كيف تُضبط المصالح في ميزان الشريعة؟
إن مبنى الشريعة على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وكل مسألة خرجت عن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بنوع من التأويل.
وقد بلغ من استقرار هذا الأمر في نفوس عامة أهل العلم وخاصتهم مبلغًا لا يُحتاج معه إلى تنويه وتنبيه .
ولكنْ .. كثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا؛ وتجده عند تحقيق الأمر ذا منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى : ” قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما “.
وأَعْرَضُ الدعاوى ادعاء المصلحة في الاجتهاديات، وما شاء أحد أن يرد من أمر الديانة ما شاء إلا تسوّر ذلك بدعوى المصلحة في بحثه وتقريره، وهو ادعاء مشترك بين عديد من العاملين في الساحة الإسلامية .
والعصمة موكولة بضبط ميزان الشريعة للمصالح والمفاسد، فإن الاشتباه واقع بسبب عدم تحقيق المعتبر والملغى من المصالح أو عدم ضبط مراتبها، ومثله عدم ضبط مراتب ما يرتكب من المفاسد لاسيما إذا اجتمعت في محل واحد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء “.
ولهذا فالجاري في العادة أن طروء الخلل في التصرفات الفقهية – في هذا الباب – ليس يأتي من إهدار المصالح وإلغائها؛ بقدر ما يأتي من إعمالها على غير قانون الوحي ومجافاتها له .
وهذا التجافي عن قانون الوحي – في هذا الباب – يقع على أنواع:
- فمن ذلك عدم الالتفات للمصالح القلبية الإيمانية في مقابل المصالح الدنيوية المحسوسة، فإنه لما كان للمصالح الشرعية المدركة بالمعقول؛ داعية في الطبع تدعو إلى حياطتها وحفظها؛ جاء الخلل بإهدار بعض المصالح الإيمانية المتعلقة بأمر غيبي مما ليس يدرك بمباشرة المحسوسات .
فقد ثبت في مسلم ﻋﻦ ﻋﻤﺮاﻥ ﺑﻦ ﺣﺼﻴﻦ ﻗﺎﻝ : (ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺃﺳﻔﺎﺭﻩ، ﻭاﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﻋﻠﻰ ﻧﺎﻗﺔ، ﻓﻀﺠﺮﺕ فلعنتها، ﻓﺴﻤﻊ ﺫﻟﻚ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ : “ﺧﺬﻭا ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﺩﻋﻮﻫﺎ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ملعوﻧﺔ “
ﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮاﻥ : ﻓﻜﺄﻧﻲ ﺃﺭاﻫﺎ اﻵﻥ ﺗﻤﺸﻲ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺱ، ﻣﺎ ﻳﻌﺮﺽ ﻟﻬﺎ ﺃﺣﺪ) .
فهذا نص في اعتبار مصلحة المباعدة عن الأعيان الملعونة، لدخولها في الشر والشؤم ونقص البركة واليمن باللعن، وهي مصلحة لها نظائر مما اعتبرتها نصوص الوحي .
فإن للمعاصي – واللعن بخاصّة – من التأثير على المكلفين والديار والعجماوات ما جعل الشريعة تهدر مالية هذه الأعيان ومنفعتها توقيا من ذاك التأثير .
وهذا باب عظيم من أبواب المحافظة على تلك المصلحة بهذا الزاجر المالي، فإن رؤية الصحابة للناقة لا يتعرض لها، وسلب ماليتها ومنع الانتفاع بها – مع عظم حاجة الصحابة – وهم في سفر طاعة – فإن كل أسفار النبي ﷺ كانت في غزو أو نسك – فمع الداعية الحاجيّة لحرز المال وصونه في مثل تلك الحال، ولكن النبي ﷺ لم يعتبر هذه المصلحة في مقابل دفع تلك المفسدة .
ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﺃﻥ اﻟﻨﺎﺱ ﻧﺰﻟﻮا ﻣﻊ رسول الله ﷺ ﺃﺭﺽ ﺛﻤﻮﺩ، اﻟﺤﺠﺮ، ﻓﺎﺳﺘﻘﻮا ﻣﻦ ﺑﺌﺮﻫﺎ، ﻭاﻋﺘﺠﻨﻮا ﺑﻪ، ﻓﺄﻣﺮﻫﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺃﻥ يهريقوا ﻣﺎ اﺳﺘﻘﻮا ﻣﻦ ﺑﺌﺮﻫﺎ، ﻭﺃﻥ ﻳﻌﻠﻔﻮا اﻹﺑﻞ اﻟﻌﺠﻴﻦ، ﻭﺃﻣﺮﻫﻢ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻘﻮا ﻣﻦ اﻟﺒﺌﺮ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺩﻫﺎ اﻟﻨﺎﻗﺔ “.
قال ابن هبيرة :” فإن البركة تؤثر في الأرض والماء، وكذلك اللعنة والعذاب ” وفيه دليل على أن إهدار المصلحة المالية بمثل هذا الاعتبار .
وفي هذا المعنى الشريف يقول ابن تيمية :” ﻭﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﻘﺼﺮ ﻧﻈﺮﻩ ﻋﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﺒﻪ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻣﻦ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭاﻟﻨﻔﻮﺱ ﻭﻣﻔﺎﺳﺪﻫﺎ، ﻭﻣﺎ ﻳﻨﻔﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭﻣﺎ ﻳﻀﺮﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻐﻔﻠﺔ ﻭاﻟﺸﻬﻮﺓ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ( ﻭﻻ ﺗﻄﻊ ﻣﻦ ﺃﻏﻔﻠﻨﺎ ﻗﻠﺒﻪ ﻋﻦ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻭاﺗﺒﻊ ﻫﻮاﻩ ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻣﺮﻩ ﻓﺮﻃﺎ )، ﻭﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ( ﻓﺄﻋﺮﺽ ﻋﻦ ﻣﻦ ﺗﻮﻟﻰ ﻋﻦ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻭﻟﻢ ﻳﺮﺩ ﺇﻻ اﻟﺤﻴﺎﺓ اﻟﺪﻧﻴﺎ ) ( ﺫﻟﻚ ﻣﺒﻠﻐﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻢ)، ﻓﺘﺠﺪ ﻛﺜﻴﺮا ﻣﻦ ﻫﺆﻻء ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻷﺣﻜﺎﻡ ﻻ ﻳﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﻭاﻟﻤﻔﺎﺳﺪ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻋﺎﺩ ﻟﻤﺼﻠﺤﺔ اﻟﻤﺎﻝ ﻭاﻟﺒﺪﻥ “.
- ومن فروع ما سبق ما يتصوره بعضهم من أن المصالح إنما شرع حفظها لجلب النفع ودفع الضر المجرد، ويغفل عن كونه شرع للمحافظة على (مقصود الشارع) أصالة، وإصلاح القلوب وإخراجها من تحكمات الهوى وتسلطه .
يقول الشاطبي : ” إن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت وقد قال ربنا سبحانه: ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ) .. ومن أمثلة ذلك الجهاد قال تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم) ” .
وهذا لا ينافي أن الشريعة قد جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت لهم حظوظهم ..
ولهذا فتأمل ما ثبت في الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺃﻥ اﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﺯﻭﺟﺖ اﺑﻨﺘﻬﺎ، ﻓﺘﻤﻌﻂ ﺷﻌﺮ ﺭﺃﺳﻬﺎ، ﻓﺠﺎءﺕ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﺬﻛﺮﺕ ﺫﻟﻚ ﻟﻪ، ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﺇﻥ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺻﻞ ﻓﻲ ﺷﻌﺮﻫﺎ، ﻓﻘﺎﻝ: ” ﻻ، ﺇﻧﻪ ﻗﺪ ﻟﻌﻦ اﻟﻤﻮﺻﻼﺕ “
فمع أن التزين للزوج من محاسن ما أباحته النصوص، ورعيه يؤول إلى مقصد المودة بين الزوجين، وهو من مباح رغبات النفس وحظوظها، وهنا فلم تبدر – تلك الصحابية – بالوصل دون حاجة، بل قد تضايق بابنتها الحال بالمرض، وتمزق شعرها وهي تريد إدخالها على زوجها، ولكن مع كل ذلك لم يعتبر ﷺ كل تلك المنافع في مقابل مصلحة رياضة النفس بالخروج عن هواها ورغباتها المحرمة .
ويدل على ذلك ما روى الشيخان عن ﻋﺒﺎﻳﺔ ﺑﻦ ﺭﻓﺎﻋﺔ ﺑﻦ ﺭاﻓﻊ، ﻋﻦ ﺟﺪﻩ ﺭاﻓﻊ ﺑﻦ ﺧﺪﻳﺞ، ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺎ ﻣﻊ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺑﺬﻱ اﻟﺤﻠﻴﻔﺔ، ﻓﺄﺻﺎﺏ اﻟﻨﺎﺱ ﺟﻮﻉ، ﻓﺄﺻﺒﻨﺎ ﺇﺑﻼ ﻭغنما، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻲ ﺃﺧﺮﻳﺎﺕ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻌﺠﻠﻮا ﻓﻨﺼﺒﻮا القدور، ﻓﺪﻓﻊ ﺇﻟﻴﻬﻢ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﺄﻣﺮ ﺑﺎلقدور ﻓﺄﻛﻔﺌﺖ “.
فإنك إذا تأملت هذا الحديث ثم رأيت كيف أن النبي ﷺ لم يوسع للمجاهدين من صحابته – مع حاجتهم – في أكل ما ذبحوه قبل القسمة، بل أمر بإتلافه، ولم يعصم ماليته، ولم يعتبر مصلحة حفظ المال، مع أن هذا المال في آخر أمره من مال الغانمين في الجملة، ومع هذا تجد أنه ﷺ عاقبهم بحرمانهم منه مع تعلق قلوبهم وقرمهم إليه ليكون أبلغ في الزجر، وآكد في التنبيه على مصلحة إصلاح القلب بالبعد عن المعاصي.
- ولأنه قد استقر في الشرع تعظيم (الأموال وعصمتها) فربما عظم بعضهم ذلك فوق رعاية مصلحة (خروج النفس عن هواها) ، حتى تجد من يستشكل أن يتلف النبي ﷺ هذا الطعام، فيقول المهلب : (واعلم أن اﻟﻤﺄﻣﻮﺭ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺇﺭاﻗﺔ القدﻭﺭ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺇﺗﻼﻑ ﻟﻨﻔﺲ اﻟﻤﺮﻕ ﻋﻘﻮﺑﺔ ﻟﻬﻢ، ﻭﺃﻣﺎ ﻧﻔﺲ اﻟﻠﺤﻢ ﻓﻠﻢ ﻳﺘﻠﻔﻮﻩ !
ﺑﻞ ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﺟﻤﻊ ﻭﺭﺩ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﻐﻨﻢ ﻭﻻ ﻳﻈﻦ ﺃﻧﻪ ﷺ ﺃﻣﺮ ﺑﺈﺗﻼﻓﻪ، ﻷﻧﻪ ﻣﺎﻝ ﻟﻠﻐﺎﻧﻤﻴﻦ، ﻭﻗﺪ ﻧﻬﻰ ﻋﻦ ﺇﺿﺎﻋﺔ اﻟﻤﺎﻝ ﻣﻊ ﺃﻥ اﻟﺠﻨﺎﻳﺔ ﺑﻄﺒﺨﻪ ﻟﻢ ﺗﻘﻊ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ مستحقي اﻟﻐﻨﻴﻤﺔ إذ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺘﻬﻢ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﺨﻤﺲ ﻭﻣﻦ اﻟﻐﺎﻧﻤﻴﻦ ) .
ولست أشك أن ما قاله المهلب – وتتابع عليه جمع من الشراح دون تعقب – غير صحيح، فليس في إراقة المرق واستبقاء اللحم زاجرة تزجر من وقع في المخالفة، وهو خلاف ظاهر النص الذي لم يفصل في الواقعة، و يقوي ذلك ما جاء في سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال : ” ثم جعل يرمل اللحم بالتراب “.
- وقد يدخل الخلل حين لا تستبشع المفسدة على نحو استبشاع الشرع لها، فيوسع المتفقه العذر بارتكابها بغير موجب .
فتأمل ما رواه الشيخان عن ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ قالت: ﺟﺎءﺕ اﻣﺮﺃﺓ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻥ اﺑﻨﺘﻲ ﺗﻮﻓﻲ ﻋﻨﻬﺎ ﺯﻭﺟﻬﺎ، ﻭﻗﺪ اﺷﺘﻜﺖ عينها، ﺃﻓﺘﻜﺤﻠﻬﺎ ؟
ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ : ” ﻻ .. ” ﻣﺮﺗﻴﻦ ﺃﻭ ﺛﻼﺛﺎ، ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﻘﻮﻝ : ” ﻻ “
ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ : ” ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺃﺷﻬﺮ ﻭﻋﺸﺮ، ﻭﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺇﺣﺪاﻛﻦ ﻓﻲ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﺗﺮﻣﻲ ﺑﺎﻟﺒﻌﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱ اﻟﺤﻮﻝ “.
فلم يأذن النبي ﷺ لمن اشتكت عينها أن تكحلها في الإحداد، مع رعاية الشريعة لحفظ الأبدان، ولكن لما كان كحل الزينة لا يتعين طريقا للشفاء، لم يوسع النبي ﷺ فيه .
وقد روي في سنن أبي داود ﺩﺧﻞ ﻋﻠﻲ ﺭﺳﻮﻝ الله ﷺ ﺣﻴﻦ ﺗﻮﻓﻲ ﺃﺑﻮ ﺳﻠﻤﺔ، ﻭﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻲ ﺻﺒﺮا، ﻓﻘﺎﻝ :
” ﻣﺎ ﻫﺬا ﻳﺎ ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ ؟ “
ﻓﻘﻠﺖ :
ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﻃﻴﺐ .
ﻗﺎﻝ: ” ﺇﻧﻪ ﻳﺸﺐ اﻟﻮﺟﻪ ﻓﻼ ﺗﺠﻌﻠﻴﻪ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻠﻴﻞ، ﻭﺗﻨﺰﻋﻴﻨﻪ ﺑﺎﻟﻨﻬﺎﺭ “.
فلما احتيج لذلك قيد بقيود عند جمع من فقهاء الأمة :
بكونه كحلا غير ذي زينة
مما يحتاج إليه
وتضعه بالليل
فهذه قيود ثلاثة ينص عليها جمع منهم .
- ومثله عدم ضبط مراتب المصالح على النحو الذي جاءت به الأدلة، وذلك بالاسترسال في تعظيم مصلحة – معتبرة في الجملة – بأكثر مما عظمتها الشريعة، والواجب أن يكون ” اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها “
واعْتَبر ذلك فيما لو سئل بعضهم عن مفسدة ( الرجوع في الهبة ) في مقابل ( مصلحة حفظ فرس؛ أعطيت لمن يجاهد بها) ، فلربما وجدت من لا يتردد في الجزم بأن مقاصد الشريعة تدل على وجوب شراء الفرس – التي أعدت للجهاد – وأخذها من يد من لم يحفظها، لتكون فيما أعدت له، وربما عضد قوله بذكر ما للخيل من شرف أكّدت عليه النصوص، حتى حفظ جنسه بمنع إنزاء الحمير عليها.
لكن إذا ﺳﻤﻌﺖ حديث ﻋﻤﺮ أنه قال : ﺣﻤﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺱ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ، ﻓﺄﺿﺎﻋﻪ اﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻩ، ﻓﺄﺭﺩﺕ ﺃﻥ ﺃﺷﺘﺮﻳﻪ ﻭﻇﻨﻨﺖ ﺃﻧﻪ ﻳﺒﻴﻌﻪ ﺑﺮﺧﺺ، ﻓﺴﺄﻟﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ : ” ﻻ ﺗﺸﺘﺮﻱ، ﻭﻻ ﺗﻌﺪ ﻓﻲ ﺻﺪﻗﺘﻚ، ﻭﺇﻥ ﺃﻋﻄﺎﻛﻪ ﺑﺪﺭﻫﻢ، ﻓﺈﻥ اﻟﻌﺎﺋﺪ ﻓﻲ ﺻﺪﻗﺘﻪ ﻛﺎﻟﻌﺎﺋﺪ ﻓﻲ ﻗﻴﺌﻪ”.
وربما قيل : ولكن النبي ﷺ لم يمنع غير عمر من شرائه، قيل : نعم، لتخلف المفسدة المقابلة، فالمقصود هو ذكر تقابل مصلحة مع مفسدة الرجوع في الهبة.
إذا سمعت ذلك عقلت شيئا من الترتيب المصلحي في النصوص، وعلمت أن الفقيه الذي يريد معايرة درجات المصالح لابد أن يردد النظر كثيرا في رتبها، وخصال اعتبارها على نحو قانون الشرع، وليس بحسب ما يصول في النفوس .