المعيشة في أمريكا الغايات والمآلات

سواء كان المرء متدينا أو غير متدين، ملتزما بتعاليم الإسلام أو غافلا عنها، سنجد أن أغلب المهاجرين لأمريكا إن لم أقل كلهم، توجهوا لتلك البلاد البعيدة جغرافيا وروحيا، لأجل معيشة أفضل ومستوى حياة أرقى، وجمع المال ثم المال ثم المال.

ومنهم من ينشد الشهادات العلمية والوظائف المرموقة والمستقبل المبهر الزاهر الذي يحقق معه صاحبه النجاح والشهرة، ومنهم من يحمل هم تحقيق شيء في بلده، فيخطط للبناء وإرسال الأموال وتوسيع دائرة الأحلام والأهداف.

تصنيف المهاجرين إلى أمريكا

كثيرة هي مشاغل الناس التي تهاجر لبلاد أخرى، وأهم شغل لهم هو تبديد العقبات أمام تقدمهم في مجتمع غربي، وهذا ما يجعلنا نصنفهم لأنواع رأيتها في أمريكا كالتالي:

صنف منبهر بالأمريكان

ويسعى لأن يكون مثلهم، وقد يغير اسمه وينسلخ من دينه وأصله، حين تلتقيه تتعجب من تأثير الحياة الأمريكية في سلوكه وفكره وطريقة معيشته، يصبح لديه الخمر شراب النخبة والزنا لهو محبب لا يضر بل ينفع، هذا الصنف يثير الشفقة فهم يعانون من الانفصام في كثير من الأوقات خاصة حين يأتيهم الابتلاء أو المرض أو المصيبة، تجدهم يحتارون أيفرون لله الذي عبدوه يوما وآمنوا به فيعلنونها توبة، أم يتوجهون لعيادات نفسية ويبلعون الأقراص المخدرة التي تنسيهم واقعهم ويعلنونها انتكاسة وهزيمة، ولا أبالغ إن قلت أن حال هؤلاء في الغالبية يعاني المشاكل النفسية ويعيش على العقاقير المخصصة لهذه الأمراض.

صنف هدفه المال وجمع الثروات والتميز بالغنى

يسعى جاهدا لجمع الدولارات، لا يهم كيف ولكن يهم كم، قد يعمل في أعمال مهينة وقد يوظف زوجته وربما أولاده، كل همه الجمع ثم الجمع، لقد شاهدت من العائلات التي تأكل من فضلات المطاعم العربية فقط لأجل توفير المال لأجل بناء مشروع في بلادهم وكانوا يعدون هذا “نجابة وكياسة وسبق”، لقد شاهدت من كانت يوما تلبس حجابا تنزعه متحججة بقاعدة للضرورة أحكام، كي تحصل على العمل في شركة أمريكية، ولكن الأعجب لماذا تضطر هذه المسلمة لتقصير الثياب لدرجة مريبة، كل هذا لأجل الحصول على وظيفة عمل، لا يمكنني سرد الأمثلة على هذا الصنف المنتشر بكثرة في أمريكا ولكنهم أناس ألفوا الذلة حين لووا أعناقهم للورقة الخضراء واستهانوا بعزتهم وأنفتهم وكرامتهم، لقد شاهدت من يسجل في برنامج الكفالة الأمريكية، ويحصل منهم على المساعدة الشهرية في حين يعمل بالخفاء وفي السوق السوداء لتوفير مبالغ أكبر، وحين يستجوبه المسؤولون في برنامج الكفالة هل وجد عملا؟، هل استقر وضعه وتوظف؟، تجده يراوغ ويستكين ويبرز ذلته أمامهم كي يوهمهم أنه لا زال بحاجة لهم، في حين يكدس الدولارات في خزانة غرفة نومه ويخشى أن ينكشف أمره فأي ذلة هذه، وغالبا من ينتهي الحال بهذا الصنف بتحقيق أحلامهم في بناء البيت وإطلاق المشاريع والنجاح المالي في بلادهم ولكنهم يفقدون مع ذلك أصالتهم وأخلاقهم وعزة نفسهم، فتجدهم قد ألفوا الاستكانة للعمل، يبرزون قوتهم أمام أبناء بلدهم ولكن أمام الأمريكان فلن تجد مثل الخضوع والانقياد!.

http://gty.im/167447664

الصنف العلمي

صنف آخر التقيته يحمل هم العلم، يعيش بما يسر الله له من مال، ولا يتكلف المظاهر ولا يلهث خلف جمع الأموال، ويأبى العمل في وظائف مهينة أو لا تليق بمقامه العلمي، هذا الصنف يعشق العلم وينبهر بالمتعلمين والباحثين الغربيين وقد برز الكثير من المسلمين في الجامعات بنباغتهم واجتهادهم بشكل يثير الإعجاب ولكنها طاقات التقفتها الهيمنة الأمريكية ولم تتركها تائهة أو بلا هدف، لقد أشبعت همتها ووفرت لها جميع السبل والتسهيلات للعمل والبذل في سبيل أمريكا أولا، لهذا نجد هذه الطبقة مرتاحة في معيشتها لا يهمها كثيرا التفكير في المستقبل وجمع الثروات فهي مكتفية منشغلة ومستهلكة، قد نجد بينها المتدين وقد نجد الغافل وكل يعيش وفق مفاهيمه ومعتقداته ويحترم لأجلها بل لأجل طاقاته المنشودة، والجدير بالذكر أن هذه الطبقة سريعا ما تحتضنها المؤسسات الأمريكية سواء الجامعات أو حتى البنوك، فلا بد أن يعرض البنك على الطالب قروضا بآلاف الدولارات بحسب طبيعة دراسته، كلما كانت شهادته التي يسعى لتحصيلها ذات أهمية في ميدان العمل الأمريكي كلما كانت سعة القرض أكبر تصل لمائة ألف دولار وبهذا يسيل لعاب الكثير من الطلبة ويتورطون في قروض ربوية مهلكة يسدون أقساط فوائدها بقية عمرهم.

يهوى الإقامة في الغرب

صنف آخر، يعشق العيش الغربي، لا يهمه مال ولا علم ولا مكان مرموق، يحب العيش في زاويته ويكفي أنه مغترب في أرض “عظيمة” يرضى بالقليل ويأوى لركنه كل يوم مستمتعا بحياته التي يعتبرها ناجحة لمجرد تمكنه من الحصول على إقامة، همته ضعيفه وبصره لا يتعدى موطأ قدمه، كما لا تتعدى أحلامه أحلام طفل صغير، يعيش يومه ولا يفكر في آخرته.

الفارين من الخطر

صنف آخر لديه هدف، سافر للغرب مؤقتا لأجل خطة يمضي بها لمستقبله أو فرّ من خطر يلاحقه، وقد شاهدت مثل هؤلاء الكثير هدفهم الأول والأخير هو الفرار من حاكم طاغوت ظالم، أو الهروب من الرقابة والخناق الذي يمنعه من الكلام أو العمل أو إبداء أي نقد بناء أمثال هؤلاء يعيشون بمبادئهم وأفكارهم في المجتمع الأمريكي ويحملون هما، ولا يفلحون غالبا في الخروج إلا ما ندر لأن أنظمة الحكم ما بعد المحيط لا زالت لم تتغير.

اللاهث خلف الحريات الفردية

لدينا صنف آخر أيضا هو غالبا صنف يلهث خلف الحرية الفردية في العيش على الطريقة الغربية، يحاول أن يحاكي الأمريكان، ولكنه يحافظ على هويته المسلمة ذلك أنه يحب أن يظهر في أعينهم كمسلم “راقي متحضر مختلف” فيغير بذلك نظرتهم للتطرف، وأمثال هؤلاء الكثير.

من جاء بدافع قدره

ولا يفوتني ذكر صنف آخر وجد في هذه الأرض وليس باختياره، قدم إليها في بطن أمه أو سيق إليها بدافع قدره لم تكن له خيرة ولا مشورة، وإن كانت نسبتهم قليلة فهم موجودين.

طبعا هناك صنف اللاجئين الذين يقفون في طوابير الانتظار الطويلة لأجل المقابلات وتقديم الملفات وصداع القوانين والمتطلبات لإقامة لاجئ، ثم لا ننسى أولئك القادمين بشكل غير قانوني والمقيمين بخفاء يهربون من خيال شرطي أو رجل أمن، فمن ألقي عليه القبض أعيد لبلده مهانا، وإلا عيشة التخفي والركض.

قد تكون هناك أصناف أخرى لكن هذا مجمل ما لخصته من أنواع المقيمين في أمريكا وأقصد تحديدا من المسلمين.

http://gty.im/51161108

وقد خلصت لقاعدة نبوية عظيمة في كل مرة أتأمل فيها حال هؤلاء المقيمين في أمريكا هي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).(1)

فو الله ما رأيت أحدا حقق أكثر مما كتب له، ولا سعيدا مثل من رضي بما قسمه الله له يحدوه الإيمان واليقين ويعمل لخاتمة يوم الدين.

دعوة للتأمل

ثم إن الخواتيم التي شاهدتها بعيني في أمريكا لكثير من المغتربين المسلمين لتدعو للتأمل بل للرهبة والخشية.

فقد رأيت من عاش في أمريكا أكثر من ثلاثين سنة يجمع ويكدس الأموال ليحقق حلمه في بناء قصر له في بلده يشار عليه بالبنان، وحين جاء موعد دخول قصره المنتظر، وقد سافر لبلاده في اعتزاز وفخر، ما أن شاهد البيت المشيّد بأروع فنون الهندسة وقبل أن تطأه قدمه، كان له ملك الموت بالمرصاد، ومات فورا بسكتة قلبية وقد تشبثت عيناه بحلمه الذي تحقق أخيرا لكنه لم يحظى بمباركة خطاه.

http://gty.im/463312756

ثم قصة ذلك المغترب الذي انشغل عن تربية أبنائه بالعمل والدوام الإضافي والاجتهاد في طرق أبواب الرزق، ظناً منه أنها أفضل طريقة للعناية بأماناته من أطفال، وتركهم للمجتمع الأمريكي ولأم غافلة، ففجع في يوم حين عودته للبيت بابنته رفقة صديقها الأمريكي في وضع مخل لا تتورط فيه مسلمة، فكان أن أصيب بإحباط شديد وصدمة عظيمة، يردد في كل حين، ماذا جنيت من عيشتي هذه، حين أرى ابنتي برفقة صديقها يدا بيد ينال منها بلا حياء ولا خجل وهي المسلمة العفيفة في حين تعتقد هي أنها تعيش أروع قصة حب.

دخل الرجل على زوجته وقال لها باللسان الصارم، لديك أسبوع للسفر، سنرجع ديارنا، وهذه المرة للأبد، وبالفعل خرج الرجل الغاضب المصدوم ليصرف أعماله وينهي أي ارتباطات تعنيه في تلك البلاد، وبعد وصوله لبلاده وتنفسه الصعداء تفاجأ ببناته يحاولن الهروب من البيت ويبحثن عن السفارة الأمريكية لتحتضنهم وتعيدهم لأمريكا، فكان أن شعر بخسارته الحقيقة، ودخل مرحة خطيرة من التوجس والخوف.

وإليكم قصة ذلك المغترب الذي طالما أقسم أنه لن يموت في بلده الذي ولد فيه، ولن يسمح لأحد أن يرى قبره في أرض هجرها برضاه لأرض اختارها معجبا برقيها وغناها، فكانت الأقدار له بالمرصاد وجاءه سفر فيه عمل ينزل فيه في بلاد الشام، وحين نزل جاءه خبر طارئ أن عليه أن يقطع مسافة طويلة برا للوصول إلى مقر الاجتماع مع العملاء الذين سافر للقائهم، فاضطر أن يركب السيارة ويسافر برا ليمر ببلاده التي أقسم أن لن يرجع إليها، وما أن دخلها بدأ يعد الدقائق ليصل إلى الحدود ليخرج منها، ولكن قدره كان عند تلك النقطة، قبل الخط الحدودي، فقد اصطدمت سيارته أثناء سيرها وتهشمت، ومات هو من فوره، فكان أمر الله أنفذ لا قسم المغرور.

حكايات كثيرة وقصص مؤثرة مبكية، ونهايات مخيفة تنتظر من اختار العيش في بلاد الغرب إلى آخر رمق، دون الحديث عن المشاكل العائلية والمآسي والعلاقات المتوترة والمضطربة والشكاوي المستمرة، ولا أحد راضي وإن كان غني!، ثم النهاية ما أسوءها من خاتمة تلك التي يموت فيها مسلم ولا يجد من يصلي عليه أو تراه يدفن في تراب بين الصلبان فمن يدري عنه.

ولا أعني أولئك الذي كتب عليهم القهر والاضطرار للعيش في أمريكا، فهؤلاء بحسن نيتهم نرى حسن خواتيمهم وقد شهدت يوما موت رجل صالح كان ملتزماً بالمسجد منذ قدومه لأمريكا، حتى في يوم جمعة، اغتسل ولبس الأبيض وتعطر وخرج يهرول للصف الأول، ولكن ما أن بدأ القوم الصلاة وسجد الجميع، رفعوا كلهم إلا هو، فيالها من خاتمة نحسبه قد صدق فلطالما شهد له بتعلق قلبه بالمسجد.

وقد تجد من يموت في بلاد الغرب ويسخر الله له قلوبا ترثيه وأناسا يذكرون محاسنه، وشيوخا يضربون المثل بسلوكه وتقواه، وهذه من فضائل الالتزام حتى في أوساط الكفار.

الحديث عن المعيشة في أمريكا يطول، ولكنني أحب أن أختم بهذه الخلاصة الجامعة، إن الحياة ليست محصورة في طعام ومسكن وتكنولوجيا حديثة ونظام وأموال، بل هي في المعتقد وخاتمة الحياة التي اخترنا  أن نعيشها بأنفسنا، في آيات سورة النجم (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29)  ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30).


مصادر:

[1] ورواه ابن ماجه والدارمي وابن حبان، والبيهقي في شعب الإيمان، قال العراقي ـ رحمه الله ـ في تخريج الإحياء: رواه ابن ماجه من حديث زيد بن ثابت بإسناد جيد ـ وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في سلسلة الأحاديث الصحيحة.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى