إعادة صياغة تركيبة شعوب الشرق الأوسط-الجزء الأول
مدخل
هذا البحث يدخل ضمن سلسلة مقالات أرد بها على من حصروا سبب صراع الغرب في بلاد المسلمين على الموارد الطبيعية وعلى رأسها موارد الطاقة كالغاز والنفط، أو جعلوها السبب الأوَّلِي والأساسي، وعلى الذين حاولوا جهدهم نفي الصبغة العقائدية لصراع الغرب في بلاد المسلمين والشام على الخصوص، كل هذا ليبرروا جواز الاستعانة بالغرب وأمريكا على الخصوص!
وضمن سلسلة المقالات تلك، مقال تحت عنوان: “هل صراع الغرب ضد المسلمين صراع عقائدي أم صراع من أجل الثروات؟“، حيث كان مما قلتٌ فيه أنه حتى لو كان هناك صراع على الطاقة والموارد الطبيعية، فهذا تابع للصراع الأساسي الأصلي وهو الصراع العقائدي وليس مستقل عنه ولا فوقه، فالصراع العقائدي هو الأصل والموارد الطبيعية ماهي إلا غنائم الصراع العقدي قد يختلف المنتصرون على تقسيمها!
وفي الجزء الأول للبحث الذي بين أيدينا، تطرقت بالتفصيل لنظرية الصراع بين الجناح الروسي-الإيراني-السوري والجناح الأوربي-الأمريكي-الخليجي-التركي حول الغاز وأنابيب نقله، حيث بيَّنتُ انهها نظرية عبثية ارتجالية لا سند لها عقلا ولا واقعا، ومن الوارد أن الغرب، وخصوصا أمريكا، يفرح لإشاعة مثل هذه النظريات عن الصراع المادي، ليخفي عن المسلمين أهدافه الحيوية الحقيقية، وليستطيع استعمالهم في مشروعه الحقيقي، ظنا منهم أن الغرب يساعدهم ضد محاولة روسيا وإيران الهيمنة على مواردهم الطبيعية وعلى بلدانهم! ولعل بعض المسلمين يريدون تصديق هذه الرواية، وربما سيخترعونها إن لم يخترعها غيرهم!
فإذا لم تكن الموارد الطبيعية هي السبب الأولي والأساسيّ “للصراع الدولي” في الشام، فما هي خلفيات وأهداف الحرب الدولية في الشام (والعراق)؟ وهل هناك أصلًا صراع دولي في الشام، أم انه تحالف دولي ضد الشام والعراق وغيرها من بلاد المسلمين؟
هذا ما سأتطرق له في هذا الجزء من البحث بإذن الله!
معطيات ومقدمات واقعية
حتى نفهم حقيقة الصراع في الشام علينا الانطلاق من المعطيات والمقدمات الصحيحة الواقعية:
١-المعلوم أن الأنظمة القائمة في البلدان الإسلامية قاطبةً صناعةُ المُستخرِب (المستعمر) الغربي، ومن بينهم نظام آل الأسد الذي لقي دعما كبيرا غربيا وأمريكيا على الخصوص!
٢-نظام آل الأسد قام على التمام بالدور المناط به المتمثل في حماية الكيان الإسرائيلي واحتواء المقاومة الفلسطينية واختراق الجماعات “الجهادية”، وأثبت فعاليته في ذلك وإخلاصه للغرب والكيان الإسرائيلي.
٣-نظام آل الأسد من الأنظمة المثالية التي يسعى الغرب لإنشائها في العالم الإسلامي منذ غزوه له، فهو ليس فقط نظام كفر يحكم بغير ما أنزل الله ويوالي الغرب كباقي الأنظمة في العالم الإسلامي، بل هو نظام يترأسه ويهيمن عليه طائفة كافرة أصلًا، الطائفة النُصيريَّة، طائفة حقدها على الإسلام وأهله أشد من حقد النصارى واليهود!
٤-نظام آل الأسد سارع في بدايات الثورة لإطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين “الإسلامين” والمتهمين بالإرهاب”!
٥-الغرب، عَبْرَ قطر والأردن والسعودية وتركيا، سارع لتسليح الثوار (على الأقل جزء كبير منهم) وعلى رأسهم “الإسلاميين”!
٦-تسليح الغرب للثوار محدود ومشروط، ولا يشمل السلاح النوعي وسلاح الجو!
تساؤلات تطرحها المعطيات على أرض الواقع
هذه المقدمات والمعطيات تطرح عدة تساؤلات، من بينها:
>> لماذا رغم أهمية نظام آل الأسد بالنسبة للغرب ودوره الحيوي بالنسبة للنظام الدولي وفي الحفاظ على الكيان الإسرائيلي، واشتراكه مع الغرب في العداوة الشرسة للإسلام وأهله وعلى الخصوص أهل السنة، قام الغرب بتسليح الثوار (على الأقل جزء مهم منهم)، وهم من أهل السنة الأعداء الأصليين والحقيقيين للغرب؟
>> لكن، وفي المقابل، لماذا تسليح الغرب للثوار محدود ولا يشمل الأسلحة النوعية؟
>> أليس هناك تناقض بين دعم الغرب لنظام آل الأسد من جهة، ودعمه للثوار من جهة أخرى؟
>> وأخيرا وليس آخرًا، هل يريد الغرب فعلًا إسقاط النظام النُصيريّ الكفري في سوريا واستبداله بنظام سني “علماني”؟
للإجابة على هذه الأسئلة علينا سرد بعض الوقائع والتحليلات!
ما هي الصيغة النهائية للشرق الأوسط الجديد التي يسعى إليها النظام الدولي؟
من خلال المعطيات والمقدمات التي سبقت، يتضح جليا أن نظام آل الأسد والنظام الدولي ساهموا على السواء وبسرعة في “أسلمة” ثورة الشام، وهذا يفسر إسراع نظام آل الأسد في الإفراج عن الإسلاميين من سجونه ومعتقلاته، كما يفسر تولي تركيا وقطر والسعودية والأردن -بإيعاز من أمريكا-مهمة تسليح الثوار (جزء مهم منهم على أقل تقدير)! فكثير من قيادات أهم الجماعات القتالية في سوريا، كالأحرار والجبهة الإسلامية الخ، أُطلق سراحهم مع بداية الثورة!
سعي نظام آل الأسد و النظام الدولي إلى “أسلمة” الثورة لا يعني بالضرورة انهما يهدفان لنفس الهدف، على الأقل ليس في بداية الثورة المسلحة، فهدف نظام آل الأسد-قد يكون-كان مقتصرًا على ضمان تأييد الغرب له، مادام يحارب إرهابيين (إسلاميين)، ولِسلب الحراك الشعبي المسلح في سوريا وصف “ثورة” الذي يجلب بطبيعته (أي مصطلح الثورة) تعاطفًا و مصداقية و شرعية ضد النظام الحاكم، خصوصا و أن موجة “الربيع العربي” اكتسحت ساعتها عددا من البلدان و لاقت تقبُّلا شعبيا واسعا، حتى عند شعوب الغرب، و فرض “الربيع العربي” نفسه على النظام الدولي و على الأنظمة المتحكمة في البلدان الإسلامية….
فبدخول “إسلاميين” في الصراع، وتراكم الأخطاء المنتظر صدورها منهم، أراد نظام آل الأسد سحب التعاطف الشعبي المحلي والإقليمي وخصوصا الدولي عن الثوار، وتحويله إلى حرب على الإرهاب!
هدف النظام الدولي من أسلمة الثورة السورية
لكن النظام الدولي (وعلى رأسه أمريكا) هدفه أكبر وأبعد بكثير، فمساهمته في أسلمة ثورة الشام وتسليح الثوار، يدخل ضمن سياسته البعيدة المدى والتي يشتغل لتحقيقها منذ عقود، والتي أعلن عنها صراحة إبان رئاسة جورج بوش الابن لأمريكا… ولعله ليس من باب الصدفة أن يُعلن عن هذا الهدف أو المشروع من تل أبيب سنة ٢٠٠٦م.
حيث صرَّحت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، السيدة غندوليزا رايْس، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود اولمرت، إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان، بأن:
مشروعًا لِـ “شرقٍ أوسط جديد” انطلق من لبنان… وأن ما نراه هنا (حرب إسرائيل على لبنان)، هو نُمُوّ -أو أوجاع وآلام ولادة- “شرق أوسط جديد”، وبغضِّ النظر عما نفعل، فإننا (أي الولايات المتحدة) يجب أن نكون على يقين أننا ندفع بقوة نحو شرق أوسط جديد ولن نعود إلى القديم.
وقبل كوندوليزا رايس، كتب اللواء السابق في الجيش الأمريكي والقائد العام السابق لحلف الناتو (بين ١٩٩٧م -٢٠٠٠م)، ويسلي كلارك، في كتابه “الانتصار في الحروب الحديثة: العراق والإرهاب والإمبراطورية الأمريكية”: «لما ذهبت مرة أخرى إلى وزارة الدفاع الأمريكية في نوفمبر / تشرين الثاني عام ٢٠٠١م، واحد من كبار الضباط العسكريين كان لديه وقت للدردشة… قال نعم، لا زلنا عازمين على الذهاب إلى العراق. ولكن هناك أكثر من ذلك، أمرٌ تم نقاشه كجزء من خطة خماسية لحملات اكتساح سبعة بلدان، بدءًا بالعراق، ثم سوريا ولبنان وليبيا وإيران والصومال والسودان.»
https://www.youtube.com/watch?v=F_NqT86NTkY
ونشرت صحيفة نيويورك تايمز في تاريخ ٢٨ / ٩ / ٢٠١٣م خريطة تحت عنوان: “خمسة دول ستصبح أربعة عشر دولة”، ونشرت إلى جانب الخريطة مقالا ملحقا بها تحت عنوان: “تصور لإعادة صياغة خريطة الشرق الأوسط”. وهذه الدول هي: السعودية، العراق، سوريا، اليمن، وليبيا. وحسب هذا البحث النظري، يُحتمل مثلا تقسيم سوريا إلى ثلاث دول: دولة للعلويين على الشريط الساحلي، ودولة كردية في الشمال تمتد إلى الإقليم الكردي في العراق، ودولة سنية في الوسط وتمتد إلى عمق العراق السني!
اذًا بات مؤكدًا أن أمريكا التي ترأس النظام الدولي تريد بشكل أو آخر إعادة صياغة الشرق الأوسط… لكن لماذا؟ وما هي الصيغة النهائية التي تسعى إلى تحقيقها؟ أليست الأنظمة في الشرق الأوسط تابعة لها أصلا ومطيعة؟ وما الفائدة العملية والاستراتيجية من تقسيم خمسة دول إلى أربعة عشر دولة، إن صح تقرير نيويورك التايمز لسنة ٢٠١٣م؟ وما هي الوسائل والطرق التي تريد أمريكا تحقيق أهدافها بها، أيًّا كانت هذه الأهداف؟
صياغة تركيبة الشعوب وليست جغرافيا الدول
لا أظن أن الهدف الأكبر أو على الأقل النهائي، يتمثل في إعادة تقسيم جغرافي لدول الشرق الأوسط كالخمسة دول المذكورة فوق إلى أربعة عشر دولة، فتغيير الحدود وتحجيم دولٍ أو توسيعها ليس في حد ذاته بهذه المنفعة الاستراتيجية الحيوية، ولكن -وإن كانت أمريكا تسعى فعلًا لتقسيم تلك الدول-فهذا سيكون هدف مرحلي لما هو اهم وأكبر منه، وهذا الهدف الأكبر الذي يسعى له النظام الدولي وعلى رأسه أمريكا هو إعادة “صياغة تركيبة الشعوب” نفسها وليست جغرافيا الدول!
إعادة “صياغة تركيبة الشعوب” من السياسات الاستئصالية المتجذرة عند الغرب، فقد دخل الغرب أمريكا الشمالية فقضى على سكانها وأحل مكانهم الإنسان الأبيض الأوربي، نفس الشيء فعله في أستراليا، وقبل ذلك بقرون فعل نفس الشيء في الأندلس!
وفي العصر الحديث كان أكبر وأخطر إعادة “صياغة تركيبة الشعوب” هي التي تمت في فلسطين!
فالكيان الإسرائيلي هو نتاج إعادة صياغة تركيبة شعب فلسطين عن طريق تقتيل وتهجير أهل فلسطين المسلمين واستيطان يهودٍ من كل بقاع العالم مكانهم في فلسطين!
لكن ما حصل في فلسطين كانت المرحلة الأولى فقط من مخطط إعادة “صياغة تركيبة شعوب” الشرق الأوسط بأكمله، ولذلك لم يكن من باب الصدفة أن تعلن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، السيدة غندوليزا رايْس، من تل أبيب سنة ٢٠٠٦م، بداية ولادة “الشرق الأوسط الجديد”، … تعلن بداية المرحلة الثانية الكبرى لإعادة صياغة باقي شعوب الشرق الأوسط!
فالكيان الإسرائيلي جزء لا يتجزأ من الصراعات في الشرق الأوسط. وكل المخططات والحلول والأهداف في المنطقة هي امتداد للكيان الإسرائيلي، للمركز الشرق أوسطي للنظام الدولي، هي توسع لهذا المركز وخدمة له وحماية لديمومته وهيمنته!
العقيدة لا مجرد التبعية
فالنظام الدولي لا يكتفي بأنظمة عميلة موالية له في الشرق الأوسط على الخصوص لقربها من المركز الشرق أوسطي للنظام الدولي (الكيان الإسرائيلي) وإحاطتها به، بل يريد شعوبا موالية له عقائديًا، النظام الدولي يكره أن تدين شعوبٌ بغير عقيدته، يكره على الخصوص أن تدين شعوبٌ بالإسلام، يكره بالتحديد الإسلام “السني” لأنه هو الذي يمثل فعلا الإسلام، وهو الذي يحمل العداء لكل ملل الكفر ويشكل خطرًا على هيمنة عقائد الكفر وأهله على المدى المتوسط والبعيد…
{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}(البقرة)
{وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}(البقرة)
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً (89)}(النساء)… {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ (109)}(البقرة)
تبديد الأغلبيات السنية في الشرق الأوسط
فالحفاظ على المركز الشرق أوسطي للنظام الدولي (الكيان الإسرائيلي) على المدى المتوسط والبعيد يحتم إعادة تركيبة الشعوب المحيطة به لتصبح ذات أغلبيات من غير أهل السنة، لذلك فإن هدف النظام الدولي هو تبديد و “تعويم” الأغلبيات السنية في الشرق الأوسط. وذلك باتباع نفس الطريقة التي اتبعها في فلسطين: تقتيل وتهجير أهل السنة وتوطين أصحاب مِلَلٍ لا تعادي الكفر على أقل تقدير، إن لم تكن هي نفسها ملل كفر!
ومن هذه الملل التي يرغب فيها النظام الدولي ويريدها أن تتحول إلى أغلبية في بلدان الشرق الأوسط، هو خليط من طوائف شيعية متطرفة كالإثنى عشرية، والعلويين أو النصيرية، وربما يتمم ما يحتاجه لتحقيق أغلبية غير سنية بطوائف نصرانية وحتى بعض اليهود الخ.
الهدم البَنَّاء
لكن عملية التقتيل والتهجير تحتاج لإشعال حروب طائفية طاحنة، تحتاج لما يُسمى بِ “الفوضى الخلاقة” أو “الهدم البَنَّاء”! وهذا ما صرحت به كوندوليزا رايس في مقال لها على جريدة “الواشنطن بوست” سنة ٢٠٠٠م، حيث قالت:
«الفوضى التي تشمل إصلاحات وتحولات ديمقراطية في الشرق الأوسط، فوضى بَنَّاءة، لدرجة أنها يمكن أن تخلق وضعًا أفضل بكثير وأكثر قبولًا من ذلك الموجود حاليًا في هذا الجزء من العالم» [i]
وهذه “الفوضى الخلاقة” أو “الهدم البناء” هو الذي يجري الآن على قدم وساق في العراق وسوريا، وهذا يعيدنا إلى موضوعنا عن ثورة الشام، ويساعدنا على الإجابة على التساؤلات التي طرحنا بالأعلى!
وسنفرد لتلك الإجابات الجزء الثاني من هذه المقالة. فتابعونا…
المصادر:
[i] (ترجمة من “نبض واستراتيجي”، العدد ١٤٧، يونيو ٢٠١٣م، لمؤسسة انتجبوا الاستشارية).