سجود في محراب الحياة
قد يبدو العنوان غريبًا، ويظهر المقصد بعيدًا، لكن الحقيقة تقول أن الحق أبلج، فلا حجب ولا أستار، ولا خفايا ولا أسرار!
ألا ترى معي أن عندنا كتابين: مسطور ومنظور، وكلاهما يدعوا للتفكر والتأمل في بديع صنع الخالق–سبحانه وتعالى-ومن ثمَّ عبادته على الوجه الذي يرتضيه، لا على ما نرى نحن بأعيننا القاصرة، و أفكارنا الحاصرة، وهذا العمق الذي أود أن أتجاذب فيه أطراف الحديث معك.
أليست الحياة مجموعة حركات ونشاطات، تتخللها صور ومشاهدات، فيها المسرات والمبكيات، وهي تدور حول تلك الحلقات مرات ومرات. ومن أهم ما يشد النظرات ويخنق العبرات مما يحصل من المشكلات المنغصات، أزمة عاجلة ملمة، تعتبر معضلة يعيشها عموم أفراد الأمة، حالت دون وصولهم للقمة، سببها الأول الانفصال النكد بين العلم والعمل، وانتشار النصب والخيانة و الدجل، وكما هو ذائع ومعلوم، ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا، وهذا أمر يعرفه أهل الفهوم.
اتخذ بعض الناس الدين أسواق، كل يعرض سلعته على الرواق، والزبائن يشترون ولا مشاحة في الأذواق، فبدلًا من التوحد صار التفرق، و يا ليت الباعة أفهموا زبائنهم أن الدين يتسع للجميع بمرونته وثرائه، بل زعم كل تاجر أن بضاعته هي الوحيدة التي ستُدخل الجنة، فمَالِ هؤلاء التجار! وقصة بيع الأفكار! دون تفكير ولا اتخاذ قرار! فالكل له شعار، يحقق به مآرب له كبار، ويزعم أنه من الشطار، يُلبسون الإسلام عباءتهم الشخصية، فصارت نزواتهم وعاداتهم دينًا تتعبد به البشرية، أردت في هذا القرطاس، أن أخط ببناني ما يدور في فكر الناس، وأزيل الشبهات وأوضح الغموض والالتباس.
إخواني الكرام
لم لا نتأمل سويًا، ونجلس فنفكر مليًا؟! خلق الله العباد ليعبدوه، ورزق الخليقة ليشكروه، فكيف اتخذ الناس آلهة غيره تعبد! ولها قدَّموا الفروض ركعًا سجد! ومهمة الإنسان الأساسية عبادة رب البرية، قال تعالى :
“وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”
إن للعبادة مفهومًا شاملًا لكل مناحي الحياة، أليست هي طوق النجاة! قال تعالى:
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين.
علينا أن نصحح وجهتنا فتكون الحياة بكل مسارحها ميدانًا لعبادتنا، وفي كل لحظاتها مجالًا لكل سجداتنا. فالعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة و الباطنة التي أمر الله بها في كل رسالة قال سبحانه :”أن أعبدوا الله ما لكم من إله غيره“. إن حياة المؤمن كلها عبادة، فالربانية وجهتنا، والوسطية فكرتنا، والإخلاص شراعنا، والأعمال الصالحة متاعنا.
نبدأ حركتنا من المساجد، ونرتقي في سلم الفضلاء الأماجد، من المحراب ننطلق، إلى الخيرات نستبق، نسمو بِذُلِّنا لله، وله نحني الجباه، فمن وضعية السجود ومنة الشهود إلى إعادة المجد المفقود. ومن مجالس القعود إلى صناعة حضارة الجدود، وتعمير الوجود. فمن الخضوع والمحبة للمعبود إلى تحقيق الهدف السامي المنشود، من الحلق إلى التحليق، من النسق إلى التنسيق، من البسمة إلى التبسم، ومن الكرم إلى التكرم، فهيا بنا نطير إلى هناك، حيث الأقمار والأفلاك.
أحوال الناس مع العبادة
إن أحوال الناس مع العبادة، تدعوا لإعادة النظر للإفادة، فقد امتزجت الروحانية بالمادة، وذابت الشعائر في بوتقة العادة، فأين العباد الأثبات وهل في مواقفهم اليوم مبادئ وثبات؟ أم أنهم تمزقوا حتى غدو أشتات! هل اتصلت قلوبهم برب الأرض والسماوات! هل نصروا الله وحققوا مبتغاه أم أنك ستقول هيهات؟ أسئلة تطرح نفسها في الساحة؟ بحثًا عن إجابة شافية فيها صراحة! وأنا متأكد أنك ذا بديهة لمّاحة.
إن العباد شأنهم عجيب، ونبأهم غريب، فمنهم الرهبان الذين خلت منهم الباحة، فهم أموات غير أحياء قد خلدوا للراحة، ومنهم من دخلوا في معترك السباحة، فخالفوا مبادئهم الثمينة، وصاروا يشكلون كالعجينة، نقضوا العهد واخلفوا الوعد، باعوا قيمهم وساروا باتجاه التيار، وقد علموا أن طرق العلا قليلة الإيناس وكثيرة الأخطار فلاذوا بالفرار.
الهدف والقصد
أردت أن أقوم المسيرة، وأبين الجرم و الجريرة، حتى تتضح المعالم مشرقة منيرة، فيراه الناس كشمس الظهيرة، من وإلى، عن وعلى، مستويات في العبادة ودرجات في الريادة، والارتقاء بحسب الاصطفاء و العطاء، فالسلالم جِدُّ عالية ومنهم من يرى الخطر فيبرر بأن نفسه غالية، فينزل ويولي الأدبار، ويخرج من المضمار، وقد أمضى ربع قرن في ذلك المشوار! فهذا هو التساقط والانهيار! نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الثبات والاستقرار.
من صدق النية وسلامة الطوية إلى المنازل العلية والمقامات السنية، من المحراب إلى السحاب، من سجود الصلاة إلى جهود الحياة، من عبادات الأفراد إلى روح الاتحاد، فيا لها من نقلة نوعية وانطلاقة حضارية. تبدأ من ليل الأسرار وتستقر بأنوار النهار، من بكاء التهجد إلى عناء التودد، من مزاحمة العلماء بالركب إلى صناعة القادة من النخب، من التبلد إلى التجلد، من الأريحية إلى المنية، رحلة ما أصعبها! مسافات ما أبعدها! نسلك فيها المفاوز والدروب، نخالط فيها أنواع الشعوب، ونصطبر فيها على الكروب، قفزات تسمو بها القلوب، لتصل إلى معية علام الغيوب، فيحقق لها المرغوب .
ننتقل في هذه الرحلة الفريدة من صنوف الفروض والواجبات إلى صروف الأخلاق والمعاملات، من حلق الذكر والاستغفار إلى فضاء التشييد والإعمار، من الختمات المرتلات والابتهالات المبكيات والدعوات الضارعات إلى الصدقات والهبات والأُعطيات، إنها انطلاقة تنويرية لبناء مجتمع الفضيلة، واجتثاث شجرة الشر و الرذيلة، بها يتفاعل الفرد مع أسرته، ويتناغم مع أقاربه وعشيرته، بها يحصل التزاور والتغافر والتعاضد والتناصر، نودع فيها تضخم الأنا والفردية إلى الشعور بأحزان الآخرين النفسية وغصصهم الاجتماعية، هكذا نصل من العبادات التعبدية إلى العبادات التعاملية، من العزلة الذاتية إلى الخدمة المجتمعية.
ختاما
إن فقه التدين يجعلنا نفهم روح العبادات التي شرعت لتحقيق التوازن في المجتمع المسلم، و تنظيم دوائره بما يضمن له الاستمرار والاستقرار، فليس الدين أفيون الشعوب، ولا رهبانية في الإسلام، فالعابد الحقيقي من يراعي حق الله وحق عباد الله، ويغرس بذور الوحدة والمحبة والتواصل، ولا يكون داعية للعصبية والعنصرية والتفاصل، فليس بعابد من قام الليل وأذاق جاره الويل، وليس بعابد من تفانى في ضبط تلاوة القرآن، وسلوكه لم ينضبط بعدُ بشرائع الرحمن، علينا أن نعيد حساباتنا لنتعرف على ذواتنا، وأن نراقب دواخلنا ونياتنا، وأن نكون صالحين مصلحين، فاعلين متفاعلين وصلَّ الله على محمد الصادق الوعد الأمين .