من وحي مؤتمر جروزني: ألغام في الفكر الإسلامي -الجزء الثاني

كتب العقائد

الناظر في القرآن الكريم يرى أسلوبًا مختلفًا عما جاء في كتب ما يُسمى «العقائد» جميعها؛ فلغة القرآن سهلة عميقة بعمق الناظر إليها، يستوعبها الإنسان في يسر وبساطة، فنجد في القرآن أسلوبًا عاطفيًا روحيًا تارةً، وأسلوبًا تقريريًا عقليًا تارةً أخرى، وأسلوبًا متحديًا في مواطن، وأسلوبًا يتحدث عن الآخرة كأنها هي اللحظة الحاضرة في صورة إعجازية لا يقدر عليها سوى القرآن. وهذا الكتاب هو كتاب الإيمان، وكتاب العقيدة الحقة. [راجع-إن شئت-مقال: العقيدة الإسلامية].

الآيات المتشابهات

ولكن وجود الآيات المتشابهات في القرآن الكريم، والتي كان يمر عليها الرعيل الأول من الأمة بالتسليم، دون تقعير أو تعقيد، ومن كان له رأي في مسألة.. فهو له، دون الحاجة إلى إقامة معارك أو تكوين جماعات وفرق على أساس الموقف منها.

  • {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}

من أشهر الآيات التي تم اللغط حولها، قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فمن يُأول هذه الآية-ونظيراتها-أو يفوض معناها إلى الله فهو من «الأشاعرة، الماتريدية» وجيل منهم يميل إلى «التفويض»، وجيل آخر يميل إلى «التأويل» ليرد به على شبهات الخصوم. ومن يُثبت الاستواء فهو من «أهل الإثبات» من الحنابلة، ويبدو للحنابلة مدرستين في الإثبات:

  • الأولى: الإثبات مع التفويض والتنزيه
  • والثانية: الإثبات مع إجراء اللفظ على دلالته اللغوية وظاهره، بلا تكييف ولا تمثيل ولا تأويل

ومع الثانية هذه تدور معارك كثيرة!

كتب العقائد وتفسير المتشابهات

وكتب ما يسمى العقائد هي عبارة عن تفسير الآيات المتشابهات في القرآن أو ما قد يبدو فيها تعارضٌ، وعلى أساس موقفك منها يتحدد العقيدة التي تتبناها. والذي أراه أنه كان من الأفضل أن لا تُسمى «كتب العقائد» بل تسمى «الآيات المتشابهات» منعًا لتضخيم أمر لم يُفصله القرآن، ولم يكن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومنعًا لفرقة المسلمين على أمور ليست من أصل الدين، والتحزب عليها، وهياج الناس، وتبلبل أفكارها.

ولكن حصل العكس تمامًا، لقد تحولت قضية الدين كله-في فترة من الفترات-إلى قضية «الاستواء على العرش» وحصلت معارك فكرية خطيرة، وتطور الأمر إلى التشهير، والسجن، والمحاكمات، والقتل، والتبديع، والتفسيق، والتكفير!

  • فأصبح الأشاعرة والماتريدية ينعتون خصومهم من الحنابلة بـ «أهل التشبيه والتجسيم والحشوية» وقد وقع ذلك بالفعل في بعض حالات الغلو في الإثبات مما دفع العلامة ابن الجوزي الحنبلي تصنيف كتابه «دفع شبهة التشبيه».
  • وأصبح السلفية الأثرية ينعتون خصومهم من الأشاعرة والماتريدية بـ «أهل التعطيل ونفاة الصفات والجهمية» وقد وقع ذلك بالفعل في بعض حالات الغلو في التأويل.
  • وأصبح سلاح التبديع والتكفير-سواء الصريح أو المبيت-في يد الجميع، وفي يد السفهاء كذلك، يضرب بسيف الفرقة، والتحزب على قضية لم تكن يومًا أصلًا من أصول الدين.

تفسير آية يحدد فرقتك!

بل أصبح موقفك من تفسير آية واحدة يُحدد الفرقة التي تُنسب إليها، فمن يقول سنرى الله في الآخرة لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فهو من أهل السنة، ومن ينفي ذلك لقوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فهو من المعتزلة؛ واستلزم كل فريق لله جل جلاله لوازم عقلية حاكمة على الآيات ! فمن يقول بالرؤية يُلزمه الطرف الآخر بأن الله تعالى جسماً، ومن لم يقل بالرؤية يلزمه الطرف الآخر بانتفاء الذات الإلهية، وهكذا في تعقيدات لا نهاية لها !.

وفي قضية “ماهية القرآن” قال المعتزلة:

هل القرآن كلام الله الأزلي أم هو مُحدث؟! وانتهوا إلى أنه مُحدث وأنه مخلوق، ومن يقول غير ذلك فهو يجعل لله صفة التغير! وبذلك لا يوحد الله في ذاته ولا صفاته، فقالوا: كلام الله عبارة عن أصوات وحروف يخلقها الله في غيره فتصل إلى النبي عن طريق المَلك؛ فبذلك فالقرآن مخلوق! واستشهدوا بقوله تعالى:

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}

كما فسرها الزمخشري المعتزلي في تفسيره الكشاف، ومعنى أن كون الله متكلمًا أنه خالق الكلام وفاعله.

وقالت السنة:

القرآن كلام الله غير مخلوق؛ واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} وكلام الله صفة من صفاته، وصفات الله غير مخلوقة، إذن فالقرآن غير مخلوق. وقالو أيضًا: القرآن من علم الله وعلم الله غير مَخْلُوق وَالدَّليل على ذلك قَوْله تعالى: {وَلَئِن اتبعت أهواءهم بعد الَّذِي جَاءَك من الْعلم}.

وقال البعض:

القرآن كلام الله ولا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وقال البعض: الكلام كلامان كلام ذاتي أزلي، وكلام مقروء محدث. وقال البعض: من يقول القرآن مخلوق فهو كافر، ومن يشك في أنه غير مخلوق فهو كافر، وقال غيرهم: من يقول القرآن كلام الله ويقف ولا يقول غير مخلوق.. فهو من «الواقفية» وهو أيضًا كافر، وقال غيرهم: من يقول القرآن كلام الله، ولفظي بالقرآن مخلوق فهو من «اللفظية» وهو كافر، وقال غيرهم: القرآن كلام الله قاله بحرف وصوت، والكلمات فيه أزلية غير مخلوقة!

والحمد لله أن الجميع متفقون على أن القرآن «كلام الله ووحيه» ولكنهم مختلفون في ماهية وطبيعة هذا الكلام هل هو مخلوق أم غير مخلوق؟ هل هو أزلي أم محدث؟… إلخ من الأمور الفلسفية المُعقدة.

قول الصوفية

وخرجت “الصوفية” تحاول معالجة القسوة العقلية الناتجة عن الصراع الفلسفي حول تفسير الآيات المتشبهات وتعريف الإيمان والصفات الإلهية.. إلى التوجه نحو القلب والنفس، في محاولة لتزكية النفوس، وتربية الأخلاق، والزهد في الدنيا، ثم كان شأنها شأن كل جماعة تخرج كحالة رد فعل تجاه الغلو في أمر ما، ويكن لها من الحق في أمور معينة، ثم يدخل عليها «الغلو» هي الأخرى؛ فتحول التصوف فيما بعد إلى الدروشة والقعود عن الجهاد، وإلى الرقص والإنشاد، والغلو في الصالحين والمقامات والأقطاب!

ولقد تضخمت العقول بهذه الصراعات، وقست القلوب عن روح القرآن ومعانيه ومقاصده.. وإن الذين في قلوبهم زيغ عن الحق هم الذين يغرقون ويُغالون في «تأويل المتشابهات» من الآيات، ثم يمزقون الأمة بعدها فرقًا وأحزابًا.. يلعن بعضها بعضًا، ويُكفر بعضها بعضًا، ويبغي بعضها على بعض.. حتى يكون البأس بينها شديد.

الانتساب لإحدى الفرق استجابة نفسية عاطفية

وإن النزعة “العقلية التحررية” كالمعتزلة، والنزعة “المحافظة التقليدية” كأهل الحديث، والنزعة الوسط بينهما “كالأشاعرة والماتريدية” والنزعة “الروحية القلبية” كالصوفية.. هي نتاج طبيعي لحركة مجتمع عالمي مفتوح يضم أخلاطًا شتى، وأجناس متنوعة، وأفهام مختلفة، وفي الغالب فإن عموم الناس تنتسب لهذه النزعات استجابة نفسية عاطفية ليست قائمة على تمحيص الأدلة، ولا المقارنة بينها، ولا النظر في أدلة الأطراف الأخرى.. ولكنه الاتجاه والميل النفسي نحو الجماعة التي تجسد حالته النفسية، فمن يميل إلى التحرر العقلي وحرية النظر والفكر سيُعجب بفكر المعتزلة، ومن لدية التخوف من الخوض في النصوص والقول فيها بما لم يقله السابقون فسيتجه إلى أهل الحديث، ومن يحاول الموازنة بينهما وتقريب وجهات النظر سيتجه إلى الأشاعرة والماتريدية، ومن يَمل من هذا التناطح العقلي، ولا يحب الخوض الفكري في هذه الأمور، وقلبه يجنح إلى الروحانية.. سيتجه إلى التصوف.

وخطورة هذه النزعات كلها تتمثل في:

  1. حالات «الغلو» التي تسبب البغي على المخالفين، والتفرق في الدين، والتحزب شيعًا.
  2. والخروج عن روح الإسلام، وتعاليم القرآن.. عندما يبلغ الغلو مراحله الخطيرة.

قلت لنفسي، وقالت لي:

قلت لنفسي: ألا يمكن أن ينادي مناد من السماء أن الجماعة الفلانية هي جماعة الحق، فالزموها؟

فقالت لي: لقد كان ذلك بالفعل، ألم يُنزل الله كتابه، ويُرسل رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ألم يقل الله تعالى:

{يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً}؟

قلت: بلى، ولكن ما جواب ذلك في القرآن حول هذه الجماعات المختلفة؟

قالت: قوله تعالى:

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} {فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.

فقلت: وكيف نتعامل مع هذه الأفكار والطوائف والعقائد المختلفة؟

قالت: بروح التسامح، والحب، والألفة، ورد الإساءة بالإحسان.. وإياك ثم إياك والبغي سواء بالقول أو بالفعل، وإياك والكذب وشهادة الزور على دين الله انتصارًا للمذهب، وإياك وإدخال السياسة النفعية والخصومات الشخصية في دين الله.

قلت: وإلى ماذا أدعو الناس؟

قالت: إلى كتاب الله، وتعاليم رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بالعدل والإحسان، واِنهَ عن الفحشاء والمنكر والبغي.

قلت: وإذا حكمت وكان لي السلطان، لأي جماعة انتصر؟

قالت: إذا كان لك السلطان فاحكم بالحق والعدل الرباني، ولا تظلم المستضعفين من المسلمين المخالفين لك، ولا تُكره أحدًا على أمر ليس من أصول الدين، وارفع من كرامة المسلم، يكن لك كالبنيان المرصوص، وادع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وإقامة شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحج، وإلى الإحسان في كل شيء، وإن كان لك-أو لجماعتك-من مذهب أو رأي فقل به في إحسان وإنصاف وتراحم وتسامح، بلا عدوان، ولا استطالة، وبلا تمزيق للأمة.

البغي والظلم

إنني أحسب وأظن أن الله تعالى-يوم القيامة-لن يسأل المسلم لماذا تأولت قولي: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} على أنها معية الله، ونصرته، وتأييده، وبركته؟ ولن يسأل المسلم لماذا أثبت لي «اليد» ولم تأولها؟

ولكنه سيسأله: لماذا «بغيت» على أخيك المسلم، ونعته بالبدعة والفسق والكفر لأنه أوَلَ الآية أو أثبتها؟ لماذا ظلمته وشهرت به سواء بالقول أو بالفعل؟ لماذا حرّضت عليه الظالمين؟ لماذا فرّقت الأمة في أمر لم يكن يومًا أصلًا من أصول رسالة الإسلام؟

{وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}

إننا إن عجزنا عن روح التسامح والألفة والمحبة بين أمة الإسلام، فليس أقل من الامتناع عن «البغي» الذي يُفرق الأمة، ويفسد عليها أمرها. ولا نجعل من الخصومات أو الاختلافات الفكرية.. غذاءً وممدًا لروح البغضاء والتعصب والحقد والحسد والغل الذي يحلق الدين كله.

ألغام الفكر الإسلامي

إن في فكرنا الإسلامي ألغامًا مثل ألغام «التأويل والإثبات» ويجب على عقلاء هذه الأمة، نزع فتيل هذه الألغام.. حتى لا يستغلها الأعداء في إذكاء الخلافات بيننا، وتحويل الصراع إلى أن يكون صراعًا مع أنفسنا، نقاتل فيه أنفسنا، ونُخرب به بيوتنا. كمثل الصراع الذي حصل بين «الكاثوليك والأرثوذكس» وكان صراعًا حول طبيعة المسيح اللاهوتية والناسوتية، وها نحن نمضي في طريقهم حذو النعل بالنعل! وإن كانوا هم اليوم أكثر تراحمًا وتسامحًا فيما بينهم؛ حتى يتفرغوا لحربنا.

ولنا أن نتخيل: إخوة من الجزيرة من السلفية، مع إخوة من مصر من الأشاعرة.. يَستعدون لقتال عدو محتل كافر، فعرف هذا العدو أن هناك لغمًا فيهم يسمى «التأويل والإثبات» فزرع فيهم من يُزكي هذه الخلافات، وينميها، وحرّك وسائل الإعلام للنفخ في ذلك.. ثم حصل أن قال إخوة الجزيرة للمصرين: أيها المعطلة النفاة الجهمية. وقال المصريون لهم: أيها المجسمة الحشوية المشبهة. ثم كان في يد كل واحد منهم سلاحه، ثم تخرج الفتوى بأن قتال أهل البدع والمبتدعة مُقدم على قتال العدو المحتل؛ حتى تتطهر الصفوف فلن ننتصر بهذه البدع، وقال الإمام فلان المجسمة كفار، وقال العلاّمة فلان الجهمية كفار!! ولو تمكن المصريون سيسجنوننا كما سجنوا ابن تيمية من قبل.. هيا نقاتل أنفسنا!

ونضرب هذا المثل لنتصور خطورة ومحاولة «تقسيم الأمة» فإذا هي بالفعل طوائف ومذاهب شتى، فكيف إذا تم تقسيم أهل السنة أنفسهم؟! في نفس اللحظة التي يعد فيها العدو خطة «سايكس بيكو» جديدة لتقسيم المقسم، وتفتيت المفتت؟!

وإن طغاة هذه الأمة لا يعنيهم كونك أشعريًا أو سلفيًا أو صوفيًا أو حتى ملحدًا.. كل ما يعنيهم هو «توظيف الدين» في خدمة عروشهم، وشرعنة بغيهم وظلمهم؛

وتحرير الأمة من الطغاة.. وإعادتها إلى سبيل الرشاد، هو ما يجب أن يشغل بال المسلم أيًا كان مذهبه.

أحمد طه

كاتب ومهتم بالشأن الإسلامي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى