إني جاعلٌ في الأرض خليفة

خلق الله جلّ جلاله القلم والسماوات والأرض، وخلق الملائكة والجن كانت الملائكة رمز الخير، خلقوا من نورٍ، لا يعصون الله ما أمرهم ويأتمرون بأمره سبحانه.. ويومًا خاطب الملائكة: “إني جاعلٌ في الأرض خليفة” من لطائف إخبار الله لملائكة بهذا الأمر أن لهم أدوارًا كثيرة مع بني آدم، فملكٌ موكل بالمطر، وملكُ الموتِ، والملائكة عن أيماننا وشمائلنا، وسيد الملائكة جبريل عليه السلام ينزل بوحي السمـاء إلى الأرض، وسُمي أيضًا: الروح القدس “قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين” .. والروح الأمين: “نزل به الروح الأمين” وشديد القوى.

إني جاعلٌ في الأرض خليفة

مهمة عظيمة وحملٌ ثقيل أنيط بك قبل خلق أبينا آدم عليه السـلام، وفي كل لفتاتنا علينا ألا ننسى حجم ما ألقي على عاتِقنا، حتى قيل إن تلك الفتاة التي قالت: إن كان عمر لا يرانا الآن فإن رب عمر يرانا” قد قامت بدور من أدوار استخلافهـا في الأرض..فماذا عنك!

رمز الـشر

كان هناك جنٌ وملائكة، خلق الله الملائكة من نورٍ وخلق الجنَ من نار والجن منهم الصالحون ومنهم أتباع إبليس، وكان الملائكة في مقامٍ كريم فهم يعبدون الله ويعظمونه ولا يعصونه أبدًا، وكان من بين الجنِ (إبليس) _رمز الـشر_ أراد مثل مقام الملائكة الرفيع لكن بغير إجلالٍ لله في قلبه ولا تعظيم، أراد لنفسه، ليشعر بنشوةِ أنه في مقامٍ رفيع! فظل يجتهد في العبادة غيرُ مخلص، غايته النهائية ليست رضا الله عز وجل، بل إشباع غروره وكبره! ظل يجتهد حتى صار مع جموع الملائكة الكِرام.

خلق آدم عليه السلام

خلق الله آدم عليه السلام في أحسن صورة، ولما نفخ فيه الروح عطس آدم، فكان أول ما قيل له من ربه: “يرحمك ربك” !  وكأن الحمد مما يستحق به العبدُ رحمة الله عز وجل. وأول ما خاطب آدم الملائكة علمه الله أن يقول لهم: السلام عليكم، فكانت تحية بنيه من بعده، وأول خطاب الملائكة لأهل الجنة: “سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين” وأيضًا خطاب الله لأهل الجنة.

ومن لطائف خلق الإنسان أنه مكونٌ من روحٍ وطين يتنازع بين الخيرِ والشر، بين سمو الملائكة ودناءة إبليس.. فالروح تسمو به وترقى في مقامات الإيمان والإحسـان.. والطين يتجاذبه للشرور والبطش والكبر.
“وهديناه النجدين” طريقي الخير والشر، كلما جاهد يرقى في طريق الخير والإيمان اقترب من طهر الملائكة، وكلما انساق خف شهواته ووسوسة الشيطان وظل ماضيًا في غيه فإنه يدنس طهره هذا، لكن لأننا بشر سنخطئ حتمًا لكن علمنا الله أن نغسل أخطاءنا هذه بالندم والتوبة الصادقة.

وهنا لفتةٌ جميلة في خلق إبليس: ألم يُقرر للإنسان قبل خلقه أن يكون خليفة في الأرض، ألم تكن وظيفتنا “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” أن يميز بين طريقي الخير والشر..
ألا يتطلب هذا وجود قوى الشر(إبليس)؟ ألا يتطلب هذا وجود ابتلاءات؟ “وهو الذي خلق الموت والحياة يبلوكم أيكم أحسن عملًا”

وجـاء الاختبار

تمضي سنة الكون دومًا كما قال تعالى: “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون”
فجاء الاختبار وإذا بأمر الله يصدر لجمع الملائكة ومن أراد أن يندس بينهم “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين” أمر الله الجمع بالسجود لآدم عليه السلام سجود تكريمٍ لا سجود عبادة.. هنـا سجد الملائكة كلهم أجمعين إلا إبليس لم يكن من الساجدين”
هـا قد جاء الاختبار يبرز صدق الإيمان وإجلال الله في القلوب، فليس الدين مجرد كلماتٍ تقال، بل هو تكاليفٌ ويقين وعبادة، فإذا بالملائكة يمتثلون وإبليس لا يكاد يصدق.. أيعبد الله كل هذا ليرقى مع الملائكة، فإذا به يؤمر بالسجود لبشرٍ يرى أنه خيرٌ منه “قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين”
قياسٌ فاسدٌ ومنطقٌ معوج وسوء أدبٍ مع الله عز وجل، جعل الله الخيرية بصدق العبادة: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” .. ولأن تساؤله كان كبرًا لا يقينًا بالله مع تطلع نفسه للمعرفة، مع قياسه الفاسد فم يعد من مجالٍ للمناقشة، ووقع عليه العقاب

كما أنه حين عصى لأول مرة كان لديه باب الندم والتوبة، لكنه ازداد عصيانًا وكبرًا .. وكأن الله يعلمنا أن الطاعة تسمـو بنا بينما المعصية تقلل درجاتنا.. حين فعل إبيس هذا نسي كونه عبدًا لله عز وجل.

 العدو الأول

ماذا دهى إبليس ليطرد من رحمة الله ومن جنته؟! إنها آفة الآفات (أمراض القلب والنفس) .. الكبرُ والرياء.. في البداية عمل عملًا لم يخلص فيه لله عز وجل بل لينال المجد كما الملائكة فلنراقب أعمالنا جيدًا ألا تخرج لغير وجه الله عز وجل، كلام الناس لا يفيد بشيء أبدًا  غير أن يوافق هوى أنفسنا في ثناء الناس علينا.. لكن، ماذا تكون النتيجة؟ أن يحبط هذا العمل الذي أريد به غير وجه الله عز وجل، فإن من توحيد الألوهية: إفراد الله عز وجل بالعبادة وحده، وأن نعمل العمل لا نبتغي به غير وجهه الأعلى
.. ثم لما نزل بإبليس الاختبار ليكشفه الله أمام نفسه ما ندم ولا تاب أنه عمل حظ نفسه، بل امتلأ كبرًا وغرورًا..  وإنّ الكبر والنظر إلى النفس آفة تعمي عن رؤية الله عز وجل الذي كل أمرنا بيده، إن المرء كلما تعاظم لديه قدر نفسه نسي أن كل ما يملكه من عقلٍ يفكر به أو نفس يخرج منه أو هدى اهتداه ..أنما كل ذلك بفضل الله وحده ولولاه سبحانه ما اهتدينا.
كل ما في حياتك أتاك خالصًا من الله وحده، وقد يسر لك أسبابًا توصله إليك، فاجعـل عملك ابتغاء وجه الأعلى وحده.

واحذر من نفسك أن تطيع هواهـا!

فنحن مع أنفسنا في معركة إما تجبرنا على طاعة هواها فنخالف أمر الله، وإمـا نجذبها نحن للانسياق لأمر الله عز وجل حتى يصبح هواها كمراد الله عز وجل..أولسنا نردد كل يوم وليلة: “يا حي يا قيوم برحمتك استغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين” ونردد أيضًا: “اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه”

وكانت المعصية الأولى بسبب النظر إلى النفسِ واتباع هواهـا.

معركةٌ حتى الموت


لما عوقب إبليس، لم يفكر أن يتضرع له عز وجل ليخفف عنه أو يمهله ليتوب، سبحان الله.  بل قال: “فبعزتك لأغوينهم أجمعين” “لأقعدن لهم صراطك المستقيم” أو يعرف الصراط المستقيم ثم يحيد عنه؟!

اختار إبليس ألا يعاقب وحده، وألا يخلد في النار وحده..واستشاط غضبًا على آدم وبنيه، وصارت مهمته في الحياة أن يغويهم.. فنحن جنودٌ في معركة لا تنتهى إلا بموتنا تتطلب يقظة وانتباه، وإبليس يترصدنا في كل لحظة، وبغير اللجوء لله عز وجل يصبح الواحد منا كورقة ضعيفة تتناقلها الريح حيث تـشاء.

خلقكم من نفسٍ واحدة وخلق منهـا زوجها


خلق الله حواء من ضلع آدم عليه السلام، ليسكن إليهـا ويأنس كل منهمابالآخـر “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة” .. وهي آية من آيات الله فعلًا! ودومًا ألحظ تلك العلاقة الوثيقة بين مدى إنهـاك الروح ومدى إدراكها احتياجها لهذا السكن!

وطالما أقف بين يدي أمنا خديجة _رضي الله عنهـا_ المعلمة الرائعة، ومواقفها العظيمة، وكيف قامت بدورها على أكمل وجه فكانت ملاذًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يضيق صدره بتكذيب قومه، حين يصيبه الكدر منهم فكانت له سكنًا يأوي إليه فتخفف مما أصابه. فكانت تصدقه وتعينه على أمره ثم هي تخفف عنه مشاقًا يلقاها.. ولا تنسى أن تقوم على أمر أبنائها ومهمة صياغة الأنفس.
وفي هذا كله، يظل يدرك المرء أنمـا هذا الأمر هو فضلٌ من الله المنعم، فيزداد منه قربًا ويمتلأ قلبه شكرًا.

ولهذا كانت حـواء، لما قال لها آدم: لم خُلقتِ؟! قالت: لتسكن إليّ.. فلا تنسي أنكِ حـواء!

وعصى آدم ربه فغوى


بدأ إبليس مهمته الدنيئة في غواية آدم وبنيه عن صراط الله المستقيم.. ظل يغوي آدم وحـواء ويزين لهم المعصية، فبدأ بتزييف المصطلحـات فقال عن الشجرة: “هل أدلك على شجرة الخلد وملكٍ لا يبلى” ! ليزين لهما المعصية، وكذلك يقتفى أثره المفسدون في الأرض فيسمون العري وندية المرأة للرجـل بـ (تحرير المرأة) ويسمون المؤمنين الصادقين المدافعين عن حقوق الله( إرهابيين متشديين) ويسمون أهـل الإرهـاب والقتل والتشريد ( أصحـاب العدالة_ مجلس الأمن) وإن كان أكثرهم شهرة في تزييف المصطلحات هو فرعون!

نعود لإبليس، كان يغويهمـا بزينة الدُنيا الفانية (شجرة الخلد، وملك لا يبلى!) فالنظر إلى الدُنيا بزينتها الزائفة لا على حقيقتها الفانية.. كان سببًا للخطـأ.
لم يكتفِ بتزيين المعصية وتزييف مصطلحاتهـا، لا بل عودهما على الاقتراب من تلك الشجرة “فدلاهما بغرور” رغم أن الله عز وجل لم يقل لا تأكلا بل قال: “لا تقربا” وهنا حكمة عظيمة يعلمها الله لنـا: أن الاقتراب من الخطأ أو المعصية يؤدي للوقوع فيه، والله علمنا ألا نتبع خطوات الشيطان لأن النفس إذ تتعلق بالله وتخشاه تأبى الإقبال على المعصية هكذا إلا أن تُزين لهـا ثم تألفها الفينة بعد الأخـرى.. وظل إبليس هكذا حتى “ذاقا الشجـرة” .. سبحان الله لم يكررا المعصية ويسرفا على نفسيهمـا بل عادا سريعًا للحق وأنابا

ثم اجتباه ربه فتاب عيه وهدى


“وناداهما ربهمـا ألم أنهكما عن تلكم الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدوٌ مبين”  قالا “ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنـا لنكونن من الخـاسرين” ندمٌ وتوبة يغسل الله بهما الخطـأ ..

ومن جمال هذا الأمر أنهما إذا يعودا عن خطأهما ويقبلان على الله عز وجل يقران بكونهمـا ونحن من بعدهمـا عبادٌ لله عز وجل، هو الله الذي له حق العبادة، له وحده حق التشريع والأمر والنهي لا إبليس ولا أهواءنا ولا قوانين تسنهـا الدولة!

الإعداد للخلافة في الأرض

قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام أخبر الملائكة “إني جاعلٌ في الأرض خليفة” ومن تهيأة الله لآدم ما حدث من غواية إبليس له وتحذير الله لهما من إبليس..
أراد الله عز وجل أن يعلمهما عِظم هذه المسئولية “الاستخلاف” وأن الأمور لن تسير بنقاء وبسـاطة كما في الجنة التي قال الله لهمـا “إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى”

وأن طريقي الخير والشر رغم أن الإنسان يقرر بنفسه والعاقل من يختار ذاك الطريق الذي يفضي به لسعادة أبدية، إلا أن الاختيار ليس سهـلًا ما لم تتبع تشريعات الله عز وجل لتتغلب على هوى نفسك مرة بعد مرة حتى تخضعه وفق مراد الله عز وجـل، ليس سهلًا أبدًا ما لم تؤمن أن هناك معركة أبدية بينك وبين إبليس لعنه الله.. ليست هينة أبدًا ما لم تدرك أنك عبدٌ لله عز وجل تسير وفق أوامره حتى تنال رضـاه، ما لم تدرك أن حب الله وخشيته يجب أن يكونا فوق كل حبٍ وخوفٍ في نفسـك فتترك مما قد تشتهيه نفسك لكنه يُغضب مولاك، ما لم تدرك أن كل اختيارٍ وكل كلمة وكل ما يصدر منك يقابله ثواب وعقاب، جنة ونار، رضـا وغضب

لهذا لما أنزل الله آدم وحـواء إلى الأرض جعل لهما تشريعات يمضيان وبنوهم وفقهـا، ولا يخالفانها إلى ما دونها من تشريعات البشر!

فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.

من أهم مهمات هذه التشريعـات

أنك عبد ضعيف بمفردك أمام الشيطان رغم ضعفه لكنّ ما سرُضعفه؟ سر ضعفه أنه باطلٌ يركن لما دون الله عز وجل فيصبح لا شيء، يصبح كما قال الله عز وجل: “كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون”
إنّ من بلاغة التشبيه ببيت العنكبوت، أنه ينسج خيوطه في بيتٍ مهجور قديم، هكذا القلب يصبحُ واهيًا مهجورًا  ما لم تحيه وتقويه العبادات والقرآن وذكر الله عز وجل
فإذا أنت أيضًا لم تركن لله ولم تعتصم به، فمن أين تستمد قواك، إنك عبدٌ ضعيفٌ لله محتاج، ولهذا كانت تلك التشريعات وكان ” اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم اصلاة “

ضيوف تبيان

يمكن للكتّاب والمدونين الضيوف إرسال مقالاتهم إلى موقع تبيان ليتم نشرها باسمهم في حال موافقة… المزيد »

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى