في ظلال الرسالة للإمام الشافعي
قراءة في سمت التأليف الأمثل
قد تُمضي عقودًا تنهل من المعارف وتعبّ من العلوم، تظنّ نفسَك بذلك تحصّل العلم، حتى إذا وفّقت في آخرة طريقك إلى معلّم بصيرٍ قادرٍ على أن يكشف لك عن قدر ما حصّلته ويوقفك على قيمة ما استفدته، قفّ شعر رأسك واقشعرّ بدنك للنتيجة التي يكشف لك عنها؛ ترى هل توافق هواك هي أم تخالفه؟ ويكاد قلبك يقف حين يسلّط عليك كشّاف إضاءته القويّ، فيظهر ما في صدرك على حقيقته، وتوقن أنك خاسرٌ حين ينبئك الحال أنّ عمرًا مديدًا وجهدًا كبيرًا قد مضى في غير الاتجاه الذي يبلّغك هدفك.
سوف ترى إذا انجلى الغبار … أفرسٌ تحتك أم حمار!
وهذا قريب مما حدث معي، ففي أول لقاءاتي به عُني شيخنا عبد الخالق خلاف -حفظه الله – عنايةً بالغةً بتدريسي كتابَ الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله تعالى؛ لأمور ثلاثة:
- أنّ الرسالة ليست فهمًا لأصول الفقه فحسب، بل هي فهم للدّين كلّه، وحسب الرسالة أنها الرسالة!
- أنّ كاتب الرسالة هو الشافعي، والشافعي إمام من الأئمة، ولشيخنا عناية خاصّة بكتب الأئمة، فهو يرى أن كتب الأئمة تختصر العمر، وتوفّر الجهد، وتبني الملكات، وتؤسّس الطالب لتلقي المعرفة ببصيرة تعرف وتنكر، وتأخذ وتنقد، وتقبل وترفض، ميزانها في ذلك كلّه هو الكتاب والسنّة غير مختلطين بما عداهما، لا سيما إن كان هذا الإمام هو الشافعي، وحسب الشافعي أنه الشافعي!
- أنّ الرسالة من الكتب المؤسّسة للمعرفة التي تكشف بوضوح: كيف بنى المعرفة من بنوها؟ وكيف وصلوا إلى حقائق العلم من كتبوه لنا؟ ومعنى هذا أن الرسالة من الكتب التي لا تحكي لنا المعرفة التي فيها فحسب –وإن كان هذا مهمًّا جدًّا- لكنها تحكي لنا –مع ذلك كيف استخرجت المعرفة؟ كيف استنبطت؟ وهذا أهمّ من المعرفة نفسها، لأنّ من حصل المعرفة حصلها بعدد لابد له من نهاية ينتهي إليها واحتاج إلى غيره على الدوام، ومن عرف كيفية تحصيل المعرفة وطريقة استنباطها لم تنته معارفه واستغنى عن غيره، كما في المثل الشهير: “لا تعطني كلّ يوم سمكة ولكن علمني كيف أصطاد”.
التعليم بالحوار والمناقشة
بنى الشافعي -رحمه الله تعالى- كتاب الرسالة على طريقة فذّة في التأليف والتصنيف، هي طريقة التعليم بالحوار والمناقشة والمفاتشة، ولو ذهبنا نرصد هذه الطريقة في كتابه فسنقع على شواهد لا تحصى تنبئنا عن قصد الشافعي هذه الطريقة قصدًا، واختيارها من بين طرق كثيرة. انظر إليه – مثلًا – وهو يقول
المثال الأول
فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب! فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه، ولا ننكر إذ كان اللفظ قيل تعلمًا أو نطق به موضوعًا أو يوافق لسان العجم أو بعضها قليلًا من لسان العرب كما يتفق القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها مع تنائي ديارها واختلاف لسانها وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.
المثال الثاني
فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتاب الله قال الله: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمدًا بعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه وما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم، فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟
فإن كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع، وأولى الناس بالفضل باللسان من لسانه لسان النبي، ولا يجوز -والله أعلم- أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه..”.
المثال الثالث
وانظر إلى قوله: ” وأما القياس على سنن رسول الله فاصله وجهان ثم يتفرع في أحدهما وجوه، قال: وما هما؟ قلت: إن الله تعبد خلقه في كتابه وعلى لسان نبيه بما سبق في قضائه أن يتعبدهم به… فقال لي قائل: فمثل لي كل صنف مما وصفت مثالًا تجمع لي فيه الإتيان على ما سألت عنه بأمر لا تكثر علي فأنساه وأبدأ بالناسخ والمنسوخ من سنن النبي واذكر منها شيئًا مما معه القرآن وإن كررت بعض ما ذكرت، فقلت له: كان أول ما فرض الله على رسوله في القبلة أن يستقبل بيت المقدس للصلاة..”.
ويقول في موضع ثالث: “فقالك أفيمكن أن تخالف السنة في هذا الكتاب؟ قلت: لا، وذلك لأن الله -جل ثناؤه- أقام على خلقه الحجة من وجهين أصلها في الكتاب كتابه سنة نبيه بفرضه في كتابه اتباعها، فلا يجوز أن يسن رسول الله سنة لازمة فتنسخ فلا يسن ما نسخها”.
فإن قال قائل، فهل من دليل، فإن قال: ما الدليل على ما تقول، وما هما، فمثِّل لي.. إلخ.
طريقة الإمام
على هذه الطريقة مضى الشافعي في كتابه الرسالة يعلّم طلابه وقراءه عبر تساؤلات تثير الدافعية، وتجلي القريحة، وتبعث على التفكير وتنمي المشاركة، طريقة فذّة ميسورة وسائلها، محمودة نتائجها، مشكورة عواقبها.
وأول علائم هذه الطريقة في التعليم؛ إعلان المعلّم احترامه التام للمتعلم، شخصه وفكره ورأيه واقتراحه، وأول نتائجها أنها تكوّن لدى المتعلم وجدانًا شجاعًا، ومعرفة متجذّرة، ومهارة راسخة.
لقد أحصيت “قال وقلت”، وهي من أعمدة هذه الطريقة الحواريّة داخل كتاب الرسالة فوجدتها تربو على المائة موضع، خلاف الصيغ الأخرى التي تؤدي موداها في مقام المناقشة والحوار.
بل إنّ أول كلام الشافعي بعد المقدمة كان: ” باب كيف البيان؟ ” إنّه ليؤثر أن يكون عنوان الباب الأول الذي يطالعه القارئ لكتابه، سؤالًا يفجّر في النفس الطاقات والاستعدادات ويستنفرها للتدبر والتأمل.
وحين يضرب الشافعي المثَل بعد المثَل لما يقوله، بغية توضيحه وتبيينه لقارئ كتابه، فإنّه يحرص على الإشارة إلى أنّ وراء هذه الأمثلة أمثلة أخرى يجب على القارئ أن يتطلع للتعرف إليها والوقوف عليها بنفسه. فيقول – مثلًا – : “ولهذا أشباه كثيرة في القرآن والسنة”.
ويقول: “وفي القرآن ناسخ ومنسوخ غير هذا.. وإنما وصفت منه جملًا يستدل بها على ما كان في معناها”. هذه إضاءة قويّة تعني أنْ “من هنا الطريق”، وإشارة موجهة إلى أنّ سلوكها ضرورة، وتعريف واضح بأنّ السالك يكفيه من الزاد –لقطعها– البلاغ، فعلى معلّمه البداية وعليه هو التمام.
وإذا كان التربويون يتحدثون اليوم عن أسلوب الحوار والمناقشة ضمن استراتيجية التعلم النشط ويؤكدون على أنه يخلق جوًّا من التفاعل التربوي الإيجابي بين الطلاب ومعلّمهم، من خلال إشراكهم في الدرس، خصوصًا إذا تم اعتمادها بأسلوب مشوق بعيدًا عن النمطية، إذا كان هذا حديث التربويين اليوم إلى المعلمين راجين أن يكون هو الأسلوب المعتمد في التعليم خلال القرن الحالي فإن الشافعي قد فعّل هذا الأسلوب في كتبه عامة والرسالة خاصّة.
ولا أدري ما هو السبب الذي جعل الغالبية العظمى من المؤلفات الإسلاميّة تحيد عن هذه الطريقة، وجعل المعاصرين من شرّاح الكتب ومفيدي العلوم يلونها الأدبار، فصرنا نرى الدرس التعليمي والشرح الديني لكتاب من الكتب أو علم من العلوم يقوم على طريقة سمجة هي التلقين الذي يعتمد على ملق يتكلم من ناحية –هو المعلّم– ومستمع ينصت لهذه الملقي وهو الطالب، فأنتجت هذه الطريقة طلابًا من نوع غريب عجيب، لا يسائلون ولا يناقشون ولا يفاتشون، ويبعد جدًّا عنهم أن يقال يناظرون، ولهذا كانوا أبعد ما يكونون عن الإبداع والتجديد والاجتهاد، الذي يكثر الحديث عنه وتتعالى الأصوات بطلبه، فكيف يأتي هذا من ذاك؟
فرطت في الزرع يوم البذر من سفه … فكيف عند حصاد الناس تدركه.
إننا -ونحن ننادي بضرورة بثّ الوعي ونخوض معركته الكبيرة- مطالبون بالعناية الشديدة بكلّ خطوة من شأنها أن تسهم في خدمة قضيتنا ولو بالقليل، والحذر من كلّ تصرّف من شأنه أن يعيق عملنا أو يضرّ بإنجازاتنا، ومن أولى هذه الخطوات بل أهمها طريقة التعليم في محاضننا التربويّة: “الحضانة، والكُتّاب، والمدرسة الخاصة، وحلقة التحفيظ، ودرس التجويد” وكذلك في الدوريات المتخصصة، والكتب الموجّهة، والنشرات، واللافتات، والتغريدات… إلخ لتكون عونًا على صناعة جيل يعي، ويسأل، ويناقش، ويحاجّ ففي ذلك كلّ الخير، لواقعنا ولمستقبلنا.
وإلى لقاء آخر مع قراءة جديدة في سمت تأليف الرّسالة التي خَطَّها ذراع الشافعي، ذلك العالم الجهبذ الدرّاك الرائد، لله درّه.