رسالة من سيد قطب

بسم الله الرحمن الرحيم

من العبد الفقير إلى عفو الله سيد قطب، إلى كل من يهمه الأمر؛ سواء من يحبني أو يبغضني، إليكم جميعا أكتب رسالتي هذه… السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد…

لقد كثر القيل والقال، وارتفع اللغط، والأخذ والرد حول شخصيتي وتحديد ماهيتي، وكأنني عفريت من كوكب آخر، وتجاذبت الآراء حول ما جادت به قريحتي، وسطرتها أناملي، ما بين مبغض كاره، يفسقني ويبدعني، يشيطنني، يصفني بجميع النعوت القبيحة، أو يرفع–وبجرأة –على وجهي البطاقة الحمراء، ويخرجني من حظيرة الإسلام، أو يستهزئ بي ويحتقرني، ويزدري أفكاري، وعطائي وبنات أفكاري، وينفر الناس عني!

بينما البعض الآخر يحبني ويشتط في الحب، ويُغالي بعضهم دفاعا وانتصارا، بعدما يرى ويشاهد الهجمة المسعورة عليَّ، وعلى كتبي وتراثي، فيجتهد ليثبت للناس بأن سيد عالم، وعملاق، ومفكر، وشيخ، وإمام، ومجاهد، و… و… وإلى ما هنالك مما يجد من قاموس المديح والتبجيل!

إلى كل الذين قالوا ويقولون: بأنني لست عالمًا شرعيًا، ولست بشيخ، أقول: لقد صدقتم، وما كذبتم، لأنني لم أقل يومًا، ولم أدع ساعة بأنني كذلك! وما ضرني أني لم أتخرج من كلية شريعة، لأن أبا هريرة ومعاذ وابن مسعود وزيد وعلي وعمر وأبا بكر من قبلهم، لم يتخرجوا في كليات الشريعة، وما كانوا بحاجة إلى وابل من الألقاب والأوصاف، تجبر ضعفهم، ينتفخون حين يسمعونها، ويرفعون عقيرتهم إذا دُعوا بها، وصُدر قبل ذكر أسمائهم بسيل من النعوت الجوفاء! وهكذا كان الجيل الذي تربى بين أيديهم ونهل من معينهم وأخلاقهم العِذاب!

ولكنني بحمد الله وفضله تخرجت في مدرسة الوحي بشقيه (الكتاب والسنة) وأكرمني ربي الكريم الودود بنعمة العيش والحياة في ظلال القرآن، ذقت خلالها تلك الرحلة العتيقة طعما لا يوصف، وحلاوة لا أقدر التعبير عنها، وما كان كتابي في ظلال القرآن إلا محاولة مني لكشف طرفٍ بسيط من تلك الحياة، والحقيقة –وكما قلتها مرارا وتكرارا في الكتاب-:

أنني لم أستطع أن أعبر بوضوح ما كنت أعايشه وأشعر به، لأن القلم واللسان عجز عن البوح بكل ما كان يختلج في صدري، ويعتمل في فكري ويَراعي!

نعم تخرجت في تلك المدرسة العظيمة –ولا فخر– تلك المدرسة التي لا تدانيها مدرسة ولا جامعة بشرية، فلله الحمد والمنة، له الحمد في الأولى والآخرة؛ حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.

http://gty.im/452096636

كما أقول لكل من المعجبين بي، وكل من ينتصر لي ويدافعني، ولكن ربما بطريقة لا أرى صوابها وسدادها، ولا طائل من ورائها، إذ كثيرا ما يقابل العنف، واللجاجة، والخصومة الفاجرة!! بأخرى متطرفة مغالية، فيلتبس الحق بالباطل، والمبطل من المحق، أقول لهؤلاء الأفاضل: شكرا، ولكن تمهلوا ما هكذا تورد الإبل، وما هكذا يُنصر حق، أو يُدحض باطل، وأنا لست بحاجة من يستميت ليثبت أني شيخ أو إمام أو … أو… لأنني في غنًى عن ذلك كله، ولست بحاجة إليه.

ولكنني بحاجة ماسة إلى من يدعو لي بظهر الغيب، وينتفع ويأخذ مني نصيحة واحدة: من يوحد مصدر التلقي، ويحصره في الوحي؛ الثابت من الله الذي بلغه رسوله الأمين، والذي أخبر به رسوله، ويعود إلى القرآن، وينهمك عليه انهماك الظمآن على الماء بعد شدة وطول العطش، ويقرأه غضًا طريًا كما أُنزل، ويتمهل ويرتل ويتدبر وكأنه لأول مرة يتنزل عليه الآن! (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)، ويترسم الطريق على هُداه والذي قام بتبيانه وشرحه، وأفاض في بيان معانيه ومراميه سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، تطبيقا وسلوكا، دعوة وجهادا، بيانا وتبليغا، ويعش معه كما عشت معه–أو أفضل وأرقى كما عايشه الجيل القرآني الفريد– فيكون لي بذلك أجر الدال على الخير فقط ليس إلا! ليذوق طرفا مما ذقت حلاوته، ويعايش التجربة الثرية التي عشتها! دعوتي ونصيحتي:

هلموا واستظلوا في ظلال شجرة القرآن الوارفة  الظلال واليانعة الثمر.

هذه حقيقتي وتلك نصيحتي، ورسالتي إلى من يهمه الأمر، فاللهم هل بلغت، اللهم فاشهد! وهناك حقيقة أخرى أريد أن تكون واضحة، كوضوح الشمس في رابعة النهار، وهي أني لست معصوما مبرأً من الأخطاء، بل أقولها صراحة ناصعة بيضاء نقية، بأن كل قول يؤخذ ويرد منه إلا قول الحق تبارك وتعالى وقول صفيِّه وخليله محمد الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم، فأنا كغيري من البشر معرض للزلل والخطأ، فما وجدتم من كلامي مخالفا ومصادما لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا به عرض الحائط، ولا تلتفتوا إليه، وإياكم ثم إياكم أن تعيروا له اهتماما أو تقيموا له وزنا، فأنا أبرأ إلى الله من كل قول يناقض صريح القرآن، أو يخالف صحيح ما جاء عن حبيب الحق صلى الله عليه وسلم.

ثم إنني أودُّ أن أرسل رسائل عاجلة إلى الجهات التالية، فأعيروني القلوب والأسماع جيدا، وفقكم الله إلي خيريِّ الدنيا والآخرة:

إلى علماء الأمة

سلام عليكم يا ورثة الأنبياء، ويا رواد الأمة وقادتها النجباء، يا من أشهد الله بهم على وحدانيته وتفرده بالألوهية والربوبية “شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) (آل عمران: 18-19)، وهذه خصوصية عظيمة لكم أيها العلماء في هذا المقام، فأنتم الأمناء على الرسالة بعد الرسل، وأنتم الشهداء على الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبكم تتحقق خيرية الأمة بتحقيقكم لمقومات الخيرية بحيث “تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله”.

فتنيرون دروب الحيارى والتائهين، وتشعلون منارات يستضيء بها الناس في حالك الظُلَم، وتبينون للناس ما نزل إليهم من ربهم لعلهم يرشدون، ويتذكرون فيخلصون لخالقهم ومالكهم وسيدهم العبادة، ويستلمون له “الاستسلام المطلق للقوامة الإلهية، والتلقي من هذا المصدر وحده في كل شأن من شؤون الحياة، والتحاكم إلى كتاب الله المنزل من هذا المصدر، واتباع الرسل الذين نزل عليهم الكتاب. وهو في صميمه كتاب واحد، وهو في صميمه دين واحد.. الإسلام.. بهذا المعنى الواقعي في ضمائر الناس وواقعهم العملي على السواء. والذي يلتقي عليه كل المؤمنين أتباع الرسل.. كل في زمانه.. متى كان معنى إسلامه هو الاعتقاد بوحدة الألوهية والقوامة، والطاعة والاتباع في منهج الحياة كله بلا استثناء”.

فالله الله يا علماء في هذه الشهادة العظيمة، أدوها كاملة غير منقوصة، واضحة بينة ناصعة، على رؤوس الخلائق والبشرية.

وغني عن التعريف بالنسبة لكم، خطورة الكتمان وضريبة إخفاء الحق، بعد ما بينه الله للناس، وأشهدكم عليه، فاتقوا في هذه الأمانة، وإياكم الانحدار إلى مستنقع الكتمان، والتردي إلى هذا الحضيض العفن، وأضن بكم أن تقعوا تحت هذا الوعيد الرباني الشديد: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .” (البقرة:159-160 )

فهذا نموذج يتكرر في كل زمان ومكان، “ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها ليُنحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيدا عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا… الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة.. أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها-بعد الله -من كل لاعن.

واللعن: الطرد في غضب وزجر، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب. فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان..

إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ..

هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة-نافذة التوبة-يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود القلوب إلى مصدر النور، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه. فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية. وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه. ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول: وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وهو أصدق القائلين.

فأما الذين يُصرُّون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، بزيادة وتفصيل وتوكيد:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا ۖ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (162)

ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح، وتركوا الفرصة تفلت، والمهلة تنقضي، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال: أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ… فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون”.

إلى أمتي المسلمة الحبيبة

كنتم خير أمة أخرجت للناس، الله سماكم المسلمين من قبل على لسان أبيكم إبراهيم الخليل، وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا  وتكونوا شهداء على الناس، وكذلك جعلكم الله أمة وسطا من بين الأمم، ولهذا أدعوكم دعوة الحق تبارك وتعالى الخالدة ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ  ” (البقرة: 208) “إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم… دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة..

وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله ، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام  لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد؛ وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.

http://gty.im/452096542

والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة.  وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء”.

وهناك مسألة جانبية لا أعيرها اهتماما كثيرا؛ لأنها مجرد هراء وافتراء لا يصدقه الواقع، وعارٍ عن الحقيقة، وهي ذالكم الافتراء الكاذب القائل بأن سيد يكفر المجتمعات الإسلامية، أو ينعت أحدًا من المسلمين بعينه بالكفر! سبحانك هذا بهتان عظيم!

ولكنني دائما ما كنت أقول: (إن للإيمان صفات معينة وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وللكفر  صفات وردت كذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن وجد في نفسه صفات الإيمان فليحمد الله على ما أنعم عليه. ومن وجد في نفسه الصفات الأخرى فليرجع إلى الله ويتخلص من الصفات التي تخرجه من الإيمان… وذلك هو مقتضى الحكمة والموعظة الحسنة بالنسبة لأحوال الناس في الغربة التي يعيشها الإسلام اليوم، تلك الغربة التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه: “بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء”)

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

شعيب عبد الرزاق محمد

مهتم بقضايا الأمة، بدينها وثقافتها وتاريخها وواقعها، أخدم أمتي بقلمي بفكري بعقلي، أحمل قلمًا يبني… More »

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. هي رسالة كتبها سيد رحمه الله وتقبله، أم هي من بنيّات أفكار الكاتب مستقاة من رسالات سيد وكتبه وحياته عموماً ؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى