قراءة في كتاب الحكم الجبري ومرابط النظام الدولي للدكتور أكرم حجازي
تحتاج الأمة -فيما تحتاجه من أساسيات في طريقها للقيام- إلى مهمة التفكير، فلا يمكن لأي أمة أن تحدث إفاقة من غفوة، أو نهوض من كبوة، أو تتطلع إلى مستقبل أفضل، دون وجود رؤية واضحة لتاريخها، وحاضرها، واستشرافٍ لمستقبلها، بحيث يكون قوام تلك الرؤية هو التفكير الحي الفاعل، والقابل للتفاعل مع الحياة والواقع.
وإذا انطلقنا من مبدأ أن جوهر حياة الأمة هو حياتها بدينها ولدينها بما يحقق وجودها الحضاري، تبرز لنا قضية خطير وهي أن التفكير (أو الفقه)(1) للأمة لابد أن تكون له خصوصية الانطلاق من ركائز وثوابت ومعالم الإسلام، ومنه يمكننا تعريف المفكر المسلم (أو الفقيه) أنه الذي يُعمل آلة الفكر منطلقا من الأصول والثوابت والنصوص الدينية بطريقة منهجية في الواقع الذي تم استفراغ الجهد في تفكيكه وفهمه والإحاطة به إحاطة شاملة متجردة.
بهذا يبدو واضحا أن الإسلام لا يعرف المفكر الإسلامي المنفصل عن الفقه الإسلامي، ذلك الذي يمشي في أي مسالك الفكر كانت حتى إذا أعجبه من الإسلام شيء اقتطفه في طريقه ليزين به الصورة.. بل المفكر في الإسلام، هو الذي يكون تفكيره من داخل الفقه في الدين، ومن صلب الوجهة التي تتأسس من خلال اجتماع فهم (فقه) النص الديني مع تفكيك الواقع.
ينتج من خلال ما سبق منهج الإسلام في التفكير، ويعتبر د.أكرم حجازي من أكثر الذين يحيون بطريقة عملية هذه القضية، قضية الفرق بين التفكير بالعقل العقدي والتفكير بالعقل الجبري (الوضعي)، وجاء هذا الكتاب كوجبة فكرية مركزة وضرورية لتفكيك ما آل إليه الفكر الجبري من طريقة في التفكير وما أنتجه من فساد، في مقابل التأصيل إلى العودة لتفعيل العقل العقدي في التفكير في واقعنا المعاصر.
مفهوم الجبر
الجبر في اللغة: هو القهر والإكراه على الشيء، ويقال: «جَبَرَهُ على الأمر وأجْبَرَهُ: أي قَهَرَهُ عليه، وأكْرَهَهُ على الإتيان به». و«رجل جَبَّار: أي مُسَلَّط قاهر»، و«الجَبَّارُ هو: الذي يَقْتُلُ على الغَضَبِ و القَتَّال في غير حق». وفي التنزيل: {وإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]، وكذلك قول الرجل لموسى عليه السلام: {إِن تُرِيدُ إِلا أَن تكونَ جَبَّاراً في الأَرض} [القصص: 19] أَي «قتَّالاً في غير الحق، وكله راجع إِلى معنى التكبر»، أي وبحسب اللغة، إلى «العظمة والتجبُّر والترفُّع عن الانقياد». وفي السياق اللغوي يمكن ملاحظة الشمول في عبارة {جَبَّاراً في الأَرض}!! بمعنى أن «الجبر» يقع على جميع من في الأرض وليس على جزء منها.
وفي التعبير السياسي الشائع: فـ«الجبر» هو «الهيمنة». ويقال: «هَيْمَنَ الطَّائِرُ عَلَى فِرَاخِهِ: أي رَفْرَفَ»، و« أَحْكَمَ هَيْمَنَتَهُ: أي سَيْطَرَتَهُ وسَطْوَتَهُ»، ويقال أيضا: «هَيْمَنَ على كذا: أي سيطر عليه وراقَبه وحفِظَه». (2)
ويشترك الجبر مع الهيمنة في «معاني العمومية والشمولية ويتأسس على العظمة والتجبر والترفع عن الانقياد، وتبعا لذلك سيمتلك من السمات المميزة التي تمكنه من ممارسة القهر والإكراه (التسلط)، وإحكام السيطرة (الإخطاع)، والرقابة، والحفظ على كل من في الأرض، تحت تهديد القتال في غير الحق» (3)
هل نحن في مرحلة الجبر؟
دلت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأرشدت الأمة إلى المراحل التي ستقطعها، ومنها ما رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: ((كنا قعودا في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بشير رجلا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد، أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة، ثم سكت، قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين، يعني عمر، بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسر به وأعجبه)) [أخرجه أحمد: 18406]
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أوَّلُ هذا الأمرِ نُبوَّةٌ ورحمةٌ، ثمَّ يكونُ خلافةً ورحمةً، ثمَّ يكونُ مُلكًا ورحمةً، ثمَّ يتكادمون عليه تكادُمَ الحُمُرِ، فعليكم بالجِهادِ، وإنَّ أفضلَ جهادِكم الرِّباطُ، وإنَّ أفضلَ رباطِكم عَسْقلانُ)) [أخرجه الطبراني: 11/88: 11138]
وعن أنس رضي الله عنه -الذي له حكم المرفوع- قال: ((إنها نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملك عضوض، ثم جبرية، ثم طواغيت)) [رواه الداني في الفتن: 418]
نستخلص إذن أن الأمة ستعيش من أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أنماط للحكم وهي:
- النبوة
- الخلافة
- الملك العاض
- الحكم الجبري
وبموجبه ستمر الأمة بخمسة مراحل وهي:
- مرحلة النبوة
- مرحلة الخلافة الراشدة
- مرحلة الملك العاض
- مرحلة الحكم الجبري
- مرحلة الخلافة على منهاج النبوة
كما يجب الإشارة إلى أن كل مرحلة لها مرجعيتها التي تناسب نمط حكمها:
– مرحلة النبوة: مرجعيتها الوحي.
– مرحلة الخلافة الراشدة: مرجعيتها الكتاب، والسنة، والسيرة النبوية، والصحبة النبوية.
– مرحلة الملك العاض: مرجعيتها الكتاب، والسنة، وفقه الحاكم المتغلب، وحواشي السلطة، ومؤرخو العصر.
– مرحلة الحكم الجبري: مرجعيتها الفلسفة الوضعية، التي فُرضت بالهيمنة والغصب والجبر على الأمة منذ بداية القرن التاسع عشر.
– مرحلة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة: مرجعيتها الكتاب، والسنة.
ففي أي مرحلة إذن تعيش الأمة الآن؟
إذا كان من البديهي القول أن الأمة اليوم ليست في مرحلة النبوة ولا في مرحلة الخلافة الراشدة، فإنه يمكننا الاستنتاج أننا لسنا في مرحلة الملك العاض؛ إذ أننا نعيش عصر الحكم الوضعي داخل نموذج حكم دولٍ قوميةٍ هي الوحدة السياسية المركزية للنظام الدولي، وهي الدولة القومية التي لا تقبل تشريعاتها ومؤسساتها ومنظماتها أيّ دولة مرجعيتها الدين، وبهذا نستنتج أننا في عصر الجبر، عصر الهيمنة.
مقدمات نحو تفكيك مفهوم الحكم الجبري
لقد دخلت الأمة مرحلة الجبر من خلال تأسيس النظام الدولي المهيمن، حيث مثلت مراحل نشوئه حتى قيامه الخطوات التي ساهمت بمجملها في تكون سطوة الحكم الجبري على أطراف الأمة، وللنظام العالمي وحكمه الجبري مراكز قوى في أمتنا سماها الدكتور أكرم المرابط، يربط النظام العالمي الأمة له بها، وتحرس ببقائها بقاء حالة الهيمنة أو الحكم الجبري.
وهذه المرابط هي المربط الثقافي (الدولة القومية)، والمربط اليهودي، والمربط النصيري، والمربط العقدي.
مرابط النظام الدولي
1 – المربط الثقافي والدولة القومية
كان بروز نموذج الدولة القومية الغربية بشكليه سواء العلماني البريطاني أو العلماني الفرنسي، ثم خروج الغرب استعماريا بهذا النموذج للعالم، نقلة كبيرة في إنتاج حالة الحكم الوضعي والجبري، لا لهيمنة هذا النموذج على العالم فقط، بل لكونه يرتكز على نفس الثنائية التي كانت سائدة في أوروبا العصور الوسطى ثنائية أسياد وعبيد.
ولكي يتأسس النظام العالمي المرتكز على وحدة الدولة القومية، كان لابد من تفكيك العالم الإسلامي، وبالتالي إسقاط الخلافة الممتدة حينها على ثلاث قارات هي أوروبا وأفريقيا وآسيا.
ووقع تأسيس الدول العربية الجديدة على أساس أيديولوجي، وضعي، معادي في جوهره للدين، كما تم تركيز حواجز صلبة وناعمة لمنع عودة هذه الشعوب إلى الحكم وفق منظومتها القيمية الأصلية.
لقد كان بروز نموذج الدولة القومية في الغرب إجابة عن إشكاليات واستجابة لأحداث حدثت هناك في بلادهم بما تحمله عناصر تلك البلدان من مكونات، فصراع الدين مع العلم كان في الكنيسة، ثم انتقلوا لتعميم ذلك الصراع مع الدين عامة، بينما لم يطرأ في أمة الإسلام مثل هذا الصراع ولا احتاجت الأمة لمنتجاته، وكل ما أنتجه السياق الغربي كان يخص عالمهم الغربي، ولم تعرفه الأمة إلا عندما انتقل نموذج الدولة القومية عبر الجبر والهيمنة إلى أمتنا.
لقد أنتج الفكر القومي وأنتجت الدولة القومية: النازية والفاشية والعنصرية والفوضوية والأممية والصهيونية والماسونية… مما أدى بهذا الفكر القومي الذي جاء لمعالجة أخطاء الدولة الدينية في أوروبا إلى أهوال فاقت جرائم أوروبا الكنسية إلى إبادات وحشية سواء على الجانب البشري أو على جانب الإبادات الثقافية، وقد تم فرض هذا النموذج القومي على بلاد المسلمين لكن بنسخة أكثر تسلطا واستبدادا.
2- المربط النُصيري
كانت الدول القومية هي نتيجة لحالة الجبر للمربط الثقافي، وجاء الربط النصيري كأداة ذات أهمية بالغة للهيمنة، إذ عملت فرنسا منذ بداية الانتداب وتحت شعار حماية الأقليات، على رعاية الطائفة النصيرية، التي كانت -ولازالت- منبوذة شعبيا في سوريا، ثم وقع التمكين لهم على البلاد، خاصة بعد تراجع فرنسا وبريطانيا عن قيادة النظام العالمي لصالح أمريكا والاتحاد السوفياتي في مرحلة القطبين، وكان من خطر المربط النصيري أن النصيرية مثلت الأداة الأمنية الأخطر التي تُوجه خنجرها إلى داخل الأمة، ففضلا عن نشرها لثقافة أرض الثوار، والأحرار، والصمود، والتصدي، والمقاومة، والممانعة، وغيرها من الأيديولوجيات الزائفة، عملت النصيرية على احتواء حركات التحرر والمقاومة وكشفها أمنيا، ولعل هذا ما يفسر استبسال الشرعية الدولية ومؤسسات النظام العالمي وقواه الكبرى في الدفاع على نظام بشار وعلى الكيد للثورة السورية بكل تلك الوحشية.
وقد صرح السيناتور الأمريكي ريتشارد بلاك بأهمية المربط النصيري بالنسبة لهم، وبخطر تحرر سوريا، على قناة RT الروسية جاء فيه، بعد أن وصف خطورة تحرر سوريا على تحرير بقية المناطق المجاورة، ثم التوجه إلى الغرب قال:
«ولهذا السبب أنا أنظر إلى سوريا باعتبارها مركز الثقل، هذا ما كنا عادة نتحدث عنه في الكلية الحربية، عندما كنا ندرس الحرب والأهداف.. الأهداف.. هناك دائما مركز للثقل، الشيء الذي سيحدد نتيجة الحرب، فإن استطعت أن تهزم مركز الثقل فبالتالي تنتصر، لذلك ما أراه هو أن سوريا هي مركز الثقل بالنسبة للحضارة الغربية، إذا سقطت سوريا سوف نبدأ نرى تقدما سريعا خاطفا للإسلام في أوروبا، وأعتقد في نهاية المطاف احتمال سقوط أوروبا كلها.. سوف نستمر في الترقب» (4)
بل وصرح بمثل هذا بشار الأسد في إطار تصريحه بعد إعلان روسيا التدخل في سوريا يوم 15/9/2015 حيث قال: «ما تقوم به روسيا يعد دفاعا عن أوروبا بشكل مباشر». (5)
3- المربط اليهودي
وهو مربط عسكري تمثل في إنشاء الكيان الصهيوني في قلب الأمة الإسلامية وقلب مقدساتها، بحيث يمثل اليهود باحتلالهم للقدس الحضور الغربي في قلب الأمة، وإذا كانت النصيرية التي وقع التمكين لها في سوريا طائفة منبوذة من غالبية الشعب جيء بها على رقابهم بفعل الجبر، فإن اليهود هم العدو العقدي الأبرز للمسلمين بنص الكتاب {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، وقد جاء بهم الغرب لاحتلال فلسطين كما صرح الحاضرون بذلك في مخرجات مؤتمر (كامبل) تصريحا واضحا بهذه الصيغة :
«إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ويربطهما معًا بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل -في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس- قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها؛ هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة».(6)
4- المربط العقدي
ويتمثل هذا المربط في كل من شرعن لحالة الجبر، وأعاد قراءة دين وتاريخ واجتماع الأمة قراءة جبرية، وأخضع الإسلام لسلطة واقع الهيمنة، سواء كان داعية أو عالما أو مؤسسة دينية أو فرقة ظاهرة أو باطنية أو جماعة إسلامية (خيرية، دعوية، إغاثية، سياسية…)، أو حزبا أو منظمة أو اتحادا أو نقابة، وينتشر هذا المربط في كل العالم، حتى لو كان مركزه مهبط الوحي.
إن هذه العملية المتمثلة في إخضاع الإسلام لمنطق العقل الجبري أنتجت دينا جديدا يقع بموجبه التسليم للدولة القومية بالحق للوصاية على الدين.
بل طال الأمر حتى أن جماعات إسلامية تبنت مدخلات الدولة القومية، وبالتالي أُشربت مخرجاتها من مصطلحات الاستقلال، والسيادة، والحرية، والوحدة الوطنية، والعدالة، والمساواة، والمدنية، بل حتى الديمقراطية.
ليتم قراءة الدين وفق المنطق القومي لهذه المصطلحات، لا وفق العقل العقدي، ما ساهم في وجود دول قومية تكتسي قوميةُ كل واحدة منها نسخة من الدين، لتتعدد النسخ على عدد هذه الدول، وتحول الدين الجامع للأمة، إلى دين محلي خاضع لمحددات وتعريف الجبر.
لم تعهد الأمة في كل المراحل السابقة سواء في مرحلة النبوة، أو الخلافة، أو الملك العاض، عبارات من نوع فقه الاستضعاف، أو الطاعة العمياء لولي الأمر، أو التوافق، أو الوسطية، أو استعادة الخلافة، أو تطبيق الشريعة، أو المساواة، أو الحرية، أو العدالة، أو الديمقراطية، أو التسامح.
لقد وقع قراءة الركائز الحضارية للأمة بداية من دينها وتاريخها وحتى لغتها قراءة وضعية تستند إلى جوهر الحكم الجبري وهو {قَوْلُ الْبَشَر}.
وانسحب ذلك على كافة النشاط البشري بداية من نظم التعليم والثقافة والتجارة والاقتصاد والإعلام، لقد أصبحت الأمة تعيش وتنمو وتنتج وتشتغل وتستهلك وتصالح وتعادي وتنام وتصحو موجب كينونة وأدوات والآليات المعرفية والذهنية للثقافة الجبرية ومنتجاتها العلمية والمعرفية.
مفهوم الجبر من خلال التفكير العقدي
إن الأمة اليوم لن تخرج من التيه حتى تتحرر من أسر العقل الوضعي الذي أنتج الحكم الجبري إلى العقل العقدي الذي لا تشوبه الجبرية، إن الجبر بصفته أسلوب تفكير أنتج أسلوب حياة، لا يمكن أن تتخطاه اﻷمة وبالتالي تتخطى مرحلة الحكم الجبري، إلى من خلال إعادة تفعيل العقل العقدي للإسلام في الأمة، وإنها نقلة كبيرة وفائقة، تلك التي تملك الأمة بها أعين ترى بها الأمور على حقيقتها وأصلها منطلقة من أسسها الحضارية، وترى بها انحطاط العصر الوضعي الذي فرضته الهيمنة الغربية عن طريق محميات الجبر المحلية.
إنه لمن المهم أن ننفض عن عقولنا غبار الأيديولوجيات الوضعية مهما كان مأتاها، سواء جاء ذلك من نخب علمانية أو من تيارات وجماعات “إسلامية”، يرى جزء منها أسلمة الأيديولوجيات الغربية، ويرى الآخر تأليه الحكام حراس الجبر.
قراءة عقدية لمفهوم الإعداد
قال الله تعالى ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾. الأنفال (60)، وفي هذه الآية تكليف شرعي وأمر صريح من الله بوجوب الإعداد لا يقبل إلا التسليم، فالإعداد أمر وجوبي لبلوغ أقصى درجات القوة لمواجهة ثلاثة أعداء هم:
- عدو الله
- عدوكم
- آخرين من دونهم يعلمهم الله ولا نعلمهم
أما حد الاستطاعة في قوله تعالى ﴿مَا اسْتَطَعْتُم﴾ فهو مقيد بالحد الأقصى، إذ يتطلب استنفاذ الجهد والوسع.
لكن الوجهة لهذا الإعداد ومنطلقاته وغاياته هو الذي يظهر إذا قارنا بين العقل الجبري والعقل العقدي، فالعقل الجبري قد يرى أن الاستطاعة هي الحد الأدنى، كما قد يضخ مفاهيم الإعداد داخل برنامج سياسي ينطلق من إيديولوجيا معينة، وقد يحول سرديات الإسلام الكبرى إلى ما يتطلبه العمل في الجماعة فيتحول الإسلام إلى أداة لتسهيل تنفيذ رؤية الجماعة أو الحزب السياسي، بينما في الحقيقة الإسلام ينبغي أن يكون هو الأرضية والواجهة والغاية والوسيلة لتحقيق أمر الله في واقعنا.
خاتمة
لقد شغلت المتغيرات خلال مرحلة الخلافة ومرحلة الحكم العاض، شغلت الفقهاء فانكبوا على دراستها وأنتجوا بالتالي ما تحتاجه الأمة فيها من نتاج فقهي تأصيلي، لكن الذي حدث في مرحلة الجبر، أن الحكم الجبري ومرحلة الجبر لم توضع بعد تحت التشريح والدراسة المعمقة لمفكري الإسلام وفقهائهم، وإن الأمة تحتاج لأصحاب عقليات حرة لسبر أغوار هذه المرحلة، ولإرشاد الأمة بما تحتاجه لقطعها.
المصادر:
- (1) “الفقه هو المرادف العقدي لكلمة الفكر”، قناة التناصح الليبية: (العقل العقدي والعقل الجبري 20-10-2018 ) – دقيقة (25.10)
- (2) مقالة الحكم الجبري.. مقدمات ونتائج د.أكرم حجازي (1)
- (3) كتاب الحكم الجبري ومرابط النظام الدولي، د.أكرم حجازي ص 6
- (4) المصدر السابق ص 35
- (5) المصدر السابق ص 36
- (6) مؤتمر كامبل بنرمان