اختيارات المحرر

معركة النهضة: بين حماسة العاطفة وحكمة الاستراتيجية

مع تصاعد الأحداث الكبرى، خاصة بعد طوفان الأقصى المبارك، نشهد اليوم صحوة إسلامية جديدة تُحيي في نفوس الشباب المسلم الرغبة في التغيير. كيف لا، وقد رأوا بأعينهم انهيار أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر” أمام ثلة من المؤمنين الصادقين الذين بذلوا أرواحهم دفاعًا عن دينهم وأرضهم ومقدسات الأمة. هذا المشهد بعث الأمل وأيقظ القلوب، وأعاد إلى الأذهان أن الظلم ليس قدرًا محتومًا، وأن المقاومة قادرة على تحقيق المستحيل.

لكن كعادة الشعوب؛ يتسلل اليأس إلى قلوبها، وتخبو جذوة الأمل في صدورها، وتنطفئ شعلة العمل بين أيديها؛ بسبب ندرة الأبواب المفتوحة وكثرة الطرق المغلقة وهذا إنما يكون بسبب اختزال فكرة التغيير في التضحية المطلقة دون تخطيط أو رؤية واضحة. وهنا تكمن الخطورة: فليس كل من أراد الخير للأمة كان قادرًا على تحقيقه، وليس كل من أراد أن يضحي، أحسن اختيار التضحية الصحيحة.

التضحية وحدها لا تصنع النصر

الرغبة في الفداء والتضحية بالنفس لأجل قضية عادلة ليست كافية لتحقيق التغيير. فالأنظمة القمعية لا تخشى من هو مستعد للموت دون غاية وهدف صحيح، بل تخشى من هو قادر على تغيير المعادلة. التاريخ مليء بأمثلة الذين ضحوا بحياتهم لكن تأثيرهم تلاشى لأنهم لم يكونوا جزءًا من مشروع أوسع، أو لأنهم تحركوا بعاطفة صادقة دون استراتيجية واضحة.

الحقيقة الصادمة هي أن القوة الحاكمة توافقك تمامًا في استعدادك للموت!  أنت مستعد لأن تفقد حياتك، وهم مستعدون تمامًا لأخذها منك دون تردد. إذن، ما الذي تحقق؟ هل زالت الأنظمة الفاسدة؟ هل تبدلت موازين القوى؟ أم أن المشهد بقي كما هو، بل ربما أصبح أشد قسوة؟

التغيير الحقيقي لا يحدث بردود أفعال غاضبة، ولا بثورات غير محسوبة، بل بالعمل الصبور والاستراتيجي طويل الأمد. نحن بحاجة إلى رجال ونساء مستعدين لخوض عقود من العمل الدؤوب، في التخطيط، والتنظيم، ونشر الوعي، وبناء الوعي الجماعي، والتغلغل في دوائر التأثير، وليس فقط إلى من يرفعون شعارات الحماسة والتضحية الفورية.

المعرفة قبل المواجهة: هل أنت جاهز حقًا؟

مواجهة التحديات

لنفهم الأمر بمثال بسيط: لو تقدمت لوظيفة مرموقة في شركة عالمية، وكان كل ما تستطيع تقديمه هو استعدادك للتضحية بحياتك من أجل نجاح الشركة، هل سيكون ذلك كافيًا؟ بالطبع لا. عليك أن تفهم أهداف الشركة، والتحديات التي تواجهها، ومنافسيها، وكيفية تحقيق النجاح.

لنسقط هذا المثال على واقع أمتنا:

  • كم منّا يعرف تاريخ الأمة الحقيقي لا التاريخ المشوّه الذي كُتب بأيدي المستعمرين؟
  • كم منّا يفهم عدونا فهمًا دقيقًا يساعده على مواجهته بذكاء وليس بردود أفعال متوقعة؟
  • كم منّا يستطيع تحليل الواقع واستقراء المستقبل بناءً على المعطيات الحالية؟

إنّ عدم الوعي بكيفية عمل الأنظمة القمعية يؤدي إلى استجابات ساذجة وبسيطة لا تضر سوى أصحابها. وبدلًا من أن يكون الشخص جزءًا من التغيير، ينتهي به المطاف ضحية للنظام نفسه، دون أن يترك أثرًا حقيقيًا.

ما هي التضحيات الحقيقية؟

التضحية ليست مجرد استعداد للموت، بل استعداد للعطاء المستمر في مختلف المجالات:

  • هل أنت مستعد لإنفاق وقتك وجهدك في البحث والتعلم والتخطيط؟
  • هل أنت مستعد لإنفاق أموالك لدعم قضية بدلًا من إنفاقها على كمالياتك ورغباتك الشخصية؟
  • هل يمكنك تحمل أن تُشوه سمعتك، أن يُفترى عليك، أن تواجه الرفض والخذلان؟
  • هل لديك الصبر لتكرار الرسائل التوعوية مئات المرات دون أن ترى أثرًا فوريًا؟
  • هل يمكنك أن تعمل لعقود، وأنت تعلم أن التغيير قد لا يأتي إلا بعد رحيلك؟

هذه هي التحديات الحقيقية التي تواجه أي مشروع نهضوي. فمن السهل أن تقول إنك مستعد للموت، لكن السؤال الأصعب هو: هل أنت مستعد للعيش من أجل هذه القضية؟

أهل الحل والعقد: كيف تصبح مؤثرًا بدلًا من أن تكون تابعًا؟

كيف نصل إلى التغيير؟

أحد أهم الجوانب التي يغفل عنها الكثيرون هو فهم من يملك القرار وكيف يُصنع القرار. فالتغيير لا يحدث فقط بالمواجهة المباشرة، بل أيضًا بالتغلغل في مراكز التأثير.

في كل مجتمع، هناك أهل الحل والعقد، أصحاب القرار الحقيقيون، من الساسة والعلماء والمفكرين ورجال الأعمال والإعلاميين وقادة الرأي. هؤلاء هم الذين يملكون التأثير المباشر على مجرى الأحداث. فبدلًا من الاكتفاء بمهاجمة الأنظمة أو الغضب منها، يجب أن نفهم كيف تعمل هذه الأنظمة وكيف يمكن التأثير عليها أو اختراقها من الداخل.

  • كيف يمكن التأثير على صانعي القرار بدلًا من الاكتفاء بردود الأفعال؟
  • كيف يمكن أن تصبح أنت بنفسك من أهل الحل والعقد، أو على الأقل أن تكون قريبًا منهم؟
  • كيف يمكن الاستفادة من التغيرات السياسية والاجتماعية لبناء نفوذ حقيقي؟

هذا لا يعني المهادنة أو الانبطاح، بل يعني أن تكون لديك خطة واضحة، وذكاء استراتيجي، وأن تفهم متى تواجه، ومتى تبني، ومتى تنتظر اللحظة المناسبة للتحرك.

كيف نحقق تغييرًا حقيقيًا؟

قبل أن تبدأ أي حركة تغييرية، يجب أن تمر بمراحل من التأمل الذاتي والنقد الذاتي الصادق:

  1. لماذا تريد أن تكون جزءًا من هذا التغيير؟
  2. هل لديك المعرفة الكافية عن القضية التي تناضل من أجلها؟
  3. هل لديك القدرة على إحداث تغيير حقيقي؟
  4. ما هي الاستراتيجية المناسبة لمجتمعك وظروفك؟

ختامًا: من التضحية بالموت إلى التضحية بالحياة

لن تنهض الأمة إلا بتضحيات أبنائها، لكن التضحيات الحقيقية لا تعني إلقاء النفس إلى التهلكة دون تفكير، بل تعني أن نعيش من أجل قضايانا، أن نعمل بلا كلل، وأن نتحمل المعاناة والمشاق، وأن نكون واقعيين في سعينا للتغيير.

الطريق طويل، لكن الأمم لا تنهض إلا بالثابتين الصابرين، وليس بالحالمين المتعجلين. من أراد أن يكون جزءًا من التغيير، فليبدأ اليوم بالعلم، والتخطيط، والصبر، والعمل الدؤوب.. فهذا هو الجهاد الحقيقي.

علي جاد المولى

كاتب مصري ومهندس نظم مقيم في تونس، حاصل على بكالوريوس الهندسة من جامعة الأزهر، وشهادة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى