
ماذا لو كان «ترك القراءة من أكبرِ الآثام»؟.. وقفات مع كتاب (الناطق الأخرس)
من قرية صغيرة ارتبطت بالإبل والبادية والصحراء هناك ولد ونشأ وكبر فهد بن عسكر الباشا مؤلف كتاب (الناطق الأخرس)، وهو كتاب دوّنه بعد سنوات عديدة، خشيةَ أن يُدفن وهو في طلب ما لا يُدرك، ويقصد بذلك رغبة الكمال أو “لعنة الكمال”، و”الباشا” قارئ نهم وجد نفسه في عزلة مَنَحَته القدرة على الكتابة وإتمام الكتاب وهو مرافقًا لوالده المريض -رحمه الله- حين كان في المستشفى بمدينة الرياض آنذاك، ولعل الكتاب ثمرة من ثمرات البر والإحسان، ولا نعلم عطايا الرحمان فقد يمن عليه مرة أخرى، ويكتب لهذا الكتاب الخلود.
والكتاب يظهر من عنوانه (الناطق الأخرس.. حديث القراءة والكتب)، وهو حديث ماتع ومن أحسن ما يحرض عليه المؤلف، وبما أن «القراءة ضرورية كالتنفس» فإن تركها إثم، «ومن أكبر الآثام»، فماذا لو كان حقًا «ترك القراءة من أكبر الآثام»؟ كما ورد في الكتاب!
وأما طريقة المؤلف في نسج الكتاب تذكرنا بكتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) لمحمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي الفيومي المصري، وهو شاعر وأديب من أهل القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، عصر الموسوعات، وجميل أن نجد عملًا معاصرًا يحث على القراءة بأسلوب يجمع فيه المؤلف شتى ما قيل وورد من الأخبار بحسب ما تيسر له، محاولًا تنظيم ذلك في مقالات بعناوين مختلفة، وهذه وقفات مع بعض ما جاء في كتابه.
الوقفة الأولى: حلاوة القراءة

يبدأ المؤلف كتابه بنعمة القراءة والحديث عما قالهُ عشاقها، وكيف ذاق هو ما ذاقه أهل العشق! لتجد نفسك أمام أخبار أحوالهم، وما بين المتعة وأكسجين السعادة إلى الجنون والهوس، والإدمان وغيرها من التشبيهات والأوصاف التي وردت؛ لتحرضك على الدخول إلى دنيا القراءة والاختلاء مع كتاب.
أيضًا أن لذة القراءة التي وصفها المؤلف تتماهى مع مقولات علماء المسلمين في وصف لذة الإيمان كقول العالم الزاهد إبراهيم بن أدهم وهو من أتباع التابعين: «لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف»، وما قاله العالم ابن تيمية: «ماذا يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحت فهي معي»، ولعل هذا الذي لاح لي يجعل من ذاق لذة القراءة تواقًا إلى تذوق حلاوة الإيمان.
الوقفة الثانية: القراءة إسعاف عاجل
«كنتُ أقرأ وأقرأ وأقرأ بشدة لم أعرفها من قبل…» هذا ما فعله من أنقذته القراءة وكانت إسعافًا عاجلًا لنفسه من الاكتئاب؛ ليوضح الفرق بين حب الكتب والحاجة إليها، وبهذا لم ينحصر دور القراءة عند التسلح المعرفي والمتعة بل هي شفاء للنفس والجسد، ومخرج من كل ضيق وهم.
ومن بين الأخبار التي وردت في الكتاب: (من أنقذته القراءة من الموت) حتى يتخيل للقارئ أن الكتاب غرفة إنعاش، والقارئ يستعيد صحته من خلال هذه العناية الطبية؛ لأنه «لو توقف عن القراءة لمات!». والأمر لا ينتهي عند الإسعاف والانعاش بل يمكن للكتب أن تتحول إلى أوطان!
الوقفة الثالثة: الكتب بين الموت والميلاد

استعرض المؤلف أخبار من كان مسقط رأسه بين الكتب، حتى سُمّي “ابن الكتب” وهو العالم جلال الدين عبد الرحمن السيوطي حدث ذلك سنة 849هـ/1444م، ولا غرابة إذا عرفنا أنه ألّف أكثر من 600 كتاب!
وكذلك نجد منهم من مات منكفئًا على كتبه، ومن رُئِيَ بعد موته وقد غفر الله له بسبب أنه انكفأ على الكتب تحت المطر يحميها في طريقه. رحمة الله عز وجل تتجلى في دقائق الأمور، كيف لا وقد قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 3].
الوقفة الرابعة: في سبيل عشق الكتب
ذكر المؤلف أخبارًا عن سوق الكتب وغرائب زبائنها فضلًا عن هوس اقتنائها. وقد يصل الأمر من حرمان النفس من ملذات الحياة من أجل الكتب حتى أن رجلًا باع الملابس التي عليه من أجل شراء كتاب!
ولعلنا في الوقت المعاصر نحظى بنعمة عظيمة من وجود مكتبات عامة، وتوفر الكتب وكثرة الطباعة فضلًا عن وجود متاجر الكتب الإلكترونية وعلاوة على ذلك سهولة تحميل الكتب المصورة “PDF”، ولعل المشقة التي تواجهنا حاليًا هي عند الدراسات البحثية من صعوبة الحصول على نوادر الكتب من مخطوطات أو مؤلفات حديثة لم تصل إلينا، أو الاطلاع على الرسائل العلمية والأبحاث في الجامعات التي لا تسمح للباحث بالاستعارة ولا بالتصوير إلا بعدد محدود من الصفحات، أيضًا هناك بعض المؤسسات البحثية التي استحوذت على الكثير من الأبحاث ومنعتها عن الأفراد فيجد الباحث المتنقل بين البلدان جدارًا يعزله عن الاطلاع ناهيك عن منعه من دخول المكتبات الجامعية في أغلب البلدان، وهنا يتجلى ما ورد في الكتاب من أخبار لصوص الكتب والذي يقابله في عصر التكنولوجيا والإنترنت “الهكر” وأصحاب المواقع التي تتيح للقارئ الحصول على الكتب، ويتجدد السؤال الذي ورد في الكتاب وفصّل فيه: هل سرقة الكتب حرام؟!
تابع أيضًا: ملخص كتاب القراءة المثمرة مفاهيم وآليات |
الوقفة الخامسة: أيها القارئ لست وحدك
من الأمور التي تتكشف لك وأنت تقرأ الكتاب حقيقةُ أنك لست وحدك، ونجد هذا في أكثر من صورة استعرضها المؤلف منها: ذِكره للتواضع العلمي حد الجراءة لإبراهيم المازني في رحلته مع الكتب عندما صرّح أنه لم يفهم ما كتبه الفلاسفة الألمان؛ مما يُشعر القارئ الذي حدث معه الأمر نفسه أنه طبيعي وليس غبي كما كان يعتقد، وكذلك المرأة التي تتوقف عند شراء الحقيبة لتبحث عن حقيبة تتسع لكتاب، هي تشبهك أيضًا أيتها القارئة. ومن يفتح الجوال ليقرأ كتابًا بين الناس حتى لا يُحرج بسبب بيئته التي اندثرت فيها القراءة وحب الكتب، هو مثلك أحيانا!
وستجد أيضًا من شعر بالألم مثلك بسبب بائع للكتب لا يعرف عن الكتب التي يبيعها شيئًا ويصف القراءة بـ«وجع الرأس»، ومن تحسر حين رأى المكتبات تستبدل بمطاعم الوجبات السريعة.
الوقفة السادسة: أسباب تأثرك بكتاب دون غيره

ولهذا أسباب لخصها المؤلف “الباشا” إلى أربعة وهي:
- الحالة النفسية للقارئ أثناء قراءته.
- المرحلة العمرية؛ فقد يؤثر عليك في الشباب ما لم يؤثر عليك وأنت أكبر سنًا.
- التخصص والاهتمام الشخصي.
- البيئة والثقافة لمؤلف الكتاب مما يستشكل عليك فهم ما يقصده.
كما أن المؤلف تطرق لأمر تأثير الكتب على المجتمعات وقدرتها على تغيير الرأي العام بل والعالم! ولهذا يكره الحكام المستبدون تلك الكتب.
الوقفة السابعة: الكتب لا تغني عن تجارب الحياة
لعل تلك القفلة التي جاءت في أواخر الكتاب مهمة؛ حين وضّح المؤلف «أن الكتب لا تغني عن تجارب الحياة» فلا إفراط ولا تفريط، والتوازن هو الحل، فهو يؤكد من خلال ما ورد من الأخبار وما جاء في ثنايا الكتب عن خطر القراءة عندما تحل محل الحياة، «ففي الوقت الذي تعتقد بأنك تتغذى بالكتب تجدها تلتهمك».
وأخيرًا نبه المؤلفُ القارئَ قبل أن يبدأ في قراءة كتابه إلى كثرة استطراده وهوامشه؛ وهو أمر دعت إليه الحاجة كما يقول، أيضًا حرصًا منه على الأمانة العلمية كان يوثق المصادر والمراجع المنقول منها، والتي بدورها تعرفك على جزء من سيرته الذاتية التي لم نجد شيئًا عنها إلا اليسير مما ذكره هو في كتابه.