لغة الشكر خير من لغة الشكوى-الجزء الأول
الحمد لله معزّ من أطاعه واتقاه، ومذلّ من خالف أمره وعصاه، قاهر الجبابرة وكاسر الأكاسرة، لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه، ينصر من نصره ويغضب لغضبه ويرضى لرضاه. أحمده سبحانه وأشكره حمدًا وشكرًا يملآن أرضه وسماه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه ومصطفاه. صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين ولكل من نصره ووالاه… أما بعد
شكر الله تعالى هو عرفان النعمة من المنعم، وحمده عليها، واستعمالها في مرضاته. وهو من خلال الكمال، وسمات الطِّيبَة والنبل، وموجبات ازدياد النِّعم واستدامتها. والشكر واجب مقدس للمنعم المخلوق، فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تحصى نَعماؤه ولا تُعدّ آلاؤه. والشكر بعد هذا من موجبات الزلفى والرضا من المولى عز وجل، ومضاعفة نعمه وآلائه على الشكور.
والشكر لا يجدي المولى عز وجل، لاستغنائه المطلق عن الخلق، وإنما يعود عليهم بالنفع، لإعرابه عن تقديرهم للنعم الإلهية واستعمالها في طاعته ورضاه، وفي ذلك سعادتهم وازدهار حياتهم.
عن مضارب بن حزن قال: بينا أنا أسير من الليل إذا رجل يكبر، فألحقته بعيري، فقلت: من هذا المكبر؟ قال: أبو هريرة، قلت: ما هذا التكبير؟ قال: شكرا. قلت: على مه؟ قال: على أني كنت أجيرا لبُسرة بنت غزوان بعقبة رجلي وطعام بطني، فكان القوم إذا ركبوا سقت لهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله فهي امرأتي اليوم، فإذا ركب القوم ركبت، وإذا نزلوا خُدمت.
ومَن قرأ كتابَ الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-بروحِ الشكر العارِفةِ بالله المعترفةِ بفضلِه ورحمتِه؛ كان أسعدَ الناسِ قلباً وأقواهم يقيناً وأعظمهم ثناءً وحمداً.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: (الشاكرون أطيب الناس نفوساً، وأشرحهم صدوراً، وأقرهم عيوناً، فإن قلوبهم ملآنة من حمده والاعتراف بنعمه، والاغتباط بكرمه، والابتهاج بإحسانه، وألسنتهم رطبة في كل وقت بشكره وذكره، وذلك أساس الحياة الطيبة، ونعيم الأرواح، وحصول جميع اللذائذ والأفراح، وقلوبهم في كل وقت متطلعة للمزيد، وطمعهم ورجاؤهم في كل وقت بفضل ربهم يقوى ويزيد)
قال بن عيينة: كان لابن المنكدر جار مبتلى، فكان محمد إذا رفع جاره صوته بالبلاء، رفع صوته بالحمد.
وقال غسان بن المفضل الغلابي: حدثني بعض أصحابنا قال: جاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقا من حاله ومعاشه واغتماما بذلك، فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فبسمعك؟ قال: لا. قال: فبلسانك؟ قال: لا. قال: فبعقلك؟ قال: لا. في خلال، وذكره نعم الله عليه، ثم قال يونس أرى لك مائين ألوفا وأنت تشكو الحاجة؟!
ولله دَرُّ صاحبِ الظِّلالِ حينَ قال: «مِنْ رَحمةِ الله أنْ تُحِسَّ بِرَحمةِ الله؛ فرحمةُ اللهِ تَضُمُّك وتَغْمُرُك وتَفِيضُ عَلَيْك؛ ولَكِنْ شُعُورُك بِوُجودِها هو الرَّحمةُ، ورَجاؤك فيها وتَطَلُّعُك إليها هو الرَّحمةُ، وثِقَتُك بها وتَوَقُّعُها في كلِّ أمْرٍ هو الرَّحمة… ورَحمةُ اللهِ لا تَعِزُّ على طالبٍ في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ حالٍ؛ وَجَدَها إبراهيمُ -عليه السلام -في النارِ، ووَجَدَها يوسف -عليه السلام -في الْجُبِّ كما وَجَدَها في السِّجن. ووَجَدَها يونسُ -عليه السلام -في بطنِ الْحُوتِ في ظُلُماتٍ ثلاث. وَوَجَدَها موسى -عليه السلام -في اليَمِّ وهو طِفْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ كلِّ قُوةٍ ومِن كلِّ حِراسةٍ، كما وَجَدَها في قَصرٍ فرعون وهو عَدُوٌّ له مُتَرَبِّصٌ به ويَبحثُ عنه. ووَجَدَها أصْحابُ الكهفِ في الكهفِ حين افْتَقَدُوها في القُصُورِ والدُّورِ، فقال بعضُهم لِبَعضٍ: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته} [الكهف:16] ووَجَدَها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-وصاحبُه في الغارِ والقومُ يتبعونَهما ويَقُصُّون الآثار، ووَجَدَها كلُّ مَن آوَى إليها يائساً مِن كلِّ مَنْ سِواها؛ مُنقطِعاً مِن كلِّ شُبْهَةٍ في قُوةٍ ومِن كلِّ مَظِنَّةٍ في رَحمةٍ؛ قاصِداً بابَ اللهِ وَحْدَه دُونَ الأبواب».
رأى بكر بن عبد الله المزني حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله، استغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ قال: بلى أحسن خيراً كثيرًا، أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة واستغفره لذنوبي. فقلت: الحمال أفقه من بكر.
أقسام الشكر ووسائله
الشكر أقسام: شُكر قلبي، وشكر لساني، وشكر عملي.
- «شُكْرُ القلب»: هو الاعتقاد والإيمان بفضل الله سبحانه، والاعتراف الداخلي بنعمه وآلائه… يجب أن يبدأ بالشكر من الداخل أي من قناعات مطلقة ومتينة وفق تصور عقائدي، وأن يمزج بالنية الصادقة والخالصة، وأن يختلط بالروح والعقل والنفس، أي أن يكون إطارا للذات الإنساني، حتى يتحول إلى المرحلة الثانية وأن يبني الأساس الثاني.
سُئل المرتعش: أي الأعمال أفضل؟ فقال: رؤية فضل الله.
- «شُكْر اللسان»: هو ترديد الكلمات المُعَبِّرَة عن الاعتراف بالنعمة وقد قال القائل: «جُعِلَ الكلامُ على الفؤاد دليلاً» … يترجم هذه القوة الروحية والقناعة الصادقة إلى كلمات وعبارات للشكر بكل ثقة وحضور القلب، ويقول بكل اندفاع: (يا رب لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك)
ولكي يستكمل مسيرة النعم تراه باستمرار يردد: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات) وإن افتقر إلى نعمة ما فتراه يقول: (الحمد لله على كل حال).
- ولكن صاحب هذا الرسوخ الإيمانية وهذه الأذكار الدائمة لا يتوقف عند هذا الحد لذا يتهيأ لبناء الأساس الثالث «شكر العمل» وذلك شوقا لرضا الله -سبحانه وتعالى-طمعا للأجر ولاستمرارية النعم، لأنه يتيقن ويؤمن بالقاعدة الربانية {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
قال الأوزاعي: بلغني عن خالد بن معدان أنه كان يقول: «أكل وحمد، خير من أكل وصمت»
قال الجنيد: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يعصي الله بنعمه، فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك. قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي.