
النموذج المُلهم: طريق المسلمين لاستعادة دورهم الحضاري
عندما بدأ “طوفان الأقصى” لم يكن مجرد موجة عابرة من المقاومة، بل كان ميلادًا لنموذج مُلهم استطاع أن يهزّ ثوابت الاستكانة ويقلب معادلات القهر المفروضة. ما يميّز هذه اللحظة التاريخية أنّها أعادت إلى الأذهان صورة الإسلام الحقيقي الذي فقده كثير من المسلمين بين طيّات الجهل واليأس والاستبداد. وبينما ظلّت التيارات الإسلامية، والأحزاب، والحركات الدعوية، والجهود الفردية لعقود طويلة تسعى لإحداث تغيير جذري دون نجاح ملموس، جاء “طوفان الأقصى” ليقدّم ببساطة نموذجًا حيًّا من الصمود، يُغيّر المعايير والمفاهيم.
هنا يكمن سر التغيير الحقيقي: صناعة النموذج المُلهم. النموذج لا يحتاج لكلمات طويلة، بل يحتاج لأن يُرى ويُعايش. هذا ما فعله النبي ﷺ عندما صنع من أوائل أصحابه نماذج قوية تجاوزت الخوف والرغبة في النجاة الشخصية إلى الثبات والإلهام، كما حدث مع بلال بن رباح رضي الله عنه، الذي أذهل قريشًا بثباته أمام العذاب، ليصبح رمزًا للصمود تُعيد الأجيال استحضاره كلما حاولت قوى الباطل كسر عزيمتها.
النموذج الملهم لا يُلغي الحضارات المناوئة مباشرة، لكنه يُفكّك منظومتها القِيَمية ويهزّ يقينها، فيُعيد تشكيل المعايير الإنسانية لدى المتابعين. الحضارة الغربية نفسها، برغم جبروتها التكنولوجي والإعلامي، تقف عاجزة أمام نموذج يستند إلى قوة الإيمان وثبات العقيدة، وتخشى أن يكون بداية لإحياء نهضة إسلامية شاملة؛ ولهذا تسعى بكل طاقاتها لإجهاض أي تجربة إسلامية حقيقية، وتستخدم كل أدواتها لتشويه أي نموذج يُلهم المسلمين لاستعادة هويتهم الحضارية.
النموذج والتأثير: لماذا يفشل المصلحون؟

إذا كان النموذج المُلهم هو المفتاح للتغيير الحقيقي، فلماذا فشل المصلحون والمفكرون والدعاة على مدار المائة عام الماضية في صناعة هذا النموذج؟
هنا تأتي المشكلة؛ أغلب الحركات الإصلاحية، رغم إخلاص بعضها، اختارت الطريق الأصعب والأكثر تعقيدًا: محاولة تغيير الأنظمة السياسية بشكل مباشر، أو إقناع الجماهير عبر الخطابات والشعارات، دون أن تبدأ ببناء نماذج حية تُرى في واقع الناس وتُعايش تحدياتهم اليومية. الخطاب الدعوي الذي لا يتجسد في واقع ملموس يبقى مجرد أمانٍ بعيدة المنال، والأيديولوجيات التي لا تجد من يحملها نموذجًا عمليًا تظل مجرد كلمات على الورق.
المصلحون في الغالب ركّزوا على التنظير أو التفسير أو التأطير الشرعي، ونسوا أنّ الناس لا تتحرك إلا عندما ترى بأعينها من يجسد هذه الأفكار بصدق وقوة. من هنا جاء الفشل؛ لأنّ العقل الجمعي يحتاج إلى مثال حيّ يمكنه من الارتباط به، نموذج يُحيي الأمل ويثبت القدرة على التغيير.
على الجانب الآخر، فإنّ الحضارات الأخرى، كالحضارة الغربية، لم تصل إلى هيمنتها عبر قوة الأفكار المجرّدة وحدها، بل من خلال تقديم نموذج حياتي يُغري الآخرين بالتقليد أو الخضوع. النموذج الغربي لا يُقنع العالم فقط عبر الأفكار الليبرالية أو الديمقراطية، بل عبر نمط الحياة ذاته، المادي الاستهلاكي، الذي أصبح رمزًا للرُقي والنجاح. لذا؛ فإنّ المسلمين اليوم بحاجة إلى نموذج يُرى ويُحس، لا مجرد خطب تُلقى في المساجد أو كتب تُقرأ في الزوايا المغلقة.
من هنا نفهم كيف استطاع “طوفان الأقصى” تقديم النموذج الذي فشل فيه الكثيرون؛ لأنّه لم يكن تنظيرًا أو شعارات، بل دماءً ودموعًا وصمودًا تحت النار. كان مثالاً حيًا لأمة تتحدى القهر، لا بالكلمات، بل بالأفعال، مما أعاد تعريف البطولة في وجدان الأمة الإسلامية، وغيّر معايير الخوف والشجاعة والكرامة.
يوسف بن تاشفين: حينما يتجسد الإلهام في أزمات الأمة
إذا كنّا قد فهمنا أهمية النموذج المُلهم في إعادة إحياء الأمة، فإن التاريخ الإسلامي حافل بنماذج فريدة استطاعت، بإذن الله، تغيير مسار الأحداث وتحويل الهزيمة إلى نصر، والذل إلى عزة. هؤلاء لم يكتفوا بالكلام عن الإصلاح أو الدعوة إلى الصبر، بل جسّدوا المبدأ في حياتهم، وأصبحوا مثالاً حيًا لإمكانية العودة من عمق الهزيمة إلى قمة النصر.
لعلّ من أبرز هذه النماذج يوسف بن تاشفين، أمير دولة المرابطين في المغرب الإسلامي. في فترة ضعف وتمزق سياسي في الأندلس، حيث تنازعت ممالك الطوائف واشتدت أطماع الإسبان المتحفزين، كانت الأندلس على شفا السقوط الكامل، بل وكانت المدن الإسلامية تدفع الجزية للممالك المسيحية المجاورة في مشهد مُذلّ يجرح كرامة الأمة. عندها أطلق المعتمد بن عباد صرخته الشهيرة: “رعي الجمال عندي خير من رعي الخنازير”، طالبًا النجدة من يوسف بن تاشفين، الذي لم يكن يملك آنذاك سوى دولة بسيطة تنقصها رفاهية الأندلس وثراؤها.
لكن ما الذي جعل هذا الرجل القوي، البعيد جغرافيًا عن الأندلس، يمتلك الإرادة لدخول معركة تبدو خاسرة؟ إنه الإيمان العميق برسالته الإسلامية، وفهمه لدوره كنموذج ملهم قادر على تغيير الواقع. عندما عبر يوسف بن تاشفين البحر إلى الأندلس، لم يأتِ فقط بجيش، بل جاء بروح منضبطة تحمل معاني الجهاد الحق، والغاية السامية للفتح والتمكين لدين الله.
معركة الزلّاقة لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت إعادة صياغة للمعايير؛ فقد قلبت ميزان القوة في الأندلس، وأظهرت أن النموذج الإسلامي الذي يحيا بالإيمان ويتسلح بالتضحية يمكنه مواجهة أطماع أعدائه. لم تكن الزلّاقة مجرد انتصار عسكري، بل إحياءً لأمل الأمة وإيقاظًا لضميرها؛ إذ توحّدت ممالك الطوائف، ولو مؤقتًا، تحت راية واحدة، بعدما أذهلهم ثبات هذا القائد وزهده في المُلك والمال.
بهذا الفهم، ندرك أنّ طوفان الأقصى لم يكن استثناءً تاريخيًا، بل حلقة متجددة من سلسلة النماذج الإسلامية التي استطاعت أن تستنهض الهمم، وتعيد تشكيل الوعي الجمعي للأمة. النموذج المُلهم لا ينحصر في القادة العسكريين، بل يمتد إلى كل مسلم يحمل همَّ أمته ويعيش بفكرة الإصلاح الواقعي، متجاوزًا حدود الخطابة إلى ميدان الفعل.
من الإلهام إلى التطبيق: تحديات الواقع ومسؤولية الأفراد

تحويل النموذج المُلهم إلى واقع ملموس هو التحدي الأكبر أمام أي حركة نهضوية. فالإلهام يُشعل الحماسة، لكنه وحده لا يكفي؛ إذ يجب أن يُترجم إلى خطط مدروسة، ورؤية متكاملة، وعمل دؤوب لا يعرف الفتور. هنا، تتكشّف التحديات الكبرى، حيث يقف المسلمون اليوم بين قوى دولية متربصة، وحكومات محلية تفتقر إلى الإرادة أو القدرة، وجماعات فكرية تحمل شعار “التنوير” بينما تهدم الأسس الأصيلة لهوية الأمة.
التغيير الحقيقي لا يُصنع بالبكاء على أطلال التاريخ ولا بانتظار “المخلّص” القادم. يحتاج النموذج الملهم إلى مؤسسات فكرية وتعليمية تُعيد قراءة القرآن الكريم والسنة النبوية بفهم عميق ورؤية متجددة، تستلهم من النصوص الشرعية مبادئ النهضة وتُسقطها على واقعنا المعاصر. لا بُدَّ من تغيير أدوات التعليم لتكون مُحفزة على التفكير النقدي والإبداع، لا مجرد إعادة إنتاج لما يُملى على العقول.
المسؤولية الفردية: بداية الطريق
النماذج التاريخية الملهمة التي استعرضناها لم تكن مجرد ظواهر استثنائية؛ بل كانت نتيجة تفاعل عميق بين الأفراد والأمة. لذلك؛ فإن مسؤولية النهوض تبدأ من الإنسان المسلم نفسه. إعادة بناء الإنسان الذي يدرك أنّ الإسلام ليس مجرد شعائر تُمارس، بل مشروع حياة شامل، يُعيد تعريف علاقته بخالقه ونفسه ومجتمعه. المسلم الذي يُدرك أنّ النهضة تبدأ من داخله، من التزامه في بيته، وإتقانه في عمله، وصدقه في تعامله، وسعيه الدائم للتعلم والتطوير.
نحو نموذج شامل للنهضة

علينا أن نتجاوز مفهوم النهضة الضيق الذي يقصر الصراع الحضاري على السياسة فقط. النهضة الحقيقية هي منظومة شاملة تشمل التعليم، والإعلام، والاقتصاد، والثقافة، والسياسة. نحن بحاجة إلى مؤسسات تُعيد تشكيل الوعي الإسلامي، وتُقدّم النموذج المُلهم في كل جانب من جوانب الحياة. علينا أن ندرك أنّ النماذج الملهمة ليست “أيقونات” للتغني بها، بل هي معايير للقياس والتقويم، يمكن من خلالها محاكاة التجربة وتطويرها لتناسب الواقع المعاصر.
الختام: مسؤولية مشتركة وعمل دؤوب
هذه دعوة لكل مسلم، لكل فرد يؤمن أنّ له دورًا في إحياء أمة، وأنه مسؤول أمام الله عن موقعه، وعن جهده، وعن ما يُقدمه لدينه وأمته. النهضة ليست مشروعًا نخبويًا بيد المفكرين والعلماء فقط، بل هي مشروع الأمة بأسرها. حين يستشعر كل فرد مسؤوليته، ويدرك دوره، ويتجاوز حالة التذمر إلى حالة العمل الدؤوب، سيولد النموذج الملهم من رحم الأمة، وسيكون بداية نهضة جديدة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
قد يبدو الطريق طويلًا، وقد تبدو التحديات ثقيلة، لكن الفجر دائمًا يأتي بعد أشد ساعات الليل ظلمة، وعلينا أن نكون على يقين أنّ الأمة التي ألهمت العالم ذات يوم قادرة بإذن الله على العودة، وأنّ النموذج الملهم ليس مجرّد حلم، بل هو واقع ينتظر من يحمله ويدفع به نحو النور.
ما شاء الله ربنا يجعله في ميزان حسناتك
شكرا أستاذ علي على كل الجهد والوقت الذي وضع في هذا المقال المميز.