رسالة إلى السجين الحر!
الحمد لله الذي قضى بأن مع العسر يسراً، والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة وبشرى، وعلى آله وأزواجه، ورضي الله عن صحابته تترا، أما بعد،
إليك أيها الحر الأسير أكتب تلك الكلمات والحروف، فلا تستهن بها، فالله وحده يعلم ما وراءها من لحظات قاسية، ومن محن حامية، تشابه محنك ومعاناتك، فرج الله عنك وعنا، إنها ليست مجرد مواساة مني إليك، ولا هي تسلية عابرة أهوّن بها عليك، بل إنها نصائح غالية ثمينة قد تغير مجرى محتنك بالكامل، خرجت من رحم تجربة لي سابقة في سجون الطغاة، لم تكن تجربة طويلة لكنها كانت ثمينة، فقد أثقلتُها بتجارب غيري خلف تلك القضبان الحديدية، كم كنت حريصا على الاستفادة من كل فرد فيهم، جديداً كان في السجن أو قديماً، وقد مرت أيام تلك المحنة وتلاها ما تلاها، حتى ابتليت بمحنة أخرى أعيش اليوم أجواءها، إنها محنة “المطاردة” ومع شدتها وقسوتها، وتقلب المآمن والمخاوف فيها إلا أنني لا أعدل ببلاء “السجن” شيئاً، فاللهَ أسأل أن يعظِم لك بهذا البلاء العظيم الأجر والفضل في الدنيا والآخرة.
وقد قصدت بهذا المختصر وبتلك الكلمات والحروف المتناثرة أن تعلم خطورة الثغر الذي أنت واقف عليه وأن تنتبه فيه لنفسك جيداً، فأنت في منحة ظاهرها محنة، وفي كرب يكمن في بطنه الخير، ولكن هذا لن يتحقق إلا بأفعالك أنت، فغداً سينفرج البلاء حتماً ولابد، ولكن سيبقى لك أفعالك في هذه المحنة الزائلة وعليها سيترتب كل شيء لك في الدنيا وفي الآخرة!
برقية مهمة
اعلم أن للغائبين – شهداء كانوا أو أسرى – أثراً على المشاريع قد يكون أنفذ وأقوى وأكبر من الحاضرين، وكم من فكرة علت وارتفعت بموت أصحابها لا بحياتهم، وكم من دعوة انطلقت بين الناس بسجن أصحابها لا بحريتهم، فسنة الله قد اقتضت أن المشاريع والأفكار والدعوات أوزانها بأوزان التضحيات التي تبذل من أجلها، نعم إن التضحيات ليست محصورة في الشهادة أو الأسر، إلا أنهما التاجين الأبرز على رؤوس المضحين، فبلاء الفراق صعب شديد، وإن الشهيد إذا كان بلاؤه ينتهي بموته حيث يبدله الله خيراً مما فارق، فالأسير على عكسه يبدأ بلاؤه مع أسره ويمتد حتى يكتب الله له الفرج، فاللهم فُك أسر المأسورين وكن لهم برحمتك يارب.
إن الذي يظن أن دماء الشهداء وأعمار الأسرى يمكن أن تضيع هباء فهو واهم، سيء الظن بالله، لا يفقه شيئا من سننه، إنها الأمل الأكبر حين يتملك اليأس من القلوب، وإنها البشارة العظمى إذا ضاق الأمر واشتد، مادام ذلك لله وفي سبيله وعلى منهاجه، ومادام الثبات هو سيد الموقف، فعدم الثبات يضيع كل ذلك هباء! إن القاعدة الكونية والشرعية والربانية والتاريخية أثبتت ومازلت تثبت أن للأفكار رصيداً تنفق منه، هذا الرصيد ببساطة هو بذل وتضحيات أصحابها، فالأفكار تعيش بأرواح من ماتوا في سبيلها وتغتني بأموالهم وتتحرر بسجنهم، هذا غير أجرهم في الآخرة.
أيها السجين الأسير .. إن لسجنك أثراً في الدنيا قبل أن يكون لك أجراً في الآخرة، حتى ولو لم تشهد أنت ذلك الأثر في حياتك، إن كل ثانية أنفقتها وتنفقها من عمرك في ظلمات السجون وخلف أسوارها قد تحولت إلى رصيد دعوتك وفكرتك وقضيتك، إن الناس حين تعلقت قلوبهم بالماديات صاروا لا يستشعرون أي أثر للشهادة أو الأسر في سبيل الفكرة، وذلك لأن أثر الشهادة أو الأسر رباني لا بشري، تقتضيه أقدار الله المحضة بدون تدخل من الخلق، والطغاة المخضرمون يعلمون أثر دماء الشهداء وأعمار الأسرى عليهم وتهديدها لوجودهم، هل سألت نفسك لماذا يحرص الطغاة دائما على أن يتراجع الأسرى داخل السجون عن أفكارهم؟ لماذا يضغطون عليهم كي يعلنوا انتكاسهم واعتذارهم وتغيير مسارهم؟ نعم إنهم يعلمون أن ثبات هؤلاء الأسرى يهدد ملكهم الواهي، فاثبت أنت على ثغر!
أقول ذلك لتنتبه لكل لحظة في سجنك، إياك أن تستشعر أنك مجرد شخص محبوس وراء الشمس وخارج التاريخ!! أنت في عمق المعركة، وفي قلب التاريخ، ومكانك هو الشمس التي سيبصر بها كل حر طريقه، ولهذا السبب حرصت أن تكون تجربتك صافية ناصعة لأن تقصيرك في ثغرك سيضيع كل شيء، ونجاحك في بلائك سيمتد أثره للخارج حتماً ولابد، حتى لو استشعرت أنك لا أثر لك!
رسائل خطيرة
لقد قلت كل ما فات تهيئة لما هو قادم، إن هذه الرسائل العاجلة التي سأضعها بين يديك هي التي كتبت هذا “المختصر” من أجلها، فخذها بمحمل الجد، إن عدم التنبه لتلك الرسائل قد يكون عاقبته وخيمة جدا وقد شهدت بنفسي ذلك، وإن استحضارها والتنبه لكل معانيها قد يغير في الأحداث كلها مجراها، ليس في سجنك فقط بل وفي الخارج، فانتبه!
1- ثباتك
قلنا أن الطغاة يؤرقهم ثبات الأسرى في أسرهم، كما يؤرقهم جهاد المجاهدين ضدهم، ولذلك صار شيئا محفوظا ونهجا مستمرا لهم أن يسعوا للضغط على الأسرى لتغيير أفكارهم وتبديلها والتراجع عنها، يستخدمون الترهيب والترغيب، يحاولون أن يبتزوا الأسير لأقصى حد ممكن حتى يقول ما يريدون له أن يعلنه متراجعا عن أفكاره، فاحذر أن تنخدع بما يزينوه لك خاصة إذا كنت صاحب دعوة لك كلمة مسموعة، فإن تراجعك لن يغير أقدار الله شيئا، لكن سيخسرك كل ما جنيته من أجر، وما جنته فكرتك من أثر ورصيد، اثبت حتى النهاية، والله سينفرج البلاء في يوم، هذا وعد الله الذي قال: (إن مع العسر يسرا) ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال: (واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب)كل وعودهم سراب، ووعد الله فقط هو الصادق، فاختر بين موعود الله وموعودهم!
وهنا أوصيك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم :- ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، ولا تستهن بقضية الثبات، فإن الانتكاس وترك طريق الحق هي آفة السجون الأولى فاحذرها، واعلم أنك إن ثبت أمام محنة السجن فأنت أمام غيرها أثبت، وإذا فُتنت في تلك المحنة فلن تتركك الفتنة حتى تترك دينك كله، وكم شاهدنا بأعيننا ذلك، والله المستعان
2-قضيتك ليست الخروج من السجن، قضيتك هي ما سُجنت من أجله
أحيانا يضيق أفق السجين وفكره حتى يصبح عقله لا يتجاوز حدود سجنه، فتراه غير منشغل إلا بخروجه ووضعه الشخصي، تخفت شعلة قضيته الأولى التي سُجن من أجلها يوما بعد يوم، بينما تبدأ قضية أخرى في الاشتعال وهي قضية: (الخروج من السجن)، إنها قد تصبح العنوان الأكبر لقضيته وتحتها تفريعات أخرى من قضايا شخصية كثيرة لا تتجاوز أسوار سجنه، بل أحيانا تقف قضاياه كلها ومشاغله عند باب زنزانته لا تتجاوزها!
لاشك أن الحرية فطرة بشرية بل فطرة فُطرت عليها المخلوقات كلها، ولا شك أن نفس الحر ستظل تطوق للحرية وتنتظرها، إلا أن الحرية لا تعني أبدا مجرد الخروج من سجن الطغاة الصغير والدخول في سجن آخر أكبر قليلا، الحرية لا تكتمل مادام للطغاة الكلمة النافذة ومادامت مبادئ الحر وقضيته مُداس عليها بالأقدام حتى ولو لم يكن في السجن، لا شك أن السجن الكبير أهون من الصغير إلا أن الحر لا يهدأ له بال ولا يقر له القرار حتى تكتمل حريته كلها
تذكر أيها الحر أنك قد سُجنت لأجل قضية كبرى لا يجب أن يزيدك السجن إلا استمساكا واهتماما بها وتحسينا لها ووضوحا وتنقية وتصويبا لفحواها، أما أن تنساها بمجرد سجنك لتصبح قضيتك هي الخروج من السجن وفقط، أو تصبح غير مهتم سوى بما وراء تلك الأسوار من لذائذ ونسمات فلست حرا، إن الحر لا تختلف قضيته ولا تتبدل مهما اختلف حاله، فقضيته في الأسر كقضيته خارجه، لأنه يعرف بوضوح ماذا يريد، وحتما بإذن الله سيكون ما يريد، فالدنيا لا تلين إلا للأحرار، أما العبيد فأيامهم معدودة وإن طالت!
وهنا أوصيك بقراءة كتابنا “معركة الأحرار” إن وجدت إليه سبيلا فسيكشف لك كثيرا من جوانب القضية وحقيقتها.
3-رب الأسباب قبل الأسباب
السجين مسلوب الإرادة يتحكم حابسوه في كثير من أمره، هم الذين يحددون أقصى مدى يمكن أن يتحرك فيه، ويحددون متى يدخل زنزانته ومتى يمكن أن يخرج منها، يحددون متي يمكن أن يزوره أهله ومتى لا يمكن، ويحددون ماذا يأكل وماذا يشرب، بل وأحيانا يحددون ماذا يلبس؟مشاهد من التحكم والاستبداد يراها السجين كل يوم بل كل لحظة، هذه المشاهد للأسف قد تورث في قلب السجين وعقله شعورا بالعجز التام أمام ما يريده السجّانون، يتطور هذا الشعور ليصل الى الحد الذي قد ينسى السجين فيه أن الأقدار كلها بيد الله، وذلك لأن السجين في هذه المساحة الضيقة محجوب عن رؤية كل شيء إلا الأشياء التي يريدها السجانون، وللأسف مع كثرة التعامل مع مقادير البشر قد ينسى العبد مقادير الله، بل وينسى أن مقادير البشر هي جزء من أقدار الله تعالى، وتلك أكبر آفات السجون وأخطرها، فالسجن قد يقتل التوكل على الله إذا لم ينتبه السجين لذلك.
ولذلك ذكر نفسك دائما أن الله عز وجل هو الذي يقدر الأقدار ويسيرها، وهو الذي ابتلاك بهذا البلاء الذي أصبح فيه بعض العباد متسلطين عليك، إن أقصى ما يستطيعون فعله فيك هو قدر الله الذي يقدره، فمشيئة الله هي النافذة، فالجأ إليه وتضرع، وأره من نفسك ثباتا ويقينا ورضا، وأخبره كل حين في مناجاتك ودعائك أنك راض عن أقداره غير ساخط، وأنك تتلمس رحماته ورضوانه، وأنك تعلم أنه لن يكلفك بشيء لا تطيقه، أحسن الظن به واعلم أن الدنيا كلها اختبار وابتلاء، وأنها لا تصفو لأحد، وأن الله إذا أحب قوما ابتلاهم وألهمهم الرضا، وفي كل الأحوال لا يدوم بلاء ولا يستمر، حتما ستزول الشدة وينكشف الكرب ويبقى ما كان من فعل العبد، فمن كان راضيا حينها محتسبا فله الرضا، ومن كان ساخطا من قدر الله متذمرا فله السخط!
إن الله هو الذي كتب ميقات دخولك إلى السجن وهو الذي كتب موعد خروجك منه، فهو الذي يقضي بحكمته ما شاء، وقد شاهدنا كثيرا في السجون كيف يأتي الفرج حين تنقطع الأسباب تماما، وحين يصفو قلب العبد من التعلق بأي شيء غير الله تعالى، فامنع نفسك تماما من التعلق بغيره – سبحانه – ولا تنتظر فرجا إلا منه، ولا تتسى أبدا أن الأقدار كلها بيديه
كذلك من الأمور التي تنتج من ضعف التوكل وتمثل ضغطا نفسيا كبيرا على السجين هو اهتمامه بأمر أهله، ومعاناتهم، بل أحيانا لا يكون على السجين ضغط غير ذلك، فعلى السجين أن يعلم أن الله كفيل بهم، وأنه لو كان بالخارج معهم فلن يزيدهم شيئا إلا بقدر الله، فبلاؤهم قدر من الله لهم كما أن سجنه قدر له، فليوكل أمرهم إلى الله وليعلم أنه خير حافظ لهم، وليعلم أن الله أفضل لهم منه، فليس وجوده هو الذي سيرزقهم أو ينزل عليهم رحمات السماء، وليعلم أنه حين سُجن في قضية حق فقد صار كل أمره بيد مولاه، فكيف يخاف العبد على شيء صار في يد ربه، فلتحسن الظن بربك فإنه أرحم وأكرم وأعظم من أن يسوءك في أهلك، فلتحتسب الأجر لك ولهم ولتعلم أن الفرج لهم قريب كالفرج لك، ورحمات الله لا تفارق ابتلاءاته، كما أن الله يختبرك بهذه العاطفة تجاه أهلك ليرى مدى حبك له مقارنة بحبك لهم، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
4- لا تترك فرصة للاستفادة
لم ينته المطاف! مازال هناك الكثير والكثير، وأنت لا تعلم على أي شيء ستُقبل، لا تجلس حبيس مكانك تنتظر فرجا أو موتا، بل أعد ترتيب نفسك، ونسق حساباتك، تحرك بحسب ما تستطيع، من لا يعرف فكرتك وقضيتك فعرفها له، لو وجدت فرصة للكتابة فاكتب، ولو عندك سبيل للنشر فانشر، ومتى وجدت من يعلمك شيئا فاستفد منه، ولو لم يتيسر لك أي شيء من ذلك ولم تجد من تتبادل معه النفع مطلقا، فاعلم أنك في سجنك وفي أي محنة في حياتك لا يمكن أن تخطئ واحدة من هذه الثلاثة:-
١- أن تتعلم شيئا جديدا لم تكن تعلمه حتى بدون معلم، فالشدائد وحدها تُعلّم، والمحن تكشف، وكم من معاني للحق لا تظهر إلا حين البلاء، وأوصيك بكثرة التأمل ليتحقق لك ذلك.
٢- أن تكتسب صفة حسنة وخلق لم يكن عندك، ومثله أن تتخلص من صفة سيئة كانت فيك، فالسجن هو وضع إكراه قد يعينك على إجبار نفسك على أشياء لم تكن تقدر عليها في العافية.
٣- أن تكتسب حسنات تلقاها في آخرتك بالقرآن والذكر والصلاة والدعاء والاحتساب والصبر وسائر أنواع العبادات القلبية والبدنية، وللحسنات أثر يعين على البلاء، فهي تضيء القلب وتنير البصيرة وتجعل لك رصيدا عند ربك مما يسهل عليك الثبات ويقرب الفرج ويقلب محنتك منحة(ومثل اكتساب الحسنات زوال السيئات، فالبلاء يغسل العبد من الذنوب، ولا تنس مع ذلك دوام الاستغفار)
إن الأوقات تمر في السجن سريعا – بعكس ما يظهر – فلا تخسر قدرا من عمرك بلا استفادة، حاول أن تستفيد في كل لحظة، فما يدريك لعل الله يعدّك لشيء عظيم وسجنك هو مقدمة له، فكم ربت هذه الجدران رجالا صنعوا التاريخ!
5-العقل قبل العاطفة
من أشهر ما يصيب السجناء هو ما أسميه “التضخم العاطفي”، إن نفسية السجين عامة لا تكون كنفسيته في حالته الطبيعية، احتجاب السجين عن الدنيا وقلة الشواغل داخل سجنه تجعل السجين لا يجد شيئا يروّح به عن نفسه غير التنقل داخل ذاته، إن السجين لا فسحة له تضاهي فسحة التفكير، ولكنه ليس كتفكير الشخص الطليق الذي تحيطه الشواغل من كل جانب، ولكن تفكير السجين هو السباحة في بحار الذكريات، تلك البحار التي ما أن يسبح فكر السجن فيها حتى يجد نفسه بين أمواج متلاطمة، إنها أمواج العاطفة، وما أدراك ما أمواج العاطفة؟! ،، أمواج لا تستطيع أن تقاومها، تأخذك كيف شاءت يمنة ويسرة، وترفعك تارة وتخفضك أخرى، لتجد نفسك قد دخلت في حالة من غياب الوعي الكامل لا تستفيق منها إلا حين يستشعر لسانك ملح دموعك التي تدفقت من عينيك بدون إرداة منك وكأنها قطرات من البحار التي كنت تسبح فيها بفكرك، إنها لحظات تتكرر، وكلما تكررت تركت في القلب جرح غائر، حتى يصير القلب متوهجا من كثرة جروحه، وهذا هو محل الشاهد، إن للسجين قلبا متوهجا بالجراح تجعل العاطفة هي الغالبة على حاله، وأعني بالعاطفة الشعور الوجداني عامة من شوق أو غضب أو حب أو كره أو غير ذلك، وإذا لم ينتبه السجين لذلك لربما حسب كثير من الأمور بعاطفته لا عقله، فيقع في أخطاء كبيرة، فكثير من الأفكار المنحرفة والضالة لم تخرج إلا من بطون السجون، فلا ينبغي أبدا أن يستسلم السجين لعاطفته، وليجعل عقله الحاكم دائما، لا يفعل شيئا ولا يتعقد اعتقادا ولا يزن الأمور إلا بعقله، وليوجه عاطفته لله تعالى واللجوء إليه والاستعانة به والصلاة بين يديه.
إن عاطفة السجين تصل إلى الحد الذي يجعله مشتاقا للخارج بكل تفاصيله، شدائده .. لذاته .. معاناته .. راحته .. إنه يتذكر كل شيء بالخارج فيشتاق إليه، عاطفة السجين تفقده كثيرا من اتزانه، إنها نقطة الضعف الكبرى والمدخل الذي يدخل منه الطغاة إليه، فإذا لم تنضبط ربما لم يستطع الثبات ولا الاستفادة من سجنه كله، إنها قد تضيع قضيته كلها وتبطل أجره وتجعل ما مر من أوقاته هباء، فحاول أن تحكم عقلك ما استطعت وألا تترك للعواطف القياد مطلقاً.
6- لست ذليلا
لا شك أن هذا هو بلاء الحر الحقيقي، فحر النفس لا يبكي على لذائذ وشهوات، ولكنه يتقطع من داخله كلما شعر بالقهر أو باستبداد الحقراء عليه، لا شك أنه بلاء وقد استعاذ منه سيد الورى حين قال: (وأعوذ بك من قهر الرجال).
وهذا الشعور المؤلم هو جزء من البلاء الذي يختبرك الله به ليعلم هل نفسك عندك أعز عليك من رسالتك وقضيتك، هل هي أكرم عندك من الحق والدين، اعلم أن الله قد اشترى منا أنفسنا، وشراؤها لا يعني فقط الموت في سبيله، ولكن بيعك لنفسك لله يكون باستعدادك لقبول كل شيء يحدث لك في سبيله، فلا تعز نفسك ولا تكرم على الله، بل كل ما كان لله هان، ووالله كما أن ريح فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك حتى ولو رآها الناس كريهة، فكذلك أنت عند الله أعز وأكرم وأعلى من أولئك العبيد الذين طأطؤوا رؤسهم للكفر أو للظلم أو للطغيان، أنت الحر لا هم، أنت الأعز ولو كانوا في سيارات فارهة وقصور متسعة، وللحساب يوم يعرف كل شخص فيه قدره الحقيقي.
إياك إياك أن تأخذك حسرة على نفسك في ذلك، فالحسرة والله على العبيد الذين رضخوا لهم وهم طلقاء لا عليك، أنت لم تدخل إلى هذا المكان بقدر الله إلا لأنك عزيز حر، وهم لا يريدون إلا العبيد لكي يسبحوا بحمدهم ليل نهار، والله لوجودك خلف القضبان دليل على قوتك وضعفهم، إنهم يخافون من أثرك فحاصروك بالأسوار.
وقد ورد في الحديث أن نبي الله إبراهيم أول من سيُكسى يوم القيامة، قيل: لأنه عري على الملأ حين ألقوه في النار، فهل نقص قدر إبراهيم بما فعلوه فيه؟ كلا والله بل زاد فهو الكريم خليل الرحمن كما لا يخفى عليك ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء هو وأصحابه حتى وضعوا أحشاء وأمعاء الذبيحة على ظهره وهو ساجد وصاروا يتبادلون الضحكات عليه، وغير ذلك الكثير مما تعرض له الصحابة، قد يراها قاصر النظر إهانات تقلل من قدرهم، إلا أنها كانت المواقف التي صنعتهم وأعلت قدرهم عند الله وجعلتهم أهلا للنصر بعد ذلك.
ومن أجمل الكلمات قرأتها في هذا الشأن كانت كلمات ابن القيم حين قال:-
يا مخنَّثَ العزم أين أنت ، والطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورُمي في النار الخليل ، وأُضجع للذبح إسماعيل ’ وبيع يوسف بثمن بخس ، ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشر بالمنشار زكريا ، وذبح السيد الحصور يحيى ، وقاسى الضرَّ أيوب ، وزاد على المقداد بكاءُ داود ، وسار مع الوحش عيسى ، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم = تزها أنت باللهو واللعب
7- احفظ لسانك
إذا سُجن بدنك أصبح من الضروري أيضا أن تسجن أنت لسانك ما استطعت! .. إن الذي يحدث غالبا هو أن يترك المسجون للسانه العنان حيث شاء وكيف شاء تسلية لنفسه، وكأنه يعوض بدنه المحبوس! ولذلك تكثر في السجون آفات اللسان بصورة قد تضيع ثواب المرء من سجنه، بل وتضيع وقته وتكثر الضغينة بين المسجونين، احذر من أن تنفق وقتك في القيل والقال، ونقل الكلام وغيبة الناس، واحذر أيضا أن تسلم أذنك لمن يفعل ذلك، فإنك حينها ستضيع وقتك وتكثر همومك وشواغلك وتعظم عداواتك وستخرج من سجنك خسرانا لا فائزا وستكتسب صفات سيئة يصعب التخلص منها بعد ذلك!
كما أنك في يوم ستفيق من هذا البلاء، وستخرج حتما من خلف هذه الأسوار والقضبان حرا طليقا، وحينها عندما تعود لاتزان عقلك وحياتك ستنتدم أشد الندم على ما أخرجته من أسرار ونثرته من كلمات لا طائل منها، فاياك إياك أن تقع في هذه الخديعة، فكم أخسرت الكثيرين، فالخلاصة: كن متزنا جدا خاصة في كلامك واحذر الثرثرة والثرثارين!وهنا أوصيك بشدة بكثرة ذكر الله وكثرة الاستغفار فإن لذلك أثرا كبيرا على حفظ القلب وتعجيل الفرج وتهوين المحنة.
8- قاوم
من أخطر ما يورثه السجن في النفوس هو الانهزام والقابلية للترويض، احذر من ذلك، إن ذهاب بعض حريتك لا يعني أن تفرط فيما تبقى منها، نعم أنت في وضع إكراه ومعذور، والقدرات تختلف، لكن حاول ما استطعت ألا تترك منفذا تستطيع أن تظهر فيه صلابتك وقوتك وتكسر فيها كبرياء ساجنيك إلا وفعلت، فإنك كلما انحيت زادوا ضغطهم عليك لتزداد انحناء، قاوم بحسب ما تعلمه من نفسك من قوة، ولا أقول لك عرّض نفسك لما لا تطيق ولكن اعلم أن ثباتك مقاومة، صمودك مقاومة، امتناعك عن بعض راحتك حفظا لبعض كرامتك مقاومة، كلما وجدت إلى المقاومة سبيلا ووجدت من نفسك قدرة على مواجهة نتائجها فانطلق، ولا تعوّد نفسك على الاستكانة للطغاة والاستهانة بالكرامة وهنا أيضا أنبهك على ألا تجعل من ساجنيك على اختلاف درجاتهم صحابا لك، لا تصالحهم، لا تهادنهم، ليسوا منك ولست منهم، من أعلى رتبة لأدناها، فأعلاهم طاغ جبار وأدناهم عبد لهم، وأنت نفسك نفس حر، وشتان بين نفوس الأحرار ونفوس العبيد.
إلى هذه الكلمات أنهيت ما كنت أود أن أرسله لك وأنصحك به، فإذا وصلتك كلماتي فلا تنساني ووالديّ من دعوة خالصة .. ثبتك الله يا حر وفرج عنك !
شكرا لك