
المولد النبوي… احتفال بنكهة سياسية
متلازمة الهوس الفرائحي تستمر في تنشيط هواجس المدمنين لها، مواكب البذخ المستشري تواصل السير نحو اللا معقول… الأمة التي حدد لها القرآن مسارات التكوين والوجود تنزلق في عالم من الترهات لا نهاية لها.
على السطح تطفو قضية الاحتفال بالمولد النبوي كقضية محورية يستخدمها كثيرون للانتقال عبرها إلى محاور ذات أصول مصلحية على المستوى السياسي والاجتماعي والعقائدي وبنسبة أقل المستوى الاقتصادي.
الإطار التوجيهي والمعاملاتي للتعامل مع النبي
«أنا سيد ولد آدم ولا فخر»، «إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد في مكة»، «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم».
ثلاثة أحاديث نبوية وضحت بما لا يدع مجالًا للشك، سبل التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإطار التوجيهي والمعاملاتي، حيث نفى في الحديث الأول عن نفسه الفخر رغم التسليم التام من المسلمين بخيرية اختياره عليه الصلاة والسلام، ووضح لهم في الثاني أصل أسرته، ومدى انتسابها للأصالة والبيئة العربية الأصيلة، ثم نهى في الثالث أن نحذو حذو النصارى، فنتجه للظاهر القولي، ونتخلّى عن الباطن الفعلي.
الاحتفال بالمولد النبوي في ضوء المقصد والمرجعية الإسلامية
هناك حتميّة لا مفر منها، التوجيه الإلهي والمقصد الإسلامي بمرجعيتهما الأساسيتين وأعني بذلك القرآن والسنة النبوية، لم يتركا خيرًا إلا ودلّانا عليه بالحث والتوجيه، ولا شرًا إلا ونهانا عنه بالترك والترهيب… من ذلك نستلهم حقيقة واحدة، أن الاحتفال بالمولد النبوي لو كان ذا تأصيل ديني فإن التوجيه سيكون صريحًا للغاية بما لا يدع سبيلاً للبحث والاستدلال، وتلك هي الحتمية التي لا مفر عنها نتوصل إليها من خلال عدم التوجيه وقلة الحديث عنه لدى علماء الإسلام البارزين.
إنها مناسبة مبتدعة، من ورائها مآرب أخرى، وهو ما يذهب إليه التاريخ في إشارة إلى أول احتفال برعاية رسمية حين احتفلت الدولة الفاطمية بالمناسبة، مستنفرة مؤسساتها ومُجيشة الشعب للخروج احتفاءً بالمولد النبوي. ولا يخفي التاريخ الإشارة لماهيّة الاحتفال الحقيقية حيث ذهب البعض بأن الفاطميين في حقيقتهم يحتفون بوفاة الرسول الكريم وذلك للتضارب الكبير في تاريخ وفاته أيضاً…فيما أورد الشيخ الطنطاوي في كتابه رجال من التاريخ أن الملك المظفر وهو ممن لازموا القائد صلاح الدين الأيوبي هو أول من ابتدع الاحتفال وكان يحشد الناس في مدينة أربل (أربيل العراقية اليوم) حيث يحتفي به في التاسع من ربيع أول عاماً وفي الثاني عشر من ذات الشهر في العام التالي وذلك لتضارب الرواة في عهده.
ماذا عن اليوم؟ من الذين يحتفلون؟ كيف يحتفلون؟ولماذا يحتفلون؟
منذ اليوم الأول من شهر ربيع الأول تعيش دول بقدرها حراكاً موسعاً لعقد أنشطة وفعاليات احتفالية على مدى الشهر، وتعلن أخرى عن إجازة وطنية في يوم الثاني عشر من الشهر…
ففي المغرب والسودان وحضرموت اليمنية والسهل التهامي في غرب اليمن ودول أخرى، يُعْمِلُ الصوفيون طرقهم المتنوعة للاحتفالات المتعددة، في مناطقهم التي ينشطون فيها مستخدمين طرقاً لا نهاية لها في كيل المديح والتغني بالنبي الكريم وصفاً لا أكثر.
أما مصر فيتكفل الأزهر بإقامة مشاعر الاحتفال بالمولد وسط رعاية كاملة من الحكومة، ولا يدخر المسؤولون جهداً في التحدث إلى الشعب واعظين ومحذرين من ارتباكات الأمة المتواصلة.
الشيعة والمولد النبوي
أمّا الشيعة فينتهزون الفرصة لإعادة شعاراتهم الطائفية إلى الصدارة، فالتنميق والإخراج الجمالي البديع كنه ما يحضرونه لإحياء المناسبة التي يربطونها بفاطمة الزهراء والإمام علي وابنه الحسين.
يعلنون حالة الطوارئ مستنفرين كافة جهودهم لإحياء المناسبة بصورة فنية بديعة، يتصدرها اللون الأخضر في كل مكان، ولكنهم بذلك يضيفون تعقيداً للمشهد الذي يحاولون من خلاله إبراز أفضل ما لديهم مداهنة وتزلفا.
الاحتفال الشيعي هو الأكثر إثارة في كل محتوياته، فبالإضافة لإحياء الدعوات السلالية والتقاليد الفنتازية المتبعة في مناسباتهم الدورية على مدى العام، فإنهم لا يدخرون جهداً لإبداء مطامعهم السياسية والتوسعية من خلال استخدام الخطب الرنّانة والوسائل المُشغِفة لتحقيق تطلعاتهم والاستفادة الكاملة من حيوية الذكرى ومدى تأثيرها في نفوس المسلمين.
كيف يمكننا أن نتعامل مع المناسبة؟
لا خلاف على أهمية المناسبة، بل الخلاف على طرق إحياءها ومضمون التناولات التي تختلف من طائفة لأخرى وبين جماعة وجماعة، فالانتهازية ومحاولة القفز على حقيقة ما جاء به النبي الكريم ديدن الطائفة الشيعة التي تفرغ طاقاتها للمزيد من الانقسامات المجتمعية ونشر الفتن بأوجهها المتعددة وبأصغر التفاصيل.
بينما تجنح صوفية اليوم للتعاطي الروحي الجسدي، فالمدح الخالي من الواقعية، والرقصات المثيرة، والولائم الكبيرة أبرز ما تتمسك به الجماعة حتى وقتنا الحاضر في إطار ما تسميه بالوفاء لخير البشر.
بالعودة اليسيرة للواقع فإننا نتوصل إلى شواهد صادمة، يحتفلون بمولد نبي السلام وينشرون الفوضى ويقتلون على أساس ديني وعقائدي وطائفي وسلالي وعرقي بدون وجه حق، يثيرون حمية اللا استقرار، يدمرون كل ما له صلة بالجمال، ينهبون، ويفسدون، ويحيكون مؤامرات إسقاط البلدان في براثن الترهل والإنهاء بلداً تلو بلد، ويدّعون حصرية ارتباطهم بنبي المحبة والسلام عليه خير صلاة وسلام.
ألا ترون ما يجري في سوريا؟ وما تعانيه اليمن؟ وكيف أصبحت العراق؟ وأين باتت لبنان العربية في حكمة الزمان؟
كل ذلك من وراء التفكير المحدود، والانجرار وراء المصالح الضيقة المبنية على كيفية إقصاء الآخر، مهما كانت التكاليف، ولو أجبروا على تكرار جرائم الإبادة وما ارتكبته أعتى الجيوش عبر التاريخ، فقط لأن هناك فوارق بسيطة في الاعتقاد تسببت في انسداد الآفاق، لتنتج عنها كارثية اليوم المهلكة.
ما من سبيل سوى هَدي النبي
لقد وُلد نبينا ليعم النور هذا الكون بما يحمله من هدى وليسود العدل والوئام كل نواحي الحياة، حياة جاء بها الرسول الكريم، شيدتها الأخوة والمحبة ونُبذت فيها كل دعوات النشاز وعليها كان إيماننا وإليها دُعينا فأجبنا…
إن ديننا يدعو إلى التسامح ونشر ثقافة حب البقاء لكل من في الوجود وليس للإقصاء والكراهية ولا لدعاة التفرقة، ليحسبوا أنفسهم من ذويه.
لم نعد بحاجة إلى تصنع مزيد من الحماقات وإيوائها تحت بند حب النبي تعدياً عليه وكذباً على سنته التي لم يرد فيها شيء من قبيل الاحتفالات واصطناع المناسبات.
حسبنا إن أردنا العودة أن نجعل من إعادة إحياء الهدي النبوي نصب أعيننا ليسري من جديد في أعماق هذه الأمة حتى تعود رائدة كما كانت ذات يوم…
ولا تنسوا ما قاله الصديق يوم وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم:
أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.