
سبع محطات من كتاب: (المسلمون سادة البحار)
المعرفة التاريخية قوة باعثة على الهمة والعزم للعمل، وهذا من أهم ركائز بناء الحضارة، وللباحث شريف عبد العزيز الزهيري من مصر، سهم في تصنيف كتب تشترك في هذا المقصد والغاية، وكتابه (المسلمون سادة البحار) يذكرنا بأمجاد المسلمين، وتاريخهم العظيم.
يهدف الكتاب كما يقول مؤلفه: إلى إبراز أهمية وروعة الجهاد البحري للمسلمين، وذلك لأن كثيرًا من الناس يظنون أن المسلمين لم يعرفوا البحر، وأن أوروبا هي صاحبة الفضل في اكتشاف البحر، فجاء كتابه يصحح هذه الاعتقادات المغلوطة من خلال استقراء لأحداث التاريخ الإسلامي من صدر الإسلام حتى القرن العشرين، فيما يخص حركات الفتوحات الإسلامية، وكذلك البطولات البحرية من دفاع عن الممالك والدول الإسلامية وكذلك الهجوم على الأعداء؛ وأتت الثمار مبينة أن للأمة الإسلامية مجدًا عظيمًا وسيادة على البحار والمحيطات لقرون عديدة، وهو ما يريد المؤلف تأكيده من خلال كتابه هذا؛ حتى يكون مصدر فخر واعتزاز لكل مسلم. وهذه خمس محطات مما جاء في الكتاب:
المحطة الأولى: لم يعرف العرب البحر قبل الإسلام باستثناء بلاد اليمن

يصور لنا المؤلف الأوضاع قبل الإسلام وكيف أن القوى العالمية آنذاك: الفرس في الشرق تسيطر على تجارة الهند، والأحباش يسيطرون على السواحل الجنوبية ويحتكرون طريق التجارة في البحر الأحمر، وكذلك يحتلون اليمن، وحضرموت. أما البيزنطيون يسيطرون على سواحل البحر الأبيض وهذا لأنهم يحتلون الشام ومصر وأغلب سواحل الشمال الإفريقي.
في حين أن علاقة القبائل العربية بالبحر مقطوعة، ويرجع ذلك إلى جملة من الأسباب: بداوتهم، وتأثرهم بالبيئة الصحراوية، فضلًا عن ندرة المواد اللازمة لبناء السفن في بيئتهم، وعلاوة على ذلك خلو بلدانهم من معدن الحديد إلا أن بلاد اليمن يتوفر في جبالها ذلك. ولهذا نجد أن أبناء اليمن يمتلكون خبرة كبيرة في ركوب البحار والصلة والتواصل مع الدول البحرية من قبل الإسلام.
وبعد الإسلام برز دور اليمانيين في الدفاع عن حدود العالم الإسلامي، وإنشاء أول قوة بحرية في الأندلس بعد فتحها، وقيادة الأساطيل الإسلامية مثل: جنادة بن أبي أمية الأزدي اليمني. وكذلك في الجهاد والفتوحات الإسلامية، إضافة إلى دورهم في الدعوة ونشر الإسلام من خلال الدعاة.
المحطة الثانية: الإسلام يُفضّل الجهاد البحري
جاء في الكتاب تفضيل الجهاد البحري عن الجهاد البري، وحث الإسلام عليه وقد بيّن المؤلف ذلك مسلطًا الضوء على أهميته في الدفاع عن العالم الإسلامي ونشر الدعوة، كذلك ذكره للأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء في الأثر مما يحث عليه ويبرز فضله عن غزو البر؛ ويرجع ذلك لمشقته وخطره.
ولقد ذكر المؤلف ثمانية وعشرين معركة بحرية من أشهر المعارك البحرية في تاريخ الإسلام، ولقد عرض هذه المعارك بشيء من التفصيل، موضحًا أسبابها ونتائجها، منها: معركة الإسكندرية سنة 25هـ، وفتح قبرص سنة 28هـ، ومعركة ذات الصواري سنة 34هـ.
المحطة الثالثة: تحول بحر الروم إلى بحر العرب والمسلمين

ارتبطت نشأة البحرية الإسلامية بالفتوحات منذ خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ونتج عن ذلك انهيار الوجود البيزنطي في السواحل الشامية كليًا في سنة 20هـ. ولقد قامت البحرية الإسلامية لأسباب تفوق البحرية البيزنطية فكان لزامًا على المسلمين تحصين السواحل منهم، وكذلك سعي المسلمين مرارًا وتكرارًا لفتح القسطنطينية بعد إنهاء الإمبراطورية الفارسية في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. أيضًا توفر المواد اللازمة لبناء الأسطول والعناصر البشرية بعد فتح بلاد الشام ومصر، وأخيرًا؛ وحدة الجبهة البحرية وهما مصر والشام وما يجمعهما من روابط وثيقة.
ومن أهم القواعد البحرية التي لها دور في تاريخ المسلمين هي: الإسكندرية، ودمياط في مصر، وعكا في فلسطين، وصيدا، وصور، وطرابلس، وطرسوس، والقلزم (السويس)، والبصرة في العراق، وجدة في الحجاز، واللاذقية في الشام، وقواعد المغرب والساحل الإفريقي، وقواعد الأندلس والجزر المتوسطية، وقواعد الخليج العربي، وقواعد السفن النهرية: وهي داخل المدن كنَهري دجلة والفرات في البصرة وبغداد، ونهر النيل في بلاد مصر والتي أطلق عليها “مقبرة الغزاة” أثناء الحملات الصليبية.
وقد تمكنت أساطيل الدول الإسلامية من السيادة على البحار والمحيطات، وسيطر المسلمون لعدة قرون على -بحر الروم- سابقًا، والذي تحول اسمه إلى بحر العرب والمسلمين، وكان للمسلمين السيادة عليه من شرقه إلى غربه!
المحطة الرابعة: بروز أمراء البحر “الدعاة”
تقدم لنا أن لعرب اليمن دور في نشر الإسلام، وقد ركب الدعاة البحر وعبروا المحيطات، ولم يمنعهم من ذلك مشقة أو تعب، فقد جاء في الأثر ما يحفزهم إذ علموا أن من يصيبه دوار البحر والقيء له أجر شهيد، ومن غرق له أجر شهيدين وغيرها، لهذا نجدهم يتركون الأهل والأوطان مواجهين المخاطر والصعاب لنشر الإسلام والتبليغ، وليس لأهداف دنيوية كما يروج لها أحيانًا. ويؤكد ذلك على سبيل المثال خوف المستعمرين من وصول المسلمين إلى إندونيسيا محاولين منعهم بكافة السبل إلا أن الدعاة لم يتوقفوا ولم يتوانوا عن المجيء والبقاء فضلًا عن المواجهة.
المحطة الخامسة: مراحل البحرية الإسلامية عبر التاريخ
مرت البحرية الإسلامية بمرحلة قوة من صدر الإسلام إلى مرحلة العصر العباسي الأول الذي شهد جمودًا لأكثر من 40 سنة إلى عهد هارون الرشيد الذي اهتم بأمر البحرية وينسب إليه الفضل والدور الحقيقي في تلك المرحلة إلى جهاد غزاة البحر المتطوعين وأكثرهم من الأندلسيين، وأيضًا جهد وحركة دولة الأغالبة في تونس.
أما في العصر العباسي الثاني فكان نشاط الدولة الطولونية واهتمام أحمد بن طولون مؤسسها بالبحرية، ودولة الأغالبة في تونس بما يمتلكون من مهارات وموارد لبناء الأساطيل فضلًا عن الروح الجهادية التي تميزهم، واستطاع المسلمون آنذاك تهديد إيطاليا وجنوب أوروبا الغربية كلها!
وفي مرحلة الدولة الفاطمية تفوقت البحرية، وسيطر الفاطميون على جزر البحر الأبيض، واستطاعوا تكوين قواعد هجومية هددت أوروبا كلها، وردوا هجوم القرامطة، واستطاعوا إخماد الثورات في مصر والشام، وكذلك محاربتهم للدولة البيزنطية إلى أن دخل الضعف في عهد المستنصر بالله (427هـ – 487هـ).
أما بحرية الأندلس فقد أصبحت اليد العليا في الحوض الغربي للبحر المتوسط، وذلك في عهد عبد الرحمن الناصر (300هـ – 350هـ)، وبهذا اكتملت سيادة المسلمين على البحر المتوسط كله.
وفي عهد ملوك الطوائف لم يكن هنالك دور في البحرية إلا لثلاث دول: بني عباد، وصمادح، ودولة مجاهد العامري، وسار من بعده على نهجه في الجهاد البحري حتى عهد “المرابطون” الذين قضوا على أطماع إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والنورمانديين. ومن بعدهم “الموحدون” وهو عهد القوة البحرية الأندلسية حتى عُرفوا بأقوى أسطول في البحر المتوسط بشهادة مؤرخي أوروبا، واضطر ملك صقلية أن يدفع الجزية السنوية للموحدين، وكذلك أرسل إليهم صلاح الدين الأيوبي على الرغم من تقدم البحرية في عهده طالبًا منهم إعانته في صد أساطيل الصلبيين.
المحطة السادسة: فترة الحملات الصليبية الفرنجية والدور العظيم لصلاح الدين الأيوبي (ت: 589هـ)
فترة امتدت لقرنين، كان معظمها حملات بحرية باستثناء الأولى والثانية. وقد قامت الدولة الأيوبية سنة 564هـ، واهتم صلاح الدين بالإصلاحات الداخلية للبحرية فكان منها: تقوية دفاعات السواحل، ورفع أجور بحارة الأسطول لتحسين أحوالهم، واهتم بتقوية البحرية الإسلامية من خلال الحث على الجهاد وكان هو نفسه قدوة. وبدأت مواجهاته البحرية ضد الصليبيين سنة 575هـ، وتم تحرير بيت المقدس سنة 583هـ.
أما في عهد دولة المماليك انصرف الناس عن الالتحاق بالبحرية حتى أصبحت الخدمة في الأسطول عار! بعد أن كانوا المجاهدين الذين يُتبرك بدعائهم، وهذا ملمح خطير يوضح بدايات التغيير في مجتمع دولة لديها أكبر قوة بحرية في المنطقة! وبالتدريج فقد المسلمون سيطرتهم على البحر المتوسط مع قيام الحركة الصليبية. وعلى الرغم من ذلك يذكر لنا التاريخ مواصلة المماليك نشاطهم البحري وقد أحبطوا محاولات الصليبيين في العودة لسواحل الشام ومصر ولكن الصراع بقي طوال مدة الدولة المملوكية (648هـ – 922هـ)، ويعتبر الظاهر بيبرس (ت: 676هـ) هو أول سلطان مملوكي يهتم بالقوة البحرية. وبشكل عام فإن الدول التي حاولت وقف تلك الحملات الصليبية هي: الفاطمية، والزنكية، والأيوبية، والمملوكية.
المحطة السابعة: الخطر البرتغالي والكشوف الجغرافية

تولى البرتغاليون قيادة الحملات الصليبية على العالم الإسلامي في مطلع القرن العاشر الهجري لأهداف دينية تتضمن نشر النصرانية، واقتصادية من خلال السيطرة على طرق التجارة العالمية من أجل إضعاف المسلمين، فقد كان المماليك هم من يتحكم في طريق التجارة العالمي، وهذا ما جعل ملك البرتغال هنري الثالث يفكر في إطلاق الكشوف الجغرافية للوصول للهند من غرب القارة الأفريقية بدلًا من غربها فكان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.
عند ذلك بدأت المعارك الطاحنة بين الأساطيل البحرية المملوكية والبرتغالية، وتبادلوا النصر والهزيمة حتى معركة “ديو البحرية” سنة 915هـ؛ وانتهت بانتصار البرتغاليين -للأسف- إلا أن البحر الأحمر بَقِيَ تحت سيطرة المماليك ولم يتمكن الأسطول البرتغالي من السيطرة عليه على الرغم من محاولته المتكررة.
وبعد مُضيّ سبع سنوات فقط انتهت الدولة المملوكية وسقطت على يد السلطان العثماني سليم الأول. ويذكر المؤلف أدوار العثمانيين في العطاء البحري يتضمن ذلك فتح القسطنطينية، ومواصلة المواجهات البحرية بينهم وبين البرتغاليين ونواياهم الصليبية، إلى أن تم توريط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وانتهت الدولة بعدها بسنوات قليلة.
أخيرًا: على أطلال الماضي
كتاب (المسلمون سادة البحر) من سلسلة (ذاكرة الأمة) والتي تستعرض مؤلفاتها تاريخنا المجيد، وهذا الكتاب يعد صفحة من صفحات هذا التاريخ التي تبين دور المسلمين في العطاء البحري، ولم تطب نفس المؤلف وهو يرى هذا الإهمال والتجاهل للقوة البحرية الإسلامية إلا أن يؤلف كتابًا يحفظ فيه عظمة المسلمين.
ولا شك أن نشر هذا الكتاب وتناوله لن يعطينا الشعور بالعزة فحسب بل سيكون له أثره في شحذ هممنا كلنا نحن المسلمين، وفي الأجيال المتعاقبة ولعلها بذرة نحو العمل بهمة وعزم بلا هوادة.



