مسالك الإضلال قديمًا وحديثًا (1)

العلم بمسالك الإضلال باب جهادي يقصد منه إظهار الحق وإزهاق الباطل ودمغه كما قال تعالى:﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ سورة الأنبياء، يقول سيد قطب رحمه الله: “فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة، تقذف به على الباطل، فيشق دماغه! فإذا هو زاهق هالك ذاهب ،هذه هي السنة المقررة، فالحق أصيل في طبيعة الكون، عميق في تكوين الوجود، والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا، طارئ لا أصالة فيه، ولا سلطان له، يطارده الله، ويقذف عليه بالحق فيدمغه” اهـ، في ظلال القرآن. [1]

فيتحقق من ذلك أمرين: الأول: إعزاز الدين وإظهاره، والثاني: دمغ الباطل ودحضه؛ وهذين الأمرين من معاني الجهاد الغائبة.

والله تعالى فصَّل في كتابه سبيل المجرمين كما أنه بين سبيل المؤمنين مفصَّلة، وأعلم الخلق هم من استبان لهم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، والناس في هذا الباب درجات، يقول الإمام ابن القيم: “فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى التهلكة فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة ” اهـ، الفوائد.

ولعل القصور والضعف في معرفة أحد السبيلين يسبب اللبس بين بعض تفاصيل السبيلين، فقديمًا خلط المشركون بين ما أقروه من بعض معاني توحيد الربوبية الصحيحة وبين شركهم في الألوهية كما قال تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر ،38].

وحديثا تلبسّت الديمقراطية بالشورى كما تأسلمت الاشتراكية بدعوى وجود معناها في الإسلام، وهلم جرا، يقول الإمام ابن القيم: “فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ودعا إليها” اهـ، الفوائد.

لست بخب ولا يخدعني الخب

ويقول شيخ الإسلام أيضا: “فالقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به، وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقا؛ فإن هذا ليس بمطرد بل قد يكون الطبيب أعلم بالأمراض من المرضى، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطباء الأديان فهم أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس. ولكن المراد أن من الناس من يحصل له بذوقه للشر من المعرفة به والنفور عنه والمحبة للخير إذا ذاقه ما لا يحصل لبعض الناس مثل من كان مشركا أو يهوديا أو نصرانيا وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والأقوال الفاسدة والظلمة والشر، ثم شرح الله صدره للإسلام وعرفه محاسن الإسلام؛ فإنه قد يكون أرغب فيه وأكره للكفر من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والإسلام؛ بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا أو مقلد في مدح هذا وذم هذا” اهـ، مجموع الفتاوى.

صناعة الباطل

أحاول في هذه المقالات أن أتتبع قدر الاستطاعة كيفية صناعة الباطل وكيف ينتشر؟ وبالتركيز على أداة الاستفهام كيف؟ سنتعرض لأدوات استفهامية أخرى وإن كانت ليست محورية في هذه المقالات مثل متى نشأت هذه الفكرة الباطلة والمقولة الفاسدة؟ أو ما هي هذه الفكرة وما دوافعها؟ سنتعرض لهذه الأدوات بقدر الحاجة فقط، فإنني أحاول أن أسلط الضوء على ما هو أخص من معرفة الباطل بالتركيز على الكيفية … إنني أبحث هنا فيما وراء الضلالة .. أبحث في داخل نفس وعقل منشئ الضلالة.

مدخل تيمي لكيفية نشوء الضلالة في النفس؟

يقول: “فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة: من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة: من لمة الشيطان” اهـ، مجموع الفتاوى.

وقول شيخ الإسلام هذا هو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، وصور هذا القول كثيرة ؛ فإبليس اتخذ من بعض بني آدم وسائط وأدوات ينشئ بها الباطل وينشره في الواقع البشري ، فهذا هو السامري يصنع من الذهب عجلا له صوت يثير الإعجاب إلى حد العبودية، فقد سلك السامري السبيل المادي المرئي والمحسوس لتمرير ضلالته ونشرها،

كما سلك فرويد سبيلا مرئيًا محسوسا ليستدل به على لمات شيطانه الفكرية والتي فسر بها وعلل سلوك الطفل ناحية أمه بأنه سلوك جنسي!

أما مركب الضلالة الذي ركباه وإن كان هذا في القديم وذاك في الحديث-فهو الاستدلال بالمشاهد والمحسوس، والاستدلال بالمشاهد المحسوس لا يلزم منه أن تكون النتائج التي يُفضي إليها يقينية قطعية، فعجل السامري له بريق أخَّاذ لأنه من الذهب كما أن له صوت وهذا مناسب لقوم لا يؤمنون إلا بالمادة، أما خزعبلات فرويد فقد استقاها من مشاهدات صحيحة ولكن الخيال والوهم كله في التفسير والتعليل لهذه المشاهدات، وهذه أحد أساليب التضليل حيث التشتيت بين المقدمة والنتيجة، أو بين المسائل والدلائل.

وقضية المسائل والدلائل من القضايا التي ينبغي الاعتناء بها والتركيز عليها في تفكيك الشبهات والضلالات التي يسلكها المضلين وقد أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: “المعلوم من حيث الجملة: أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوًا وقولا للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم ودلائلهم؛ لا يكاد -والله أعلم -تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك.

وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من الشَّغوفين بهم -وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الاحتلام -كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة وإما أن تكون المسألة باطلا ” اهـ، مجموع الفتاوى.

أقول: وما ذكره شيخ الإسلام: “كل ما يقوله هؤلاء فيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة وإما أن تكون المسألة باطلا”؛ قاعدة جديرة بالعناية، فينبغي طردها واستحضارها في مواطن الجدل بين الحق والباطل وتفصيل سبيل المجرمين.


تنويه

[1] هناك بعض المآخذ على عبارة سيد قطب-رحمه الله-كقوله “يد القدرة” و “يطارده الله” ولكن الشاهد هنا هو المعنى الإجمالي.


طلعت الخطابي

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى