تاريخ الصراع مع النصارى الأحباش: الإسلام في القرن الإفريقي.. الجزء الأول
جغرافيا: يمتد القرن الإفريقي على مساحة تفوق 2.000.000 كم2 حيث إنه إقليم جغرافي يمتد من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي، ويتوفر على شريط مائي داخلي يبدأ من باب المندب جنوبا إلى السويس شمالا، بمساحة تقدر بحوالي 169 ألف ميل مربع([1]) وتعتبر من أهم الممرات والمنافذ النفطية العربية المتجهة نحو أوروبا، من خلال ذلك تتحكم دوله في طريق ومحور التجارة العالمية، بالإضافة إلى أنها تعد إحدى الممرات الحيوية للتحركات العسكرية تجاه منطقة الخليج العربي وشبه القارة الهندية.([2])
أهميتها: تعد منطقة القرن الإفريقي من أهم المناطق الغنية، لما تحتويه من ثروات طاقية ومعدنية ضخمة وعلى رأسها النفط والغاز والذهب، وأيضا الاحتياطات الكبيرة من المعادن التي تستخدم في الصناعات الكبرى كاليورانيوم والكوبالت، بالإضافة إلى الثروة المائية الهائلة بحيث تعتبر المنبع الرئيسي لنهر النيل ([3]).
كثافة السكان: تنعم المنطقة بثروة بشرية هائلة، بحيث يتعدى عدد سكانها 200 مليون، كما تتعدد فيها القوميات والأديان واللغات، بحيث يفوق عدد المسلمين فيها 60% تقريبا، كما تحتوي على أكثر من 340 لهجة ولغة ([4]).
وبذلك تشكل المنطقة عمقا استراتيجيا، لأهميتها التاريخية والحضارية وتوفرها على مؤهلات جغرافية وطبيعية وبشرية تجعلها محط أنظار بعض المطامع الأجنبية منذ القرن التاسع عشر إلى حدود الساعة، مما دفعها إلى التغلغل في المنطقة لتأمين مصالحها وتحقيق أهدافها الاقتصادية والعسكرية.
انتشار الإسلام: تنوعت عوامل انتشار الإسلام في شرق إفريقيا عامة والقرن الإفريقي خاصة بين هجرات الأفراد والقبائل من شبه الجزيرة العربية إلى سواحل شرق أفريقيا وحركة التجار المسلمين الذين كانوا يحملون مع بضائعهم رسالة الإسلام وتنقلات الدعاة والعلماء لنشر الإسلام في أقطار العالم. إن تزايد الهجرات المتعاقبة للمسلمين عبر مختلف العصور إلى الحبشة واستقرارهم بها لفترات طويلة -لأسباب اقتصادية أو سياسية- نتج عنه اندماج وتصاهر بين المسلمين والسكان الأصليين كان له الفضل في تأسيس كيانات سياسية، وكانت عبارة عن إمارات وسلطنات إسلامية، ومن هذه الممالك مملكة شوا الإسلامية.([5])
الإمارة المخزومية (إمارة شواء) 284 هــ–684 هــ الموافق 896 م إلى 1289 م
وتقع سلطنة شوا الإسلامية غرب نهر (عواش) وغرب البحيرات التي تقع جنوب هذا النهر وعلى ذلك فسلطنة شوا ومملكتا (هدية) و(شرخة) الإسلامية -اللتان سيأتي ذكرهما- تقع جنوبي الهضبة الحبشية وغرب الأخدود الإفريقي الذي كان يفصلها عن باقي ممالك الزيالعة الإسلامية في المنطقة القرن الإفريقي.
ومن المعروف أن الجزء الغربي من هضبة شوا كان مقرا للأسرة السليمانية التي حكمت بلاد الحبشة النصرانية منذ عام 669-1270 ولذا وقَعت سلطنة شوا الإسلامية بين سلطنة أوفات الإسلامية الناشئة من الشرق ومملكة السليمانية النصرانية من الغرب مما أضعف كيانها، وأخيرا انقض عليها سلطان أوفات وقضى عليها وضمها لدولته مما أدى إلى الاحتكاك المباشر بينها وبين الأسرة السليمانية المسيحية.([6])
وكانت أول مملكة أسسها المسلمون في المنطقة القرن الإفريقي على الإطلاق، أنشأها نفر من بني مخزوم دخلوا المنطقة بزعامة ود بن هشام المخزومي، واستمرت الأسرة في حكم المملكة مدة أربعة قرون، وتمتعت من خلالها بالأمن والاستقرار، وظلت في عزلة عن العالم وذلك لما تيسر لها من عزة ورخاء تمثَّل في اكتفائها الذاتي واشتغالها بالزراعة والرعي، ولقوة الأسرة الحاكمة وما كانت تتمتع به من قوة ونفوذ، فقامت ببناء المعاهد والمساجد والمدارس لتحفيظ القرآن الكريم، أيضا ازدهرت وتطورت حركة التجارة.([7])
وظل أمر مملكة شوا الإسلامية مجهولا لدى المؤرخين القدامى الذين كتبوا عن الممالك التي تأسست بعدها في القرون الوسطى مثل العمري والمقريزي وغيرهم إلى أن وجد المستشرق الإيطالي (روسيي شيرولي أن ريكو) وثيقة عربية سنة 1353هـ/1936م لمؤلف مجهول تعرضت للأحداث التي مرت بها تلك المملكة في أواخر عهدها من سنة 628-677هــ الموافق 1231 -1289م حين دب الضعف فيها ومزقت أوصالَها النزاعات الداخلية على السلطة، والخارجية مع الإمارات الإسلامية المجاورة.
كانت سلطنة شوا من أقوى السلطنات الإسلامية في عهدها، كما كانت من أهم مراكز الإسلام ونشر الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة وما جاورها في سنة 501هـ كما قامت عدة إمارات إسلامية في المنطقة وما يليها شرقا مثل مملكة (عدل)، وبسبب الخلافات والتنافس داخل إمارة شوا، فضلا عن اهتمامها بالجانب التجاري والجوانب الأخرى. لكن سرعان ما طوقتها إمارة أوفات الإسلامية والتي استولت على مملكة شوا عام 684 هـ/1289 م وبذلك انتهى عصر سلطنة شوا الإسلامية.([8]).
مملكة أَوْفَات: (684 هــ-805 هـ الموافق 1289 م –1402م)
إيفات أو الأوفات، أنشئت قريباً من 684هـ، هي أشهر الممالك الإسلامية في المنطقة القرن الإفريقي وقد كانت ذات نهج عسكري وجهاد مستمر وحرب مع مملكة الحبشة النصرانية وحلفائها الأوروبيين (البرتقال).
أوفات نسبة إلى المدينة وتسمى أيضا (جبرت) أو (جبرة) وكانت تعتبر أكبر مدينة في القرن الإفريقي، وتبعد مسافة عشرين مرحلة من مدينة (زيلع) غربا، وكانت أوسع الممالك الإسلامية، وكان طولها يبلغ مسيرة خمسة عشر يوما، وعرضها مسيرة عشرين يوما بالسير المعتاد، وتشمل أرضها من جيبوتي وجنوب أريتريا وسهول الدناكل، وتمتد جنوبا وتضم الجزء الشرقي من حوض نهر عواش والهضبة الصومالية بما فيها منطقة هرر والصومال الغربي المحتلة، وتمتد شرقا إلى الصومال الإنجليزي (صومال لاند حاليا).
وعلى ذلك فقد كانت سلطنة أوفات تسيطر على مدخل البحر الأحمر من الجنوب الغربي وتقابل بلاد اليمن، وكانت ذات قوة عسكرية يقاس جيشها بخمسة عشر ألف فارس أما المشاة فأكثر من عشرين ألف جندي.
أما حضاريا واقتصاديا: فكانت هذه السلطنة زاخرة وعامرة بالقرى المتصلة والمدن الكثيرة مثل مدن بقلزرة، وكلجورة، وسيمق، وشوا، وعدل، وجبا، ولاو، وزيلع، وبربرة، وأنطوكية، وبازملي، وجندبلة، وأبونة، وبها روافد تسمى كوب والدير بالإضافة إلى نهر عواش.
ونظرا لاحتواء هذه السلطنة على جزء كبير من نهر عواش والهضبة الصومالية فقد توفر لديها أقدار من الأرض الخصبة والمياه اللازمة للزراعة بما يكفي حاجة السكان، ووُ د بها كثير من المزروعات وأشجار الفواكه، وتوفر لديها أعداد هائلة من الأغنام والأبقار والخيل والبغال والحمير، وانحطت قيمة الأسعار فكانت قيمة حِملٍ من الحنطة تساوي درهما واحدا، وتدفقت الأموال نظرا لاحتوائها على طرق التجارة التي تمر عبر أراضيها وتربط الساحل بالداخل، وهيأ ذلك الوضع الاقتصادي لزعامة دول الإسلامية في المنطقة القرن الإفريقي، وتحمُّل أعباء الكفاح والجهاد ضد الحبشة النصرانية كما هيأ لها موقعها الاستراتيجي الممتاز بأن تكون حلقة الوصل بين ممالك الزيالعة الإسلامية الأخرى وبين دول العالم الإسلامي المختلفة وخاصة في مصر والحجاز واليمن.([9])
من أشهر سلاطينها
السلطان عمر ولسمع مؤسس الدولة:
قال الحافظ ابن الحجر: «عمر أول من تأمر ببلد يقال لها (وُفات) بضم أوله وكان أصله من مكة من بني عبد الدار وقيل من بني عقيل بن أبي طالب وكان يسكن بها جماعة من المسلمين تحت حكم الحطى ملك الحبشة فأمر عليهم عمر المذكور فطالت مدته». ([10])
صبر الدين علي:
علي هذا هو أحد أبناء عمر المذكور وهو أول من ملك بعده يقول الحافظ بعد ذكر أبيه «فملك أولاده؛ منهم: صبر الدين علي في سنة سبعمائة (700) فقويت شوكته وخرج عن طاعة الحطى ثم عاد إليها للاختلاف عليه فأقام الحطى ولده (أي ولد صبر الدين علي) (أحمد حرب أرعد) مكانه وألزم عليا الإقامة عنده فأقام ثماني سنين ثم أعاده واستدعى ابنه أحمد عنده ثم رضي الحطى عن أحمد فولاه ما عمل من عمل أبيه ثم مات أحمد فأقام أبوه عوضه ابنه الآخر واسمه أبو بكر».([11])
وخلف أحمد أولادا منهم سعد الدين محمد، وحق الدين محمد وهذان الشيخان هما أبرز أمراء هذه الدولة.
حق الدين محمد:
كان شيخا عالما مجاهدا، تبين له معنى الولاء والبراء، حتى ذكر أنه قتل عمه في الجهاد، وكان هذا العم في صف الأمهرة (أي كان مع الكفار)، وكان الشيخ صاحب جهاد حتى استشهد أخيرا في صفوف القتال.
يقول الحافظ عنه: «اشتغل (حق الدين) بالعلم وتقدم فيه فهجره جده علي وعمه (ملا اصفح) حتى ألزمه بالإقامة في عمله وإخراجه لجباية بعض البلاد فحنق من ذلك، وجمع الناس على العصيان على عمه فانتصر (حق الدين) وكان عمه استنصر بالحطى فأنجده فقُتل العم في المعركة وانهزم الجيش وصار حق الدين إلى جده فتأدب معه وأمده جده بمال فبنى (حق الدين) مدينة سماها (وحل) وأسكن بها أكثر أهل مدينة وفات واستمر على محاربة جيوش الحطى حتى قيل إنه وقعت بينهم في مدة تسع سنين عشرون وقعة كلها ينتصر عليهم فلما كان في الوقعة الأخيرة استشهد وذلك سنة 776 وكان مقداما شجاعا عجولا ملك بتسع سنين واستقر بعده أخوه سعد الدين أبو البركات محمد».([12])
سعد الدين محمد:
هو أشهر سلاطين الأسرة وهو مجاهد عظيم ورجل من رجالات الإسلام في شرق إفريقيا دام حكمه 30 عاما وشهد نهضة ثقافية وعلمية، وكأسلافه كانت له المعارك مع الأمهرة والكفار، وفي زمانه قوي الإسلام وعظمت شوكته، ودخل معارك عظيمة حتى استشهد أخيرا في شعبان 805هـ الموافق 1402م.
يقول الحافظ عنه: «استقر في مملكة الحبشة للمسلمين بعد أخيه حق الدين، فسار على سيرته في جهاد الكفرة وكانت عنده سياسة وكثرت عساكره وتعددت غاراته واتسعت مملكته حتى وقع له مرة أن يبيع الأسرى الذين أسرهم من الحبشة كل عبدين بتفصيلة، وبلغ سهمه من بعض الغنائم أربعين ألف بقرة فيقال إنه لم تبت عنده بقرة واحدة بل فرّقها، وله في مدة ولايته وقائع وأخبار يطول ذكرها، فلما كان في هذه السنة (805) جمع الحطى صاحبُ الحبشة جمعاً عظيماً وجهز عليهم أميراً يقال له باروا فالتقى الجمعان فاستشهد من المسلمين جمع كثير منهم أربعمائة شيخ من الصلحاء أصحاب العكاكيز، وتحت يد كل واحد من العلماء عدد من الفقراء، واستمر القتل في المسلمين حتى هلك أكثرهم وانهزم من بقي، ولجأ سعد الدين إلى جزيرة زيلع في وسط البحر، فحاصروه فيها إلى أن وصلوا إليه، فأصيب في جبهته بعد وقوفه في الماء ثلاثة أيام فطعن فمات، وكانت مدة ملكه ثلاثين سنة، واستولى الكفار على بلاد المسلمين وخربوا المساجد وبنوا بدلها الكنائس وأسروا وسبوا ونهبوا». ([13])
ويقول السخاوي عنه: «محمد بن أحمد بن علي بن عمر؛ أو محمد سعد الدين أبو البركات بن حرب أرغد بن صير الدين بن ولسمع الجبرتي الحبشي ويعرف كسلفه بابن سعد الدين، والد (صير الدين محمد) الآتي؛ ملك المسلمين من الحبشة، كان أخوه (حق الدين محمد) المذكور في الدرر قد حبسه مدة فاتفق أنه ملك بعده سنة ست وسبعين وسلك مسلكه في محاربة الحطى وتمكن في الملك بتؤدة وسياسة واتسعت مملكته وكثرت جيوشه».([14])
وباستشهاد الشيخ سعد الدين انتهة مملكة الضوء، مملكة وقفت في وجه الكفر وقالت له: «لا، ولن نستسلم إلا لله، لا نخاف قوة غير الملِك الجبار» مملكة بُنيتْ على أسس دينية ومبادئ عقدية يموت لرفعها الأبطال ويستشهد دونها الأمراء والصلحاء والعقلاء، دولة عز وشرف وإباء لا ترضى الذل ولا الهوان، حتى ولو تداعت عليها أمم الكفر جميعا.
وبعد هذه الهزيمة لم يرض المسلمون بالأسر والاستعباد، بل بدأوا الاستعداد من جديد وهاجر بعضهم إلى اليمن ليجدوا المال والنصرة من إخوانهم المسلمين في يمن الإيمان والحكمة، هاجر أبناء سعد الدين وهم عشرة إلى اليمن فأكرمهم الناصر أحمد بن الأشرف وأعطاهم المال والخيول، ثم رجعوا إلى الميادين والقتال فتوجهوا إلى مكان يقال له السيارة وهي جزيرة في البحر ثم لحق بهم ما بقي من عساكر دولة سعد الدين، فكونوا جيشا كاملا وأسسوا سلطنة عدل الإسلامية وجعلوا أميرهم صبر الدين علي ابن سعد الدين محمد، وهو من أبناء الشيخ سعد الدين وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
[1] عبد الرزاق علي عثمان: القرن الإفريقي: التاريخ والجيوبولتيك، مرجع سابق، ص: 389.
[2] مجموعة من المؤلفين: العرب والقرن الإفريقي: جدلية الحوار والانتماء، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، أكتوبر 2013، وأيضا: حسن سلمان: القرن الإفريقي بين تحديات الداخل وتدخلات الخارج، مرجع سابق.
[3] النفوذ الإيراني السعودي بمنطقة القرن الإفريقي: الدوافع وأدوات الصراع، صحيفة الاستقلال، أبريل 2019، ص: 4
[4] القرن الإفريقي: لعبة المصالح الدولية وحسابات دول المنطقة “الجزء الأول”، تقرير من إصدار مركز الصومال الجديد، بتاريخ 17 يناير 2018، ص: 5. وأيضا: حسن سلمان: القرن الإفريقي بين تحديات الداخل وتدخلات الخارج.
[5] دراسات أفريقية في التاريخ الحديث والمعاصر رأفت غنيمي ط1 دار الكلمة بالقاهرة 1432هـ 2011م، ص 37 وما بعدها.
[6] العلاقات السياسية بين مسلمي زيلع ونصارى الحبشة للأستاذ الدكتور رجب محمد عبد الحليم ، دار زيلع، ص 29، 30
[7] العلاقات الدولية في كنف الممالك الإفريقية أحمد بلولة، أوراق قدمها لمؤتمر الدولي: الإسلام في أفريقيا نظمت جمعية الدعوة العالمية المنعقد في ليبيا بتاريخ نوفمبر 2006، ص 15
[8] نفس المراجع السابقة
[9] العلاقات السياسية بين مسلمي زيلع ونصارى الحبشة للأستاذ الدكتور رجب محمد عبد الحليم ، دار زيلع، ص 23، 24
[10] ( الدرر الكامنة 3\342).
[11] ( الدرر الكامنة 3\342).
[12] الدرر الكامنة 3\342).
[13] إنباء الغمر- سنة: 805هــ- جـ2\237-238 ط:1389 هــ- القاهرة .
[14] الضوء اللامع 7\16- دار مكتبة الحياة – بيروت؛ بدون تاريخ.