سأصل: عن النجاح والاختلاف والتميز

سائر على كره، عالق في متاهة، مفعم بالأحلام نحو اليوم الذي فيه يصل. تساوره خيالات عن النجاح والتألق اللامحدود، ينادي “النجاح” صباح مساء، ينادي نجاحًا مبهم المعالم، لا يعرف كنهه ولا يهمه كثيرًا أن يعرف كنهه، المهم أن يكون نجاحًا… وأنه سيصل.

يسير باطراد نحو السراب، ويقطع سباقًا طويلا نحو اللاشيء. طاقات جمة تُستهلك، ومجهودات كبيرة تُبذل… لأجل اللاشيء.

ليس نحو اللاشيء تمامًا، فهناك شيء واحد هام عنده، أن تكون “الأنا” متميزة بين الحشود، تميزًا تبرق له العيون وتلتفت نحوه الأبصار… بغض النظر عن حقيقة هذا التميز، المهم أن يصل إليه مهما كلف الأمر.

وفي سبيل ذلك تتضخم “الأنا”، تضخمًا غير صحي يفضي إلى إعجابه بذاته وافتتانه بها دون سواها، كما يستفزه تجاهل الناس، ويحنقه نقدهم لـ “أناه” العظيمة، ويفهم هذا النقد على أنه هجوم على شخصيته الرائعة، فهو لا يريد أن يسمع منهم سوى مكاييل المديح والإعجاب التي تجعله يرتاح كثيرًا، بل ويصبح دور الناس في حياته هو تعزيز شعوره بالتميز والنجاح.

فهو وقود داخلي، ينتج رغبة ملحة في الشعور بالاختلاف (في أعين الناس)، حتى وإن كان الاختلاف صوريًا، وحتى إن كان اختلافًا لا ينفع، بل حتى وإن كان اختلافًا يعود عليه بالخسارة! فمعيار السير على الطريق الصحيح هو المديح عندما يُكال بالموازين.

ومن سماته أيضًا أن تجده يتمرغ في المشاكل، ولا يحب أن يسمع الحلول! بل ولا يشعر بوجود المشكلة في الأصل، فهو ما ينتظر إلا قارعة تحل به ولا سبيل لإيقاظه دونها، وفي الغالب لن تيقظه تلك القارعة أيضًا. فعينه وقلبه متعلقان بالمقصد، وهو المديح والإعجاب ممن حوله، وهو قد أغلق إذنيه وسار إلى هذا الهدف حتى…

إذا نظرنا إلى أي مجتمع فسنجده يتكون من ثلاثة أقسام، صغار يُهيؤون لمرحلة الشباب ويتطلعون إليها، وكبار مر عليهم الشباب فهم يتذكرون ذكرياته وينعمون بما تبقى من خيراته، وشباب يسيرون في سبيل أحلامهم وطموحاتهم.

فدعامة أي مجتمع، وعمود أي أمة الذي به تحرك الدنيا أو تحركها الدنيا إنما هو مجموع شبابه، والفلك الذي يدور حوله المجتمع هو فلك الشباب، كما أن حال المجتمع ككل هو مجموع حال شبابه.

فإذا أردنا حقا أن يكون الحال العام هو (خير أمة) فينبغي أن يكون الشاب خير شاب، والفتاة خير فتاة. فكيف بنا إذا كان حال الشباب هو حال السير المبهم؟ وحال طلب إعجاب الناس ومديحهم؟

كيف سيكون الحال العام في هذه الحالة؟

كيف إذا كان كل شاب من شبابه يبحث عن عملاقٍ ما داخله لكي يوقظه، ويبحث عن مارد ما لكي يخرجه، ويبحث عن أيَّما صفة تجعله متميزًا فريدًا–مهما كانت الصفة سيئة–، وهو يجعل معياره المقارنة بالغير والقياس عليهم، ويحدد موقعه في الحياة بناءً على تلك المقارنة الخاطئة. وهي خاطئة لأنه يقارن حاله بما يظهر من حال غيره، ولكن ما يظهر جزء ضئيل من حقيقة الحال داخل الإنسان! فيقيس نفسه على أمور ظاهرية بحتة غالبًا ما تكون غير صحيحة، فتكون مقارنة ظالمة لنفسه أو لغيره على السواء.

وقد يكتشف مبكرا أنه كان يسير نحو السراب، فيصاب بالاكتئاب الشديد ويصبح حاله هو اللافعل واللاأثر والسلبية القاتمة، فبعد أن كان يرنو أن يكون مختلفًا عن الجميع يصبح أقل من الجميع في كل شيء.

وقد لا يكتشف كنه السراب إلا بعد مرور أكثر العمر، وأنه يحتاج حياة أخرى لكي يصلح ما أفسده، فينادي: رب ارجعون! رب ارجعون! ولكن هيهات.

عاش نبينا حياة نقية كريمة، منها أربعون عامًا قبل البعثة، في بيئة جاهلية منحرفة في العقائد والأخلاق، متعاظمة في القوة المادية الصرفة، فلم يعهد عنه شيء من جوانب تميز عصره! كالتميز الأدبي في الشعر والنثر، أو التميز الخطابي في الأسواق والنوادي، أو زعامة القبائل، وكانت من أبرز جوانب تميزه الجوانب الأخلاقية، فهو الصادق الأمين الذي يرتضي الناس حكمه ويثقون برأيه.

ولم يعمل في هذه الفترة إلا في الرعي والتجارة! فبمعيارنا للنجاح فرسول الله لم يكن ناجحا قبل البعثة! وهذا كذب وافتراء، فرسول الله هو خير البشر قبل البعثة وأثناء البعثة وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

لكن معايير عصره في فترة ما لم تكن صالحة، فإذا طلب رضا الناس فلا بد أن يلتزم بمعايير عصره ويتميز كما يريدون وفق شروطهم، لكنه عمل كما يريد هو وترك أمر الناس وكلامهم الكثير جانبًا.

ليس المقصد هنا ألا يبحث الشباب عن النجاح والتميز. ولكن أن يحددوا أهدافهم جيدًا، ويعرفوا كنهها وحقيقتها بدون خداع للنفس، ثم يمضوا إليها بعيدًا عن تقييمات العصر وتعقيداته، وكثير من تلك التقييمات والمعايير خاوية من أيما مضمون، وربما كان النجاح في نظر تلك المعايير هو حقيقة الفساد.

فالشباب فترة تهيئة وإعداد، وتربية وفهم للذات، وتعلم مستمر دؤوب، وعمل قوي في دروب كثيرة، وإطلاق حر للخيال، وطموح جارف نحو الأفضل من كل شيء، بل هو أصعب فترات العمل في حياة الإنسان!

لكنه ليس فترة لهث نحو شهرة، أو بحث عن تميز ظاهري فارغ، أو طلب رضا الناس الذي لم يتأتى لبشر.

ونهاية

 لنتذكر أن الحكم المنصف الوحيد على أفعالنا لن يكون هنا أبدا.


إعداد: محمد عوض

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى