الدين في حياة الأمريكي

كنت أعتقد أن الأمريكان شعب يعتقد دين المسيحية التي أضحت نصرانية في زماننا اليوم. وهذا ما كنت أتوقعه حين وصلت لأرضه، لكنني تفاجأت أن أغلب الأمريكان الذين التقيتهم لا علاقة لهم بالدين، ولا بالكنيسة، بل وجدت من كان ينقم عليها أشد النقمة وقد بدل النصرانية إلى ديانات أخرى كالبوذية.

ديانة القوم

ورغم أن النصرانية هي الديانة الأكثر شيوعًا مع نحو 73.7% من الأمريكيين عرّفوا أنفسهم بأنهم “مسيحيون” حسب دراسة لمؤسسة (غالوب) في عام 2016.[1] ومنذ منتصف 1990 والولايات المتحدة تضم أكبر عدد من السكان المسيحيين على وجه الأرض مع 224 مليون مسيحي.

إلا أنه من الناحية الرسمية فإن دستور أمريكا يعترف بكونها دولة علمانية، ويعرضها كدولة لا تلتزم ديانة بذاتها على عكس المشاهدات الواقعية التي تؤكد أن الاتجاه السياسي للحكومة بات جليًا بأنه اتجاه صهيوصليبي بامتياز.

تاريخ المسيحية (النصرانية) في أمريكا

وصلت المسيحية إلى أرض أمريكا مع المهاجرين الأوروبيين الجدد الذين وصلوا تلك الأرض لاستعمارها، وذلك منذ بداية القرن السادس عشر والسابع عشر. وينتمي  معظم مسيحيي الولايات المتحدة إلى الكنائس البروتستانتية التي تنقسم بين تقاليد الخط الرئيسي والإنجيلية، والكنيسة الرومانية الكاثوليكية.

وحسب دراسة مؤسسة (غالوب) في عام 2016 مثَّل البروتستانت 48.9%، في حين تمثل الكاثوليكية 23.0%، وهي أكبر فئة فردية. وحسب دراسة تعود لمركز (بيو) للأبحاث لعام 2014 تعد البروتستانتيَّة الإنجيلية السكان أكبر مجموعة دينية في البلاد مع حوالي 25.4% من السكان.

وتقدر دراسة أخرى الإنجيليين من جميع الأعراق بنسبة 30-35% في حين تمثل كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة (المورمون) 1.6% وهي رابع أكبر كنيسة في أمريكا، وأكبر كنيسة ناشئة في أمريكا.

ظاهرة الكنائس

ورغم أن الكنائس منتشرة بشكل ملفت وأن شعائر الاحتفالات الدينية تجمع الناس تحت سقفها بما في ذلك الأعراس والمآتم، فإن حقيقة التزام الأمريكي بدينه أمر يدعو للتأمل، إذ أن أغلبهم غير مؤمن -وإن كان يدخل كنيسة-.

ثم ما يزيد الأمر تعقيدًا وجود تنافس كبير بين الكنائس المختلفة المذاهب. تعرف ذلك من خلال النشرات المكتوبة، والأنوار الملونة على الأبواب والجدران للفت الأنظار، وأنواع البرامج الجذابة لاهتمامات الجماهير… وكأننا في سوق تجاري يسوده التنافس.

ويرجع ذلك إلى انقسام المجتمع المسيحي إلى ثلاث مجموعات كبيرة؛ وهي البروتستانتية الإنجيلية، والبروتستانتية الخط الرئيسي أو البروتستانتية التقليديَّة والكاثوليكية. بالإضافة إلى الطوائف المسيحية التي ترتبط مع الأقليات العرقية، مثل مختلف الطوائف الأرثوذكسية الشرقية، والكنائس المسيحية الشرقية المختلفة.

وفي مسح أجري عام 2014 من قبل مركز (بيو) للأبحاث وجد أن النسب المئوية لهذه المجموعات كانت على التوالي 25.4% ينتمون إلى المذاهب الإنجيلية، وحوالي 20.8% ينتمون إلى الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وحوالي 14.7% إلى الكنائس البروتستانتية التقليدية.[2]

لكن مع تواتر الملاحظة رأيت أن الكنيسة والالتزام بالشعائر الدينية لا يعدو كونه تقليدًا اجتماعيًا ومكانًا للقاء والأنس عند الأمريكان أكثر منه اجتماعًا روحيًا يقدس الدين وقيمه.

الحزام الإنجليلي الأكثر التزامًا بالطقوس الدينية

وقد وجدت مؤسسة (غالوب) أن 41% من الأمريكيين هم ممارسين بشكل دائم للشعائر الدينية، وأما حضور القداس والكنيسة فيتفاوت كثيرًا من ولاية لأخرى، ويبرز أكثر جنوبًا من (تكساس) إلى (أوكلاهوما) أين تقع الأقاليم جنوب شرق إلى وسط جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، وفيها البروتستانتية الإنجيلية هي الغالبة اجتماعيا. لهذا يطلق على هذه الأقاليم بالحزام الإنجليلي.

وحضور القداس والكنيسة يتفاوت كثيرًا من ولاية إلى ولاية. ففي استطلاع أجرته مؤسسة (غالوب) عام 2006، قال أن 42% من الأمريكيين ترددوا على الكنيسة أو المعبد مرة واحدة في الأسبوع أو كل الأسبوع تقريبًا. وتراوحت الأرقام بين 58% في ولاية (لويزيانا) و(ألاباما) و(كارولينا الجنوبية)، إلى 24% في ولاية (فيرمونت) و(نيوهامبشير).[3]

النشاط التبشيري

ولم تكن تخلو الشوارع من مبشرين، فقد كنت أشاهد الكثير من الأقباط والمصريين ممن يتقنون اللغة العربية ويدعون كل من ليس نصرانيًا لديانتهم، ويوزعون المنشورات بل ويستدلون بالقرآن الكريم في دعوة الناس.

وقد لاحظت أن هؤلاء المبشرين لا يملكون قوة الحجة، ففي أحد الأيام طرحت أسئلة على إحدى المبشرات التي دعتني للنصرانية وهي تستدل بالقرآن الكريم، فلم تتمكن من الإجابة عليها وقالت لي تهربًا: لن يجيبك على أسئلتك إلا القسيس بنفسه، فقلت هذا رقمي فليتصل بي وأنا جاهزة لنقاشه، ولكنها اختفت ولم أر لها أثرًا بعد ذلك اليوم، قلت: لعلها أدركت أنني لم أكن أريد إلا إقامة الحجة عليهم وأنني سأكون عقبة، فالأفضل تجاوزها!

التبشير يتخذ أشكالًا متعددة، وقد تفاجأت يومًا حين اتصلت بمؤسسة لرعاية الأيتام في إفريقيا، أنهم رفضوا طلبي في حضانة طفل إفريقي من أصل مسلم لأنني حين ملأت الاستمارة حددت ديانتي الإسلام، ويبدو أنهم لا يقبلون إلا ديانة النصرانية لحضانة هؤلاء الأيتام!

النصارى العرب

معرفتي بالنصارى العرب كانت تسمح لي بإجراء مقارنة مع النصارى الأمريكان، فقد كنت أشاهد النصارى العرب بأنفسهم ينظرون للأمريكان كشعب متخلٍّ عن دينه، ولا يمثل لهم الدين غالبًا أكثر من لقاءات ومرح واحتفالات، أو تعزية.

أعياد النصارى

هناك تقديس ملحوظ لأعياد النصارى كعيد الفصح، وعيد الميلاد، وعيد (الهالويين) و(الفالنتاين داي)، ففيها يجتمع الأمريكان جميعًا في الفرحة واللهو بغض النظر عن إيمانهم بالدين والتزامهم قيمه أم لا. ثم  للأسف يجتمع معهم حتى المسلمون!

لقائي مع الراهبة

كنت متجهة إلى (ديترويت) بالطائرة، وركبت بجانبي راهبة مسنة تبدو في السبعينات من عمرها، وكنت حينها أستمع القرآن فلم أكن أعرها أي اهتمام، لكنها لم تكن تستطع أن تحول بصرها عني لعل الحجاب أثار بغضها؛ لأن الكراهية كانت واضحة في عينيها.

وكنت أتعجب من هذه النظرات؛ فكسرت ذلك الجمود بأن فتحت الحديث معها، وسألتها هل هي راهبة؟ فاسترخت ملامح وجهها حين رأتني أحدثها بلغتها فانطلقت في تبادل الحديث معي، ولا أشك أن هذا الجمود وهذه الكراهية كانت بسبب خلفية مرعبة تحملها ذاكرة هذه الراهبة عن المسلمين.

لقد كانت بالفعل موجسة مني خيفة، ثم بعد أخذ ورد، شعرت أنها استرخت أكثر وبدت أكثر تقبلًا لوجودي بجانبها، وحين كان وقت الخروج من الطائرة كانت لا تنفك تتبعني بنظراتها حتى اختفيت بين الزحام! لقد كان واضحًا اهتمامها بي كمسلمة.

على عكس تلك الراهبة التي استقبلتنا في الفندق الذي نزلنا فيه خلال سفر لنا مع بعض الطالبات في الجامعة، وكانت هذه الراهبة مسؤولة عن استضافتنا وتسهيل أمورنا، ولكن ما فاجأني كان تلك الكراهية التي تقدح بها شررًا! وكم كانت تحاول تفادي محادثتي أو مجرد النظر في!، لقد كانت تفر مني فرارًا في كل مرة تراني فيها، لأنني كنت المسلمة الوحيدة بينهم!

نقاشي مع دكتورة تحولت عن النصرانية

كانت في الخمسينيات من عمرها قد أَرهق بصرها طولُ البحث والدراسة التي قضت جلّ عمرها في انشغالٍ بهما، ما جعلها تلبس نظارات سميكة لعلها تخفي شقاء السنين. وقد عُرِفت هذه الدكتورة بنباغة واجتهاد في مجال البحث العلمي، وحازت على العديد من الشهادات والمنح والأوسمة العالمية والمحلية، وكانت تُستدعى للقاءات دولية في مؤتمرات شتى واجتماعات حية على الأثير كي تقدم الشروحات والتفاصيل عن آخر البحوث العلمية.

كنا نتناقش معًا في كل شيء، ولكن أبرز نقاش لي معها كان عن سبب تركها النصرانية وتوجهها للبوذية، فقالت لي مفصحة بألم بدا ظاهرًا على ملامح وجهها: لقد سئمت من كذب الكنيسة وتلاعب رجال الدين بعقولنا، لقد ازدروا فهمنا أمدًا من العمر، فإن تمكنوا من استغفال آبائنا فلن نسمح لهم بأن يستغفلوننا اليوم.

لقد صدمت بالفرق الشاسع بين الحقائق العلمية الحديثة وما يحاول أن يرسخه القسيسون في أذهاننا، وهو مخالف للحقيقة والواقع، لقد كانت مسترسلة بشكل عجيب وتظهر على ملامح وجهها وتجاعيدها آثار الانزعاج.

وحين سألتها لما ذهبت للبوذية تحديدًا أخبرتني أن السبب واضح، هي لا تريد أن تخير بين نار وجنة، لا تريد أن تعلم أن هناك حساب في آخر الحياة، تريد أن تكون مطمئنة لمصيرها بغض النظر عن فعالها.

لقد سئمت التحذير والترهيب، وبدت فاقدة الثقة بالكنيسة، لقد كانت تنتقد بقوة أولئك الذي يضعون أنفسهم في موقع حلقة الوصل بينهم وبين خالقهم، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة ثم هم بأنفسهم ليسوا قدوة، ويُعرف عنهم كل السقطات المشينة والذنوب غير المغفورة! فعن أي قسيسين “نبلاء” نتحدث؟!.

ثم بعد حديث طويل وتجاذب، أقرت لي أنها ستحفظ حق أهلها في دفنها على طريقة النصارى على غير عادة البوذيين، فقط حفظًا لمشاعرهم لكنها أعلمت الجميع أنها ستموت كافرة بالنصرانية التي بها يدينون.

وكانت لا تفوت عيدًا للنصارى إلا واحتفلت به وتهادت وأهدت خلاله الهدايا. لقد كانت ملتزمة بمشاركتهم أفراحهم، وفي نفس الوقت تؤدي الطقوس الغريبة والشاقة التي يعرفها البوذيون، ثم كانت قادرة على أن تسافر إلى بلاد بعيدة جدًا فقط لأداء طقوس فيها من الشقاء ما فيها.

الدعوة للإسلام

لقد صادفت الكثير من النصارى الأمريكان؛ الذين يودون تعلم الإسلام، وبنفسي لقنت فتاتين أمريكيتين الشهادتين، لقد كان موقفًا لا يُنسى، يدخر في ذاكرة الزمن إلى يوم لقاء الله، كان تعليق كل منهما ذاته؛”لقد ولدت من جديد!”.

بكاء شديد وحنين أشد للعناق، بإخوة الدين والمسير، كانت هذه أجوائنا حين تدخل امرأة جديدة للإسلام، وكن غالبًا قد بحثن عن الدين بأنفسهن بعد معركة مع الذات وبحث عن طريق للخلاص.

الأولى عرفت الإسلام عن طريق البحث في الإنترنت، فاقتنعت به وجاءت تشهر إسلامها، أما الثانية فقد أحبت شابًا مسلمًا عربيًا لكنه لم يكن ملتزمًا، ومع ذلك كان يغضب للإسلام والمسلمين، فأثار هذا فضولها واندفعت تبحث عن دين يجعل صاحبه وإن كان لا يلتزمه يحبه كل هذا الحب، وفعلًا اهتدت للإسلام وكانت آخر رسالة منها لصاحبها الذي تركته بعد التزامها؛

أن الإسلام يحرم الزنا والعلاقات التي لا تكون بزواج شرعي، فلهذا ستتوقف عن مواعدته، وإن كان يريدها فباب الحلال مفتوح!.

وفعلا انطلقت هي في حياتها والتزمت الحجاب وتعلمت الدين الجديد، ولكنه بقي على حاله مغبونًا، وألف حياة القعود والخمول. فسبحان من هدى بضالٍ ضالًا!

لم ينتهي الحديث عن الدين في أمريكا، وسألقي الضوء في صفحات مقبلة على حقائق أخرى مختلفة؛ تسمح لنا برسم تصور دقيق عن واقع الدين في حياة الأمريكان.


[1] ويكيبيديا
[2] المصدر السابق
[3] المصدر نفسه

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. جزاك الله خيراااا دكتورة ، أتمنى أن تجمعيها في كتاب أخر مع كتابك القيم الذي قرأته بنهم صفحات من دفتر الالتزام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى