عِش كنشأت!
فجّرها مهند الحلبيّ وتبعه فادي علوان ثم أمجد الجندي والثائر ثائر أبوغزالة وباسل باسم، واتسعت القائمة لتشمل تسعة وأربعين ومئة شهيدا وضاقت على واحد! تبرأت من الشهيد رقم خمسون ومئة فمنعت إدراج اسمه ضمن لائحة شهداء الانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
لكن من قال بأن شهدائنا أرقام على ورق؟ ومن قال بأن دم الشهيد يُنسى ويجف؟ ومن قال بأن أقصى أماني الشهيد أو الفدائي اعتماد ورقي من وزارة الصحة؟
نشأة ملحم
يختلف وضع الشهيد-بإذن الله-نشأت ملحم عن باقي القائمة فهو من الداخل المحتل والداخل المحتل يختلف عن باقي مدن فلسطين. أن تكون من أهل الداخل يعني أن تحمل البطاقة الخضراء وتخضع رغما عنك لنظام تعليم إسرائيلي. أن تُمرض في مستشفيات إسرائيلية ويُنطق اسمك في الإعلام العربي بـ”عربي إسرائيلي” وينظر إليك العالم كمواطن إسرائيلي وتدخل الأقصى بالهوية الإسرائيلية، وتتلقى أسس القبول بالوضع الراهن والتعايش مع الحكومة ومتطلبات ذلك!
أن تكون من أهل الداخل يُعني أن تعيش صراع ثلاثي الأبعاد: بين الحفاظ على هويتك الإسلامية العربية الفلسطينية، وردّ ما يُلقى إليك من صيحات تنادي بالرضوخ والمعايشة، وأخيرا مقاومة الغاصب المتلوّن الذي قبل بك مواطن في أرضه التي هي لك ويظهر لك إنعامه الشديد عليك وهو يضرب إخوتك في الجهة الأخرى!
نشأ نشأت محمد ملحم في قرية عرعرة إحدى قرى مدينة أم الفحم في الداخل المحتل كأي مواطن فلسطيني فُرض عليه الاحتلال. تعلم في كتبهم وتداوى من أدويتهم لكنه أبدا ما قبل بهم في أرضه وما تحمل رؤية أوتادهم تُدك لتصنع خياما على ترابه، وما تحملت أذنيه سماع دويّ رصاصات جيشه تؤذي سماءه فضلا أن تخترق أجساد بني أرضه وعقيدته. رغم الزخم الضاغط الواقع من المجتمع عليه ما استكان وما سلّم.
نفذ ملحم عملية “ديزينجوف” التي أدت إلى مقتل إسرائيليّين وإصابة أخرين وانسحب من موقع العملية بكل براعة ودهاء. عملية كهذه هزّت أركان الدولة المزعومة، الدولة الأقوى في العالم حتى أن “يوآف ليمور” قال:
“كانت عملية تل أبيب منظمة ومخططا لها بصورة مختلفة”.
منذ بداية الانتفاضة وإسرائيل تعيش حالة من الهلع والترقب والفزع، لكن عملية ملحم هذه كانت ضربة في مقتل، كانت رسالة واضحة لهم بأنه لا هناء لكم ولا راحة في عقر داركم التي هي حقنا. واستطاع ملحم الانسحاب بلا أدنى ضرر أو أذى فكان ذلك رسالة واضحة بمطلق ضعفهم وعجزهم وأيضًا رسالة لأبناء العقيدة أولا قبل أن تكون رسالة للعالم: “إن أهل الداخل مازال ينبض فيهم عرق المقاومة ودفع أهل الظلم وإن كانت الحكومة الإسرائيلية تبذل جهدا لا استهانة به من أجل ترويض نفوسهم البشرية بما يتناسب مع مخططاتهم.”
وضعف إسرائيل الواضح في هذه العملية لا يقتصر على القتل والهروب دون أذى فقط! بل يشمل ثمانية أيام من البحث المستمر عن مجهول الهوية الذي أحدث فوضى في تل أبيب، ثمانية أيام حتى تم التعرف على ملحم في قرية عرعرة بعد البحث في “تل أبيب-هرتسليا-عرعرة-باقة الغربية”.
بين أسرةٍ تتعايش مع المحتل!
وما كان هذا إلا من محامي العائلة نحومي فاينبلات الذي صرّح للقناة العاشرة الإسرائيلية بأنه من أرسل معلومات للشاباك عن مكان تواجد ملحم بأمر من الوالد محمد ملحم! وبالفعل تم العثور عليه وتصفيته من قِبل وحدة اليمام وقال جلعاد أردان بعد تصفيته: “من يمس بنا نمس بحياته”
وصرحت العائلة بعدها بأن العزاء مقتصرٌ على أفراد العائلة فقط، وخرج إلينا أحد أقاربه يقول بأن ملحم كان يعاني من مرض نفسي! محاولة منه في نظري لسد ورد هذا العمل البطولي تحت غطاء المرض النفسي المتلبس بملحم!
وبعد إدراج اسم نشأت في قائمة شهداء الإنتفاضة لإتمام الخمسين ومئة شهيدا لفظته وزارة الصحة وكأنه لا يستحق شرف الإنضمام لقائمة شهداء الوطن! وكأن الأمر ما كان إلا خلاف بين مواطنيين إسرائيليين أودى بحياة أحدهما وفقط! وكأنه ليس خلافا على أرض ووطن! على عقيدة وحق مسلوب. إن كانت السلطة وتوابعها تعاملت مع الأمر كحادث داخلي بين أفراد شعب واحد فإن الشعب الفلسطيني ما قبل بهذا ولا أقرّ به فأقيم بيت عزاء باسم الشهيد نشأت ملحم في قطاع غزة وآخر في مخيم الجلزون شمال رام الله.
انتشر بعدها على مواقع التواصل مقولة” إن عِشت فعِش حرا أو مت كنشأت” ما تبادر إلى ذهني حينها إلا شئ واحد “عِش كنشأت “
عِش كنشأت تحت احتلال مفروض عليك رغما عنك وما أثر فيك، عِش كنشأت تحت ظل بيت لا يمانع بإمكانية التعايش مع المحتل واخرُج بطلا من بين ثنايا أفكاره الواهية، عِش كنشأت في مجتمع ينظر إليك كمواطن إسرائيلي مطموس الهوية وتُفتت الصخر سبيل إعلانها وإظهارها، عِش كنشأت مجهول في حياته منبوذ بعد موته غير مُعترف به في أرضه لكنه بطل.
الهوية لا تُطمس والحق لا يُنسى، ونصيب أهل الداخل من المقاومة لا يُغفل، ونشأت هو الشهيد رقم خمسون ومئة.