تحية لكل المغتربين الذين سعوا لأرزاقهم بعيدا عن الوطن!

لم أرتب لكتابة هذا الموضوع الآن، لظرف معين أو واقعة حدثت، وإن كان المضمون متكرر، لكني كتبته نظرا لوجودي خارج البلاد للعمل، فقد ثارت في ذهني بعض التساؤلات قد يكون نتيجتها التعامل مع أصحاب المؤسسات الذين يتعاملون مع الموظفين عندهم كعبيد، بعد أن فسروا بناء على فتاوى وتفسيرات شيوخهم الخاطئة حديث النبي ‘‘ليس منَّا من خبب امرأة على زوجها أو عبدًا على سيده‘‘ بأن هذا أيضا ينطبق على العمال والموظفين.

لذلك قبل أن أوجّه تحية لكل المغتربين الذين سعوا لأرزاقهم بعيدا عن الوطن، لعل في هذا سعة وبركة وزيادة في الرزق، ولعله ينطبق عليهم قول الله تعالى “وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً‘” سورة النساء.

من الطبيعي، أن تراودنا أحلامنا دائما بالثراء والغنى ومحاولة تغيير الواقع للأفضل، وهذه كلها أحلام مشروعة في ظل الأزمات المستعرة التي تمر بنا ليل نهار، والواقع الاقتصادي المؤلم الذي نحياه، والظروف الصعبة المتلاحقة التي حتما ولابد أن تمر على كل منا.

كيف تفكر في التمتع بسماء وأرض بلادك وأنت في واقع مرير، لا يمكن أن تنفك عنه قيد أنملة، والأدهى من ذلك أنك مهدد وممنوع من الالتحاق بالوظائف، لأنها للأسف مقصورة على رجال الأعمال وأبناء رجال الأعمال ومن على شاكلتهم، فابن الضابط يجب أن يكون ضابطا وابن المهندس يجب أن يكون مهندسا وهلم جرا، وقد قالها وزير سابق في مصر ‘‘نحن الأسياد وغيرنا عبيد‘‘ ولا يحق لابن جامع القمامة أن يكون قاضيا.

تلك المقولة التي انتشرت ضمنيا في جميع القطاعات والمؤسسات والجامعات التي من المفترض أن تُعلِّم معنى المساواة والحرية تسببت في انتحار الطالب بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عبدالحميد شتا منذ 13 عاما.

كانت الكلية بالنسبة لـ«شتا» وسيلة وليس غاية، إذ قرر بعد تخرجه تحضير رسالة ماجستير موضوعها «دور المحكمة الدستورية في الإصلاح السياسي»، وفي خضم كل ما سبق لم ينسَ «شتا» يومًا حلمه ولم يشغله عنه شيء، وظل يتجاوز الخطوات واحدة تلو الأخرى بنجاح وتفوق حتى يكون مؤهلًا جيدًا للتقديم في اختبارات السلك الدبلوماسي ورغم تفوقه اللافت للنظر وتمكنه من الحصول على أعلى الدرجات.

تقدم للحصول على وظيفة ملحق تجاري وتفوق على كل أقرانه وتجاوز كل الاختبارات التي استمرت عاما كاملا واجتازها، وفي 2003، ذهب الشاب ليرى اسمه في كشوف التعيين، ووجد «عبدالحميد» اسمه بالفعل، وكانت النتيجة: «عبدالحميد شتا، مرفوض»، وفي الخانة المقابلة – كانت اللجنة تتسم بالشفافية المفرطة على ما يبدو- فكتبت: «غير لائق اجتماعيًا» وكانت النتيجة الحتمية والرد على هؤلاء هو ‘‘الانتحار‘‘.

كذلك، كيف تقيم في وطنك وأنت بالكاد تحصل على قوت يومك؟ وإن مرضت فلن تجد من يعالجك؟ لماذا أستمر في الكد والتعب في وطني، وأنا أدفع ما يقرب من نصف راتبي على الإيجار وعلى الكهرباء وأسطوانة الغاز؟ وفي الوقت ذاته لا أستطيع أن أحصل على شقة من شقق الإسكان الاجتماعي فضلا عن المتوسط؟ لماذا لا يجد أكثرنا وظيفة تناسب تعليمه؟ ولماذا تحاول الدولة أن تجعلنا نندم على الكليات والجامعات التي تخرجنا منها؟.

أخبرني صديقي الذي تخرج من كلية الإعلام معي، أنه كان يسعى بكل ما أوتي من قوة أن يُعيّن في أحد موانئ البلاد كفرد أمن، وأخبرني أنهم قبلوا خريجي الدبلومات الفنية، ولم يقبلوه، على الرغم من دراساته الجامعية، الأمر الذي جعله يائسا من العمل أو حتى الإقامة في وطنه.

نعلم أن كثيرا من بلادنا تمر بأزمات اقتصادية، لكن ألن تحل هذه الأزمات؟ وهل كتب علينا أن نتحمل أوزار غيرنا؟ وهل نسبة الفقراء لن تتحسن للأفضل؟ وهل يجب أن نظل هكذا طبقتين طبقة الأغنياء التي توغل وتوحش غناها، وطبقة الفقراء المعدومين؟ ألا يوجد حل وسط، وهل سيظل القابعين تحت خط الفقر والفقراء هكذا دائما؟.

لذلك لا أمانع أن يسافر الشباب، وأن يهاجروا للخارج، حتى لو كان حالهم غسل الأواني والأطباق كصديقي الذي يعمل في إيطاليا، لأنه بلا شك سيتعلم وسيبحث عن الأفضل وسيصل عاجلا أم آجلا وسيتغير حاله للأفضل، والله يقول «إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا»، خاصة أننا في بلدنا وصلنا لأفضل درجات التعليم، لكننا فقدنا فرصة الوظيفة التي تناسبنا والتي من المفترض أن تكون سببا في انتشالنا مما نحن فيه.

وأكره في الوقت ذاته من يتحدث دائما عن الولاء وعن حب الوطن ويلومنا أن نعبر عن ما يخص حالنا وأحوالنا وما يجول بخواطرنا عن ما نتمناه لبلادنا، لذا أقول اصمت! فلست أكثر منا حبا للوطن، ولست أكثر منا ولاء له، لكنك تتكلم من برج عاجي، ولا تشعر بغيرك.

في النهاية، ما يعبر عن حالنا وحال كل المغتربين في بلاد الله الواسعة، قصيدة للشاعر فاروق جويدة، والتي ضرب فيها مثلًا برجل، سافر ليبحث عن رزقه لأنه لم يجده في بلده، وعندما اشتاق للعودة، مات على حدوده غرقا، فقال الشاعر على لسانه:

أنـا من سنين لـم أره

لـكن شيئا ظـل في قـلـبي زمانا يذكـره‏..‏

***

عمي فرج‏..‏

رجل بسيط الحال

لم يعرف من الأيام شـيئاً

غير صمت المتـعبـين

كنـا إذا اشـتدت ريـاح الشك

بين يديه نـلتمس اليقين‏..‏

كـنا إذا غـابت خـيوط الشـمس عن عينـيه

شـيء في جوانحنـا يضل‏..‏ ويستكين

كنـا إذا حامت علي الأيام أسراب

من اليأس الجسور نـراه كـنز الحالمين‏..‏

كـم كـان يمسك ذقـنه البيضاء في ألم

وينظـر في حقول القـمح

والفئـران تـسكـر من دماء الكـادحين

***

عمي فـرج‏..‏

يوما تقلـب فـوق ظـهر الحزن

أخـرج صفحة صفراء إعلانا بـطـول الأرض

يطلب في بـلاد النـفـط بعض العاملين

همس الحزين وقـال في ألم‏:‏

أسافر‏..‏ كـيف يا الله

أحتمل البعاد عن البنية‏..‏ والبنين ؟‏!..‏

لم لا أحج‏..‏ فـهل أموت ولا أري

خير البرية أجمعين‏..‏

لم لا أسافر‏..‏ كلـها أوطـانـنـا‏..‏

ولأنـنـا في الهم شـرق‏..‏ بيننا نسب ودين‏.‏

لـكنه وطـني الـذي أدمي فـؤادي من سنين

ما عاد يذكرني‏..‏ نـساني‏..‏

كـل شيء فيك يا مصر الحبـيبة

سوف يـنسي بعد حين‏..‏

أنا لـست أول عاشق نـسيته هذي الأرض

كم نـسيت ألوف العاشقين‏..

***‏

عمي فرج‏..‏

قـد حان ميعاد الرجوع إلي الوطـن

الكـل يصرخ فـوق أضواء السفينة

كـلـما اقـتـربت خيوط الضوء عاودنا الشـجن

أهواك يا وطني‏..‏

فلا الأحزان أنـستني هواك ولا الزمن

عمي فرج‏..‏

وضع القميص علي يديه

وصاح‏:‏ يا أحباب لا تتعجبوا

إني أشم عبير ماء النـيل فوق الباخرة

هيا احملـوا عيني علي كفي

أكاد الآن ألمح كل مئذنة

تطـوف علي رحاب القاهرة.

هيا احملوني

كـي أري وجه الوطـن‏..‏

دوت وراء الأفق فرقـعة

أطاحت بالقـلوب المستـكينة

والماء يفتـح ألف باب

والظـلام يدق أرجاء السفينة

غاصت جموع العائدين تناثـرت

في الليل صيحات حزينة

***

عمي فرج‏..‏

قـد قام يصرخ تـحت أشـلاء السـفينة

رجل عجوز

في خريف العمر من منكم يعينه

رجل عجوز ….آه يا وطني

أمد يدي نحوك ثم يقطعها الظـلام

وأظل أصرخ فيك‏:‏ أنقذنا‏..‏ حرام

وتسابق الموت الجبان‏..‏

واسودت الدنيا وقـام الموت

يروي قصة البسطاء

في زمن التـخاذل والتنـطـع والهوان‏..‏

وسحابة الموت الكـئيب

تـلف أرجاء المكـان

***

عمي فرج‏..‏

بين الضحايا كان يغمض عينـه

والموج يحفر قبره بين الشـعاب‏.‏

وعلي يديه تـطل مسبحة ويهمس في عتاب

الآن يا وطـني أعود إليك

تـوصد في عيوني كل باب

لم ضقـت يا وطني بـنـا

قد كـان حلـمي أن يزول الهم عني‏..‏ عند بابـك

قد كان حلمي أن أري قبري علي أعتابـك

الملح كفـنني وكان الموج أرحم من عذابـك

ورجعت كـي أرتاح يوما في رحابك

وبخلت يا وطني بقبر يحتويني في ترابك

فبخلت يوما بالسكن

والآن تبخـل بالكفـن

ماذا أصابك يا وطـن‏..

سيد عيسى

مصري المولد عربي الهوية... متغرب في بلاد الله أعشق السفر أحب القراءة وأهوى الأدب وأستمع… المزيد »

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. اولا يجب ان ندرك السبب الجذري لهذه المشكلة مهما كانت معقدة ويجب ان نجد حلا مهما كان صعبا وقاسيا وبالتالي يحتاج للتضحيات. حتى لا نقاسي هذه الالام جيلا بعد جيل.

  2. لكن ما هو تعريفك للوطن ؟ هل هي قطعه الارض المحددة على الخريطة ؟! الانتماء الحقيقي لا يكون على حدود وهمية ! ولماذا يجب اصلا ان يكون لديك انتماء لقطعه دون الاخرى ! اليست كلها بلاد كبعضها ! فماذا يفرق هنا عن هناك !

    1. نعم صدقتي هذا هو المفهوم الشامل للوطن احييك عليه، لكن حتى المفهوم الصغير ومعنى الانتماء للمكان الذي ولدت فيه ورد ذكره في السنة وفي التاريخ ، قال النبي عند هجرته مكة الى المدنية انك احب بلاد الله الي ولولا ان اهلك اخرجوني ما خرجت وكانت الحروب التي قام بها المسلمون قديما يقول القائد فيها لجنود عند التراجع، وكبس العدو عليهم تميزوا حتى نعلم من اين نؤت اي كل قبيلة تحارب جنبا الى جنب وهذا يقوي العضد ويشحذ الهمم، ولو قرات كتاب الدكتور أحمد عادل كمال الطريق الى المدائن لعلمتي ان تقسيم الجيوش ووضع الميمنة والميسرة والقلب كانت تتم بناء على تقسيم وضع القبيلة نفسها في الجزيرة العربية، نعم نحن المسلمين نحب ارض الاسلام جميعا وعلى الرغم من سخط بعضنا مما يحدث بها، لكن هذه القطعة التي ولدت بها وعشت فيها أحن اليها … شكرا لمرورك الكريم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى