فارسة التربية

قلبت النظر في جميع الوظائف والمشاريع التي يمكن أن تقودها مسلمة تشع همة وعزما، فلم أر مثل ثغر التربية أهمية وحساسية، ومن ينكر أن المرأة هي اللاعب الأهم في مشروع التربية إن لم أقل أساسا، قد سلّمها الله أمانة عظيمة هي أمانة أمة، أمانة أجيال تتربى في حضنها وتتلقى تعليمها الأول على يديدها..

لا يعني هذا أن تكوني بالضرورة أما، بل كم من أم لا تملك من العلم والكفاءة لتنشأ جيلا قويا متعلما، ولكنها تستعين بمن يخفف عنها عبء هذه المسؤولية، ولا أفضل من مربية مبصرة، تعلم أن دورها لا يقل أهمية عن دور قائد في معركة حاسمة.

تخصصك في مجال التربية

نعم فأنت إن شئت أن تتخصصي في مجال التربية ستصبحين الفارسة التي تخوض غمار المواجهة مع طفل صغير لم يعرف بعد شيئا عن عالم البشر المتشابك بأهداف متعارضة، ولكنها مواجهة من أهم المواجهات، لأنها مواجهة تنتهي بصناعة جيل صالح هو سند هذه الأمة.

هل تأملت معي لو أنك أنشأت روضة أو مدرسة خاصة تحتضني فيها الأطفال في المرحلة العمرية التي تناسب عطاءك، وإن كانت ستستغرق منك ساعتين في كل يوم، نعم فليس مهما قصر دوامك إنما الأهم هو ما ستقدمين خلاله لهؤلاء الأطفال، كم من التوحيد سيترسخ في قلوبهم، كم من  القرآن سيحفظون، كم من الأذكار سيعقلون، كم من الأخلاق سيألفون، كم من المحبة سيعرفون، محبة في الله ولله ترتقي بهم إلى مراتب إيمانية مبشرة في عمر الطفولة.

إن مشروعا كهذا أراه من أنفع المشاريع التي قد تساهمين بها في كل المجالات، سواء الدعوة أو التعليم أو الجهاد، كيف لا وأنت تعدين جيلا يعرف ربه ويموت لأجل دينه!

ابدأي مشروعك

هذا هو الثغر الذي أحثك على التفكر فيه والإعداد له إن عزمت يوما أن تقودي مشروعا في سبيل الله، لن يتطلب منك الأمر سوى توفير مقر وإن كان غرفة واحدة، وبقدر صدقك لا تسألي عن البركات التي ستلاقينها بالمقابل، ويمكنك البدأ بحسب قدرتك المادية فإن كان لديك المال الكافي فهي صدقة جارية وإلا فلا أقل من فرض رسوم رمزية على كل طفل ينتسب لبرنامجك التعليمي التربوي لتغطية التكاليف.

البرنامج التعليمي التربوي

ثم إن برنامجا مثل هذا يعني التركيز على معالم ثابتة عليك العناية بها، أولها هو البرنامج التعليمي التربوي الذي ستعتمدينه بحسب عمر الأطفال الذين سيستفيدون منه، فلا شك أن أطفالا في عمر تحت الثلاث سنوات يحتاجون لغة تلقين ووسائل مختلفة عن أولئك فوق  هذه العمر، فانظري في طرق التدريس الخاصة بترسيخ المفاهيم والعلوم الأساسية في ذهن هؤلاء الأطفال، واستعيني في ذلك بكتب من ذات الاختصاص وأقصد تلك التي استقت الحكمة من نور الإسلام الساطع.

توفير المواد والوسائل

بعد الإحاطة ببرنامجك ومراحل التربية والتعليم التي ترومين إلى تحقيقها، عليك بتوفير المواد والوسائل لتطبيق هذه البرامج، قد تكون بسيطة جدا ولا تتكلفي الثمنية، لأن العبرة في التعليم هي قدرة المعلم لا وسائله، فبعض المعلمين قد ينقش على حجارة أروع النقوش، في حين آخر تسلم له كل الأدوات والوسائل ويخرج الطفل من عنده أكثر جهلا مما دخل، فالعبقرية في التعليم تكمن في قدرة المعلم على حفر العلوم والمفاهيم في ذهن هذا الطفل بشكل يؤتي أكله وإن عدمت الوسائل الحديثة أو المتطورة.

أعدي نفسك

أنت بحاجة لدورة تدريبية قبل أن تصبحي معلمة مربية، فزودي نفسك بالقراءة المفيدة في هذا الاختصاص وسؤال أصحاب العلم فيه، وإياك أن تخوضي بجهل وحماسة لا تنفع بل قد تضر.

أي عمل نريد أن نعمل عليه مهما كان بسيطا بحاجة لمرحة إعداد وتهيأة وتمهيد فلا تستثقلي تحصين نفسك من كل جهة والإلمام بالقدر الكافي من المعرفة، قبل الخوض في أي مشروع تختارينه، هذا ما يسمى ببساطة “الإعداد”.

جهزي برنامجك

بعد تسيطر البرنامج المناسب عليك أن تبحثي عن كل ما يعينك في تطبيقه، سوءا من حيث الكتب وعتاد المدارس والأدوات المدرسية وكذا الألعاب التي قد تساهم في رفع مستوى الاستيعاب لدى أطفالك.

نعم أطفالك أنتِ، فها قد أصبحت مسؤولة عنهم اليوم كأم مربية حنونة حملت هم جزء من هذه الأمة لا يقل أهمية عن جيش من المقاتلين الأشداء. كيف ولا وهم أمل لها في مستقبل ليس ببعيد، وطوبى لك إن كان لك سهم في تنشئة بطل من أبطال الإسلام أو قائد من قاداتها الأفذاذ أو مسلم صادق النيّة يخشى الله أكثر من أي شيء آخر!

تأملي معي كيف تكون مهمتك عظيمة وثغرك مثيرا! حينما تبصري من خلاله في ذاك الأفق الواعد، نتائج بذلك ومثابرتك، لاشك أن هذا سيفرغ عليك صبرا بلا حدود.

عرفي بمشروعك

لا تتهيّبي العقبات وتذكري أن من جدّ وجدّ، ومن استعان بالله لا يعجز، ثم مع صدقك في الطلب والعمل، ستشاهدي بنفسك بركات هذه المسابقة، ويمكنك أن تدعمي مشروعك بدعاية موازية بنشر تعريف وافي وجذاب لروضتك النموذجية أو مدرستك التربوية الخاصة، وساعات الدوام فيها ، ويمكنك إقامة علاقات وطيدة مع أولياء الأمور وبين أهل الاختصاص في هذا الشأن وقد تحصلين على فرص لم تكوني تحلمين بها من قبل.

كل مشروع يبدأ من الصفر لكنه يصل إلى أرقام قياسية على سلم النجاح والإنجاز، لم نكن ننتظرها ولكننا نتفاجأ بها بعد أن أدركنا بأن إعطاء مشروع ما، كلنا لا بعضنا يعني قمة النجاح.

أعتقد أنني أوضحت لك ملامح المشروع بما فيه كفاية ، والبقية عليك يا فارسة التربية، فأنت أدرى بما تتوق نفسك لتحقيقه إنما أعطيتك الفكرة وعليك طرقها وتحقيقها بحسب ما يتوفر لديك وما تطمح له همتك ويحدوك إليه تميّزك.

معركة البقاء والكينونة

إننا نمر بزمن عسير، عسير جدا، تخوض فيه قوى الشرى ضدنا معركة البقاء والكينونة، وتستهدف بشكل ماكر طفولتنا وذخيرة مستقبلنا من أجيال، فإن نحن سلمنا لهم غرقنا في تيارات تغريبهم وسقطنا في مستنقعات الدنيا الدنية وخسرنا أنفسنا وهويتنا وديننا، ولكننا أمة اختار الله لها أن تعيش بعزة إن هي تمسكت بدين ربها، ولن يكون هذا الأمر ممكنا بدون تربية راشدة مستنيرة تقودها فارسة مثلك فتحفظ بها ثغرا عظيما من ثغور المسلمين، ووالله لو أنه تخرج على يديك طفل واحد بالتربية العقدية والأخلاقية على نهج السلف الصالح التي ترومين إليها، لكان خير لك من حمر النعم! ثم تأملي معي لو أنك لقنت عشر أطفال سورة الفاتحة، فكم من الحسنات ستجنين في كل مرة يصلي العشرة صلواتهم على مدى حياتهم!

كوني ذكية في تحصيل الآجر

كوني ذكية في تحصيل الأجر ولا تنظري لماديات الأرض، فما عند الله خير وأبقى، وما تتفاني فيه من بذل لابد أن يكون من غير وهن مقتدية بخير نهج ، لا يماريه زيف ، إنه نهج المعلم الأول، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال (بلغوا عنى ولو آية) ولربما يفتح الله على يديك في التربية، أكثر مما يفتح الله على يديك في غيرها، فتفقدي دوما نيتك وإخلاصك.

أهدافك الأساسية

وحتى نختم مسودة مشروعنا اليوم، عليك أن تعتني بأهداف أساسية في رحلتك الجديدة، أولها إحياء قلوب أطفالك بمحبة الله ودينه العظيم، ثم إيقاظ عقولهم ومداركهم وتمرين حواسهم بما يميّزهم بنجابة وقوة، كما عليك أن تراعي نمو أجسادهم بالعناية بصحتهم ورياضتهم إن كان في ذلك سعة.

وإن استثقلتي المهمة فضعي نصب عينيك “قليل دائم خير من كثير منقطع” ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فاجعلي عطاءك بقدر قدرتك حتى لا تضعفي وتستكيني، ثم راعي جانب التطوير وتلاقح الأفكار في رحلة بحث لتطوير مشروعك بين الفينة والأخرى، وبالنظر في حاجات الأطفال وبالتفاعل معهم، ستجدين متعة متواصلة تعيشين معها خلال سير مشروعك، مشروع البناء، إنه مشروع الحياة.

وتذكري دوما أنك القدوة في نظر صغارك، وأن ما ينطبع على مرآة عملك من اجتهاد وخلق وهمة سيكون لهم نبراسا يتذكرونه طيلة حياتهم، فاحرصي على مراقبة حركاتك وسكناتك وتعهدي نفسك بالتقوى فأنت بحق معقد الآمال، وننتظر منك سبقا وتأثيرا يعلق وساما في صفحات سير النبيلات.

د. ليلى حمدان

كاتبة وباحثة في قضايا الفكر الإسلامي، شغوفة بالإعلام وصناعة الوعي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى