قراءة في كتاب رام الله العثمانية: اليهود ودراسة التاريخ العثماني

ناقشنا في الجزء الأول ذلك التساؤل حول أسباب دراسة تاريخنا، والبحث فيه، والاهتمام به، وتوصلنا في النهاية إلى ضرورة ذلك، وضرورة ألا نترك ذلك للمستشرقين الغربيين.


علاقتنا بالوثائق والسجلات التاريخية

تتمثل علاقتنا بالوثائق أو بالسجلات المحاكم الشرعية بعلاقة سطحية بعيدة كل البعد عن الاهتمام الجاد بها وبدراستها.

ولطالما ينظر الأستاذ سميح حمودة للأكاديميين والمؤرخين الصهاينة الذين تفوقوا علينا في دراسة التاريخ العثماني بدرجات كبيرة، ففي الجامعات الصهيونية كان يدرس التاريخ العثماني في فلسطين وغير فلسطين منذ الستينيات، بينما نحن في عالمنا العربي كان لدينا رفض شديد ببحث التاريخ العثماني باعتباره كله تاريخ تخلف وسبب التراجع والانحطاط بحيث حكمنا على 400 عام وشطبنا عليها بجرة قلم!

بينما عمل الصهاينة على مشروع مذهل حقًا، فقاموا بجمع سجلات 400 عام -وهي سجلات كبيرة جدًا-، كانت عبارة عن 430 سجل، ويشكل كل سجل ما حجمه بالعرض حجم طاولة صغيرة، وصفحته تحتوي عشر صفحات من الكتب التي ننشرها اليوم؛ بحيث يحتوي السجل على 600-700 صفحة.

وعمل المستشرقون الصهاينة وعلى رأسهم آمن كوهن بجمع كل الحجج التي تتعلق باليهود، ودراسة أي قضية لها صلة أو علاقة باليهود، ودونوها، وترجموها باللغة العبرية ونشرت بما يقارب 36 مجلد باللغة العبرية؛ بحيث تمكن أي باحث إسرائيلي يريد دراسة تاريخ اليهود في فلسطين والقدس أن يستند إلى هذه السجلات.

وليس هذا فقط بل ذهبوا أيضًا إلى مراكز الأرشيف العثماني واستخرجوا جميع الوثائق التي تتعلق باليهود وقاموا بترجمتها وبحثها وتدقيقها ونشر كل التفاصيل التي تتعلق بحال اليهود في عهد السلطنة العثمانية.

ما الخطورة التي تكمن وراء هذا الأمر؟

لنفترض أنني باحث إيطالي أو أمريكي أو فرنسي أريد دراسة تاريخ فلسطين حينما أذهب للمكتبات العالمية ماذا أجد أمامي؟

أجد أمامي كتبًا تتحدث عن تاريخ اليهود بحيث يصبح اليهود هم تاريخ فلسطين وتاريخ فلسطين هو تاريخ اليهود، أين العرب؟ لا أحد يكترث للعرب، أين السكان الأصليين؟ لا أحد يكترث للسكان الأصليين!

فلذلك نجد عشرات الكتب التي كتبت عن اليهود في فلسطين، لماذا؟ لأن المؤرخين الصهاينة انتبهوا للسجلات وأخذوا يدرسونها ويبحثون بها  وينشرونها، بحيث يشكل ما لا يقل عن 13 رسالة دكتواره في الجامعة العبرية استندت على سجلات المحكمة الشرعية في القدس، وعليه دائمًا ما يوجد يهود يدرسون السجلات العربية، لماذا؟ لأن تاريخ اليهود موجود داخل هذه السجلات والتركيز عليها بالنسبة لهم يعني الحق وأنهم موجودين، وأنهم لطالما كان لهم ارتباط بفلسطين.

وحينما تنظر لهذا في الجانب العربي تجده قليل وشحيح، وعلى هذا نحن نعاني من مسألة المصادر فمصادرنا تضيع وتتلف وتحرق وتباع للمصادر الخارجية ولا يقتصر هذا الأمر فقط على مجمل التاريخ العثماني.

فما نعرفه عن التاريخ العثماني قليل جدًا، لماذا؟ لأن الناس اعتادت على إتلاف هذه الوثائق ولم تعمد على حفظها، حتى يومنا هذا لا يوجد أي أرشيف حقيقي ولو وجد فتجده في عناوين عريضة وحينما تقرر الذهاب والبحث بها لا تجد فيها الشيء الكثير الذي يعينك على كل هذا الفهم.

 رسالة أخيرة من الكاتب

إنني أتحدث في كتابي ها هنا إلى فئة تهمها المعرفة، فئة يهمها أن تعرف ذاتها وتاريخها؛ لذلك هي دعوة لإخوتنا وطلابنا الأعزاء أن يدرسوا تاريخ الدول العربية، وخاصة تاريخ الدولة العثمانية -بشكل خاص-، وأن يهتموا بمشاكلنا الحقيقة التي تواجهنا في الحياة.

فالتاريخ العثماني مهم جدًا في فلسطين؛ لفهم العلاقة المتوترة جدًا بين الريف والمدن، فتلك العلاقة كانت أحد أسباب نكبة 48؛ وذلك لأن الريف لم يكن يثق بنخبة المدينة، ونخبة المدينة كانت تحتقر الريف بحيث تعتبر الفلاحين متخلفين متوحشين، وبالتالي لم تقم علاقة متوازنة رغم تشكيل الريف نسبة ثلثي المجتمع الفلسطيني، وبالتالي هذا عامل التوازن أدى إلى مشاكل وخصومات واغتيالات.

وحينما دخل إلى الحرب دخل مفككًا متشرذمًا، وبهذا استطاعت الصهيونية أن تقترب من المجتمع الفلسطيني، واستخدمت هذه الخلافات لضرب الشعب الفلسطيني بعضه البعض.

وأنا أشير لكتاب شخص يهودي؛ والذي تحدث عن كتاب جيش الظل العملاء الذين خدموا الوكالة اليهودية قبل عام 1948 وكتب كتابًا آخرًا بعد النكبة، فهنا نجد أن المعرفة تتحول بيد الإسرائيلي إلى أداة للحكم، إلى أداة للسيطرة، إلى أداة لتفريق الناس وزرع التفرقة فيما بينهم.

فما هو مطلوب فلسطينيًا وعربيًا أن نحول هذه الأداة إلى أداة للمقاومة، إلى أداة للنهوض، وإلى أداة للتخلص من الأمراض. وهذا لا يكون فقط بالتمني، هذا يكون بالعمل المضني، والاهتمام والجهد بكافة المصادر؛ التي تتحدث عن التاريخ، والعمل على تنقيحه بكل إخلاص وجهد بعيدًا عن التحيزات النفسية، والإسقاطات الأيديولوجية،
وأُوَجِه لكم خالص الشكر والتحيات.


أنس سلامة

طالب إدارة عامة، قارئ مهتم بالعهد العثماني والبحث التاريخي في العهد الإسلامي وخاصة بتتبع سير… More »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى