي يقوم بها المسلم، الذي تحول في فترات تاريخية إلى “الحاكم بأمر الله، وظل الله في الأرض” وترسيخ نظرية “الحق الإلهي المقدس” التي يحكم بها السلطان، فتولدت نظرية “الجبرية السياسية” ومن ثم “الاستبداد باسم الدين” فكان إتباعًا لسنة الروم وليس لسنة محمد صلى الله عليه وسلم.

بين المبدأ والفعل السياسي

ضاعت الحدود والفواصل بين ما هو “مبدأ” إسلامي يجب التزامه، وبين ما هو “فعل” يجب تقيمه ومحاسبة صاحبه على أي تقصير فيه، وأدى عدم وجود الفقه السياسي الإسلامي الراشد، وعدم تبلور المشروع الاستراتيجي الذي يُقيم الدين، ويُعيد ريادة الأمة من جديد، إلى تعميق الأزمة، وتشويه الصورة.

إن الدين هو الذي يضع الإطار العام للفعل السياسي، وهو الذي يضع “المبادئ السياسية”، كما يضع غيرها من المبادئ.

وأما الفعل السياسي:

فهو الحركة التي يقوم بها المسلم من أجل تحقيق أقصى مصلحة تحقق الهدف العام، وهو إقامة الدين وتحقيق الحق والعدل، ورفعة الأمة المسلمة من جديد. وهذا الفعل السياسي خاضع للرقابة والمحاسبة، وليس لأصحابه حصانة ما؛ فهم مجرد أجراء عند الأمة لتنفيذ مهمة معينة. ولهم برنامج سياسي أو خطة ذات كلفة وتوقيت وجودة معينة لتحقيق أقصى استفادة من وجودهم؛ حتى ولو كان خطوة واحدة على الطريق.

والفعل السياسي سواء أكان شخص الحاكم أو حزبه أو حكومته أو جماعته.. ليس له أن يركب الدين، ويتلاعب بالفتاوى، ويُوظف رجال الدين ليمارسوا لفعله “التطبيل” و”الشرعنة” وليس لهم أن “يركبوا” الدين ويستخدمونه لأغراض سياسية خاصة.

فالدين هو الذي يرسم صورة السياسة الإسلامية الصحيحة، كما يرسم صورة الاقتصاد وغيره من مناشط الحياة الأخرى، وهو الموجه العام للمبادئ السياسية وليس العكس. والأمة والعلماء والفقهاء إنما يدورون مع الكتاب حيث دار، لا مع السلطان ولا الحزب ولا الجماعة.

ودور الفقهاء والمشايخ والدعاة والعلماء إنما هو في ترسيخ المبادئ السياسية الإسلامية-وغيرها-في وعي الأمة، وليس في إصدار “فتاوى البلاط الملكي” فيتحولون إلى مجرد خدم للسلطان، فهم أكرم من ذلك، والدين أعظم من ذلك.

حينما تسقط المسافة الفاصلة بين المبدأ والفعل

ولكن الذي يحصل أن تسقط المسافات الفاصلة بين المبدأ السياسي الذي يحدده ويصوغه الدين، وبين الفعل السياسي الذي يقوم به المسلم، فنجد السياسي المسلم يتلاعب بالدين، ويبحث عن فتاوى باطلة يؤيد بها أفعاله؛ ليخدع الجماهير، فمثلاً لو قرّر السياسي فعل أمر ما، استخرجوا له الفتوى التي تؤيد ذلك، وإذا قرر السياسي فعل عكس هذا الأمر تماماً في اليوم التالي، استخرجوا له فتوى أخرى تؤيد ذلك؛ مما يجعل ميزان الدين ألعوبة في يد هؤلاء! ويجعل الناس من ورائهم تفقد المصداقية فيهم، وفي حركتهم. ويصبح الدين خادمًا للألاعيب السياسية المتقلبة.

ولمنع ذلك يجب أن يكون:

(1) دور العلماء والفقهاء والدعاة والمشايخ:

هو ترسيخ معالم رسالة الإسلام، وتوضيح وبيان مقاصده والدعوة إليها، ومنها المقاصد السياسية من (العدل، والشورى، ومحاسبة الحاكم، وتوزيع الثروة بالعدل، فهي ملك للأمة، وعدم التوريث، وعدم الإفساد والبغي، وعدم أكل أموال الناس بالباطل.. إلخ) دعوة عامة للأمة تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقول الحق لوجه الله وحده، وتقوله كاملاً تامًا، لا تُخفي بعضه وتُظهر بعضه، وليس لهم علاقة بالنظام السياسي، فهم لدين الله يعملون، ومجال عملهم هو “الأمة” كلها يحافظون على ثوابتها وهويتها، وليس مهمتهم “التطبيل” للحاكم، ولا هم جهة إصدار الفتوى حسب ما يطلبه الحاكم. بل هم جهة نصح ودعوة للأمة كلها، وليس لهم علاقة بالخصومات السياسية، والمنافسات السياسية، فهم ليسوا عمالاً عند الحاكم، والدين ليس في خدمة شخص الحاكم ولا حزبه ولا نظامه.

(2) ودور الحاكم:

(سواء أكان بشخصه أو حزبه أو نظامه أو حكومته ): هو تنفيذ “البرنامج السياسي” داخل الإطار العام لمبادئ الإسلام السياسية دون الخروج عن ذلك الإطار، وفعله السياسي هذا خاضع للرقابة والمحاسبة، وبرنامجه عرضة للنقد، والتصحيح، والتقويم.. ولا يملك الحاكم-ولا غيره-أي حصانة، فالجميع سواسية أمام القضاء الإسلامي، وأي دليل معتبر يُدين أحد-بلا غرض ومكايدة سياسية-فإنه من فوره يحرك الدعوى ضده، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.

وما يستخدمه الحاكم من “موازنات” أو “مواءمات” أو “مداهنات” أو “مراوغات” أو “مناورات” أو “تدرج” أو “كيد ومكر بالعدو” فهذا برنامجه هو الذي يُحاسب عليه، ويُنظر في أمره بعيدًا عن إخضاع المبادئ السياسية الإسلامية لتوافق سياسته أو لتجري وراء مناوراته أو مراوغاته.

ولا يجوز للحاكم أن يستخدم أو يتلاعب بالدين من أجل “الحشد البراجماتي” ودغدغة العواطف، ولا أن يستخدم علماء الأمة للشرعنة لأفعاله، فإنما هو “أجير” عند الأمة يراعي مصالحها، ويقودها بكتاب الله، ويحقق لها أهدافها السياسية والاقتصادية كما جاءت في برنامجه. وليس له من فضل أو أثرة على الأمة، ويحكم بالحق والعدل الرباني. وليس له حق توريث الحكم، أو أخذ ثروات الأمة لنفسه أو لحزبه أو لبطانته.

(3) ودور أجهزة الرقابة والمحاسبة:

هو مراقبة عمل الحكومة، ومدى الشفافية، ومدى تحقيق العدل، وتملك الحرية الكاملة في ذلك، ولا تخضع لرغبات الحاكم، ولا يملك الحاكم أن يُعطل أو يُعرقل عملها، فأجهزة الرقابة هي عين الأمة على سير عمل الحاكم وحكومته، وتملك حق إنكار المنكر، عبر مؤسساتها الملائمة لظروف الأمة. ولها أن تحرك الدعاوى القضائية ضد أي جهة تخرج عن مبادئ الإسلام، أو عن الحق والعدل الرباني.

(4) ودور الأمة:

هو الفاعلية تجاه كل هذه المكونات فهي تنكر على العلماء إذا استخدموا سلطتهم الروحية في تدعيم حكومة ما أو حزب ما بصورة باطلة أو فيها محاباة أو شهادة زور أو تناقض في الموازين أو ازدواجية في المعايير، وتنكر على الحاكم إذا ظلمها أو فشل في تحقيق برنامجه، وتنكر على أجهزة الرقابة إذا قصرت في عملها. وتقوم بذلك سواء بشكل فردي أو من خلال مجالس شورتها.

فإنكار المنكر هو الروح التي تحكم الأمة كلها، فإذا فسد الحاكم-أو حكومته-أو أي مؤسسة من مؤسسات الأمة، فاستعلان الإنكار واجب وجهاد ودين، وإذا فسد قطاع من الأمة فإن الحاكم أو مؤسسات الأمة، تُنكر ذلك الفساد، وهكذا يشد المجتمع المسلم بعضه بعضا في صورة من التلاحم كالبنيان المرصوص والجسد الواحد، إذا فسد منه عضو-مؤسسة أو جهة أو حاكم أو حكومة أو جماعة من الأمة-تحركت باقي أعضاء الجسد لتصحيح المسار.

هذه الفاعلية خاصة بالأمة المسلمة، التي كانت علامة خيريتها وريادتها وغاية إخراجها للناس هو “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” و”الإيمان بالله”.

بين “المبدأ السياسي الإسلامي” و”الفعل السياسي البشري”

وبذلك نفصل بين “المبدأ السياسي الإسلامي” الذي نسعى ونهدف إلى إقامته وتحقيقه، ونُقدس المصدر الذي جاءت منه هذه المبادئ (الكتاب وصحيح السنة) ولا نستبدل هذا المصدر بغيره، وبين “الفعل السياسي البشري” الذي يخضع للتحسين والتقبيح والرقابة والمحاسبة.

وأما استخدام “الدين” للدفاع عن “المذهب السياسي” أو الحزبي أو الأيديولوجي. وقراءة للدين ليس كما أُنزل، وإنما قراءة له بمنظار المذهب والحزب والتعصب الجاهلي في ذلك، هو الذي يُوقع كثير من الناس في حالة “النفاق السياسي” و”عبودية البراجماتية”! واستخدام الدين كوسيلة وأداة لتبرير “الفعل السياسي” و”العمل الحزبي” أو استخدامه كوسيلة للهجوم على الخصوم.

وأرى في هذا استهزاء بالدين، وصد عن سبيل الله، فإن غير الحزبيين وغير المؤدلجين، سيكتشفون بكل سهولة هذا التلاعب بالدين، وتغير المواقف حسب قائمة الأصدقاء والخصوم.

وهذا مناقض للمنهج الإسلامي الذي يأمر بالقيام لله، والشهادة بالقسط ولو لصالح أشد الأعداء، ويأمر كذلك بالقيام بالقسط والشهادة لله، ولو ضد أقرب الأقربين، ذلك أن هذا الدين لله وحده، وميزان الدين لا يعرف أصدقاء وخصوم، ولا مذهب ولا جماعة.. بل يعرف الحق، ولا شيء غير الحق.

ولكن من أين يأتي الدجل السياسي؟!

يأتي الدجل السياسي عندما تركب السياسة الدين لتحقيق أغراض دنيئة، وعندما ترضى الأمة وتتابع على الباطل. وإن قضية “الرضى والمتابعة” قضية ذات شأن كبير في التصور الإسلامي، وقد تكون هي الحلقة الأخيرة للفرد المسلم للنجاة، بعيدًا عن دجل بعض الساسة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ” [صحيح مسلم/ 1856]

فالرضى والمتابعة على الباطل تجعل الإنسان شريكًا في هذا الباطل، ومن هنا تأتي خطورة “التعصب الجاهلي، والبغي والحسد” الذي غالبًا ما يؤدي بالإنسان إلى الرضى والمتابعة على باطل أو ظلم أو إفساد أو  استهزاء بالدين، فالمسلم-أيًا كان انتماءه ومذهبه وفكره وميوله-لا يرضى بالباطل ولا يُتابع عليه ولو جاء من أقرب الأقربين، ذلك أن قضية الحق والعدل والإيمان هي أسمى قيمة في هذا الوجود، وليست سلعة للأهواء أو للدجل السياسي.

وبذلك ندور مع الحق حيث دار، ولا نتحول نحن، ونُحول الدين إلى “أداة” لتبرير الباطل، فهذا يحطم موازين العدل، ويعمي عن رؤية الحق.

فصل الدين عن العمل السياسي!

يجب أن “ينفصل” الدين عن “العمل السياسي” الذي تقوم به الأفراد والجماعات، فلا يصح أبداً استخدام الدين كأداة من أدوات الصراع السياسي أو للتلاعب بعواطف الشعوب المسلمة.

وإذا افترضنا حالة خيالية من العمل السياسي، بأن تكون جميع الأحزاب إسلامية الروح والفكر والمنهج والتصور.. فإن التنافس بينها يقوم على أساس “الأمانة والكفاءة والكفاية والحكمة والرشد” دون أن تستخدم الدين كوسيلة لتحقيق أهداف حزبية أو مصالح شخصية.

وعندما تحاول جماعة من المسلمين تحقيق هذه الصورة، فإنها تقدم “اجتهادها” بصورة ربانية “تدور مع الحق حيث دار” لا بصورة حزبية تدافع عن الباطل إذا صدر عنهم، وتنكر على نفس الباطل إذا صدر عن الخصوم. فهذا من “البغي” الذي يُخزي بصحابه.

وإذا وقع الصراع السياسي أو التنافس-والتدافع من طبيعة الحياة والبشر-فيجب أن نُفرق بين ما هو مبدأ إسلامي عام يسري على الجميع، وبين ما هو رؤية سياسية.

فإذا كان الصراع السياسي بين ما هو إسلامي بحق، وبين ما هو علماني.. فإن الانتصار للمبدأ الإسلامي مُقدم على الانتصار للحزب، ولا دخل لأي خصومات شخصية أو معارك جانبية بقضية استعلاء الإسلام بمبادئه.

وإذا كان الصراع السياسي في بيئة إسلامية، فإن الحفاظ على نقاء التصور الإسلامي هو أهم ما في هذا الصراع، بعيداً عن الأيدولوجية الحزبية، وفصل “العمل السياسي” الصادر من المسلم عن قضية الدين ومبادئه السياسية، لأن قضية الدين قضية عامة تخص جميع المسلمين، ولأن قضية المسلمين الأصلية، والتحدي الحضاري الذي يواجههم هو عودة الأمة والدولة على صورتها الربانية.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى