المعرفة حياة
تنبثق أهمية المعرفة من كونها مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، ولذلك تتمتع باحترام جميع العقلاء على مر الزمان ومختلف المكان، وأولت الشريعة الإسلامية الغراء مكانة سامقة للمعرفة حين شملتها بالعديد من النصوص القدسية المباركة من الكتاب والسنة تمجيدا وتعظيما وتبجيلا لقدرها.
قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122] قال الشافعي -رحمه الله-: “إنما النفس كالزجاجة، والعلم سراج، وحكمة الله زيت، فإذا أبصرت فإنك حيّ، وإذا أظلمت فإنك ميت”.
قال البيضاوي: “مَثل به من هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال، وجعل له نورَ الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل، والمحق والمبطل”.
وقال أبو عبد الله الرازي: الحياة الاستعداد لقبول المعارف، فتحصل له علوم كلية أولية وهي المسماة بالعقل والنور ما توصل إليه تركيب تلك البديهيات من المجهولات النظرية، ومشيه في الناس كونه صار محضراً للمعارف القدسية والجلايا الروحانية ناظراً إليها.
وقال ابن السيد:
أخو العلم حي خالد بعد موته ** وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ** يظنّ من الأحياء وهو عديم
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58]
وقال تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [هود:24]
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) [صحيح، رواه أحمد]
ومع بزوج الثورة المعرفية المعاصرة باتت المنافسة شرسة بين الدول في اقتناء المعلومة والاستحواذ على أسرار المعرفة، خاصة وأن الأعلم صار الأقوى، والأجدر على امتلاك زمام إرادته وحماية بيضته.
لقد باتت الهيمنة المعرفية الحديثة، أقوى من الهيمنة الاستعمارية القديمة، وسمعنا عن تكتلات أممية قائمة على التقدم المعرفي بالأساس، كالنادي النووي، والدول الصناعية الكبرى، والاتحاد الأوروبي، وهذا بعكس التكتلات القائمة على الثروات الطبيعية خاصة النفطية منها، حيث باتت منظمة مثل «الأوبك» على هامش المعترك الاقتصادي العالمي، لتغير الموازين في سوق النفط، وظهور النفط الصخري والوقود العضوي وبدائل الطاقة النظيفة، هذا بخلاف منتجي نفط جدد خارج الأوبك، التي تقهقر مركزها وصارت تسيطر على ثلث الإنتاج النفطي فقط في السوق العالمي، الأمر الذي أودى ببرميل النفط إلى أسعار غاية في التدني والتراجع.
المعرفة كانت وما زالت محتفظة برونقها وسيطرتها، والحرب العالمية مستعرة في اقتناص الكفاءات البحثية والعلمية من أجل دفع عجلة المعرفة التي إن توقفت توقفت معها مصائر الأمم وموارد الشعوب.
ولو شاهدت -مثلا- فيلما ووثائقيا عن بناء حاملات الطائرات أو المفاعلات النووية أو شركات الدواء العملاقة أو أبحاث الفضاء .. لتجلت لك حقيقة أن العرب خارج نطاق وسياق الحياة المعاصرة اللهم إلا في مجال الاستهلاك لمبتكرات الشعوب الأخرى.
بل تشعبت الأزمة المعرفية العربية وألقت بظلالها القاتمة أو السوداء على كافة مناحي الحياة حيث يقول الأستاذ أحمد المزاري: “الأمة الإسلامية اليوم رأس مصدوع يعالج الدوار، وذهن مشتت الرؤى والأفكار، وقلب متقلب لا ينتظم له نبض أو يقر له قرار، وجسم متفسخ، كلما عن له الوقوف أصابه الضعف والخور فانهار، تطفح على بشرته البثور والدمامل، وتغور في مواضع كثيرة منه الأخاديد والشروخ، يتلبس الشلل عضوا من أعضائه، فيتوقف عن العمل، ويسري الخدر في عضو آخر فيتطوح ويترنح ثم يسقط، ويصير من العسير على بعضه أن يشعر بما يعاني بعضه الآخر من جوع ومرض أو موت بطئ.
وحين يظن الدم المسلم أن من حقه التجول بحرية داخل عروق الجسد الواحد، يفاجأ –عند بعض المعابر- بنظم وقوانين، تمنعه من المضي في طريقه إلا بجواز سفر وتأشيرة مرور، محدد معها زمن الإقامة، والغرض من الزيارة، وكأنما بات المسلم المسافر من موضع إلى آخر، داخل حدود الدولة الإسلامية الواحدة مستأمنا بعقد مؤقت، لا ترقى صيغته إلى مستوى عقد الأمان الذي يمنح للقادم من دار الحرب –سواء كتابيا أو وثنيا- إن رغب في زيارة أو استيطان دار الإسلام”.
السؤال هنا
السؤال المكرر والملل -الذي دوما يطرح نفسه- من الذي أوصلنا إلى هذا الحال، الحكام أم الشعوب؟ والإجابات تتعدد بين متهم الأنظمة الحاكمة وبين جعل العتب على كسلنا واستهتارنا وسلبياتنا.
والغريب أن العقل العربي حتى الآن لم يستوعب «ديمومة الكيان الاستعماري» من أول بدايتها إبان تقسيم سايكس بيكو عام 1916 وحتى هذه اللحظة الراهنة .. تلك الديمومة التي لابد أن نقر بواقعها، وأن ثورات التحرر العربية التي انطلقت في الخمسينات من القرن الماضي ما هي إلا حراك لتغيير الشكل النمطي للاستعمار لا أكثر ولا أقل، واستبداله بنمط جديد يشرف عليه مباشرة وكلاء من بني جلدتنا، فالحرية تواجدت في حياتنا العربية بعد الثورات ولكن مجرد شعارات تتغنى بها الشعوب العربية الساذجة ويشار إليها في وسائل الإعلام الرسمية على أنها الهرم الجديد ولكن لا أحد من الجماهير يعرف مكانه بالتحديد.
احتكار السلطة كان السمة الوحيدة لإدارة الأمة العربية الثورية، بل وكشفت الأيام والوثائق التاريخية الصلات المشبوهة للكثير من رموز السلطة بالغرب الاستعماري الذي وصل إلى حد تدخل الأخير في تنصيب سلطة هنا أو تفكيك سلطة هناك.
وسيطرة النفوذ ورجال الأعمال على ثرواتنا تم بعيدا في الشكل عن دنيا الباشاوات والإقطاع، ولكن المضمون واحد، وظهر البليونيرات العرب، وانقسم الحال الاجتماعي إلى شريحة مسيطرة منعمة غارقة في الامتيازات وطبقة عريضة من الغلابة والفقراء.
ولا أدل على أطروحة «ديمومة الكيان الاستعماري» من تحرك الغرب بجيوشه الجرارة لتقليم أظافر صدام حسين عندما استطالت خشية تحكمه في منابع النفط، وقد كان من الأولى أن تكون هذه مسئولية الأنظمة العربية وحدها وجيوشها المغوارة.
وأين كان هذا الغرب من مجازر المسلمين في بورما، أو أزمة الصومال، أو سرقة سلطة الإسلاميين المنتخبة في الجزائر أو مصر بانقلابات باركها الغرب وساند سدنتها.
واليوم ينعم الطاغية بشار بدعم غربي سافر!! ولتذهب السيادة العربية إلى الجحيم، وتنكشف للجماهير العربية زيف ثقافة الممانعة، والجيش العربي السوري حامي الحمى، وكل هذا الدعم الغربي خشية وصول السنة للحكم، والوقوف في مواجهة حقيقية مع دولة الاحتلال الصهيوني التي هي على حدود التماس مع سوريا الشقيقة.
مات العرب معرفيا وسياسيا عندما جرف «الاستعمار الداخلي» العقول والمعارف ووزارات التربية والتعليم، وانتخب الأشرار وأقصى الأخيار، واحتكر الثروات، وقصف الأقلمة الحرة، واصطفى من الكتاب الأفاقين ومن الشيوخ الوصوليين ومن رجال الأعمال الانتهازيين.
واليوم تتفاقم الأزمة العربية لأنها صارت بطبيعة مزدوجة «مقاومة استعمار داخلي واستعمار خارجي» والتحرر لا سبيل إليه إلا إذا تداركنا المفاهيم والرؤية الصحيحة حول أزمتنا وما نريد وما هي الغاية والهدف، وبفضل رحمة الله تعالى سيكون النصر إن شاء الله.
{وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]