ما الذي جعل الثورات الشعبية تتراجع في حين تتقدم ثورات الرافضة؟
ثلاثة مراحل هي تلك التي تنتظر الثورات الشعبية قطعها لتخرج من الهيمنة وليس من الاستبداد فحسب، هي: (1) مرحلة إرحل، و (2) مرحلة تفكيك قواعد النظام، و (3) مرحلة تفكيك قواعد الهيمنة. حتى اللحظة، ومع مرور خمس سنوات على انطلاقتها، والدخول نسبيا في المرحلة الثانية عبر انطلاقة الثورات المضادة، وفي المرحلة الثالثة عبر الثورة السورية، إلا أن الثورات لم تنجح بعد في استكمال المرحلة الأولى.
في خضم الثورات بدا المتغير الشيعي مثيرا وهو يتمدد بسرعة فائقة في دول الثورات ويهدد أخرى علانية. في حين يجري اعتراض الثورات الشعبية سياسيا وعسكريا وأمنيا من قبل النظم وقواعده الاجتماعية والإعلامية والثقافية، أو من قبل النظام الدولي وأدواته. فما الذي جعل الثورات الشعبية تبدو وكأنها تتراجع في حين تتقدم ثورات الرافضة؟
أول الثوابت تقول بأن الثورات الشعبية لم تنطلق من رحم الأحزاب والجماعات والحركات والتيارات السياسية والدينية أو قياداتها .. ولا من رحم المثقفين والإعلاميين وأساتذة الجامعات .. ولا من أيديولوجيات اللبراليين والقوميين واليساريين .. ولا بوحي من علماء الدجل والخيانة وتيارات المداخلة والصوفية وأحزاب الظلام المسمى إسلامية التي انحازت لمناصرة الاستبداد .. ولا بدافع من قوى دولية .. بل رغما عنها وعلى أنقاضها جميعا.
فالثورات الشعبية انطلقت، عفويا، بعد أن أحكم الاستبداد قبضته على (1) الدولة، و (2) مؤسساتها، و (3) القوى الحيوية، ليصل أخيرا إلى (4) الأفراد، وبعد أن (5) فشلت كافة ما زُعِمَ أنها مشاريع مطروحة، وبعد أن (6) عجزت القوى والأيديولوجيات حتى عن حماية نفسها.
أما الثورة المضادة؛ فرغم أنها تمثل المرحلة الثانية من الثورات؛ إلا أنها انطلقت مبكرا كون القوى الفاشلة أصلا تَسلَّقت الثورات الشعبية، دون أن يكون لها أية رؤية قبل الثورات وبعدها، إلا من مجرد الرغبة في الوصول إلى السلطة، ولو بالخضوع مجددا لسلطة « قواعد النظام»، باسم «التوافق»، أو باسم الشعارات المزيفة من نوع «الشعب والجيش إيد واحدة». بل وأكثر من ذلك؛ حين قبلت هذه القوى بشروط اللعب في ملاعب النظام القضائية والإعلامية والأمنية! بدعوى «المحافظة على المؤسسات»، و«إرث الدولة». فإذا كانت قد فشلت في المرحلة الأولى، سواء في انطلاقة الثورات أو في إدارة المرحلة الأولى فهل من العقل والمنطق أن تنجح في أية مرحلة أخرى، ما دامت تحتفظ بأيديولوجياتها وقيمها وأطروحاتها وسيرتها الأولى.
ولعل أسوأ الثوابت؛ هي تلك التي تؤكد أنه ما من قوة سياسية أو أيديولوجية تمتلك ولو ملفا واحدا عن أية وزارة أو مؤسسة مدنية أو عسكرية أو أمنية أو اقتصادية، بحيث يكون لديها رصيد معرفي يمكنها من معرفة المكونات البنيوية والتاريخية لهذه المؤسسة، وآليات عملها، ومواطن القوة والضعف فيها، سواء على مستوى القوانين والإدارة، أو على مستوى القوى المتحكمة فيها، أو على مستوى مصادر التمويل، أو فيما يتعلق بشبكة العلاقات والارتباطات الداخلية والخارجية.
نموذج ثورات الرافضة
بخلاف أهل السنة والجماعة؛ فلم يفرِّط الروافض بعقائدهم الانتقامية أو يدينوها أو يخجلوا منها على امتداد التاريخ، بقدر ما أحيوها، وجاهروا بها، وجندوا لها الجيوش، وحشدوا لها إعلاميا وسياسيا وماليا وعسكريا وأمنيا وبشريا، لإشاعتها على أوسع نطاق في العالم وبين أتباعهم، وجعلوا من «ولاية الفقيه» مظلتهم التي يستظلون بها في العالم. وفي المقابل؛ تميعت نخب وقيادات الخردة، السياسية والدينية لأهل السنة والجماعة أيما تميع، وتشظت فتاواها وأطروحاتها، ومالت حيث تميل الريح، فبررت التحالف مع شياطين الأرض، ومزقت معها الأمة شر ممزق.
ولا شك أن العراق نموذجا معبرا في معاينة الكيفية التي فككت فيها الرافضة كل «قواعد النظام»، واستولت بموجبها على كل المكونات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والإعلامية للدولة. وهو ما سبق أن فعلته ولاية الفقيه بإيران خلال ثورة الخميني.
لكن النموذج الحوثي في اليمن، وبوحي من إيران وحزب الله، كان أشد وضوحا في السيطرة على الدولة، وانتزاعها من بين أيدي ملايين الثوار أنفسهم وهم في الطرقات والشوارع والساحات، وليس فقط من أيدي السلطة والقبائل و«قواعد النظام» السابقة.
كان بحق؛ نموذجا مدهشا وهو يستولي على مرأى من العالم أجمع، على مقرات الرئاسة والحكومة والبرلمان والوزارات والإعلام والبنك المركزي والمطارات وألوية الجيش ومخازن الأسلحة والأرياف والحواضر والمدن، الواحدة تلو الأخرى، دون أن يجد من يعترضه! والمدهش أكثر حين خرج أحد نخب الخردة من عاصمة أوروبية، ليعلق على الحدث الحوثي بسذاجة عجيبة: «هذه فقاعة»! أو أن الحوثيين: «لن يستطيعوا أن يحكموا وحدهم»! أو حين يباهي أحدهم بكل بجاحة قائلا: «هذه دماء معصومة .. لا يجب سفكها .. الحمد لله أننا منعنا سفك الدماء»!!!